ماريك ماتوشاك – من ذكريات الزمن الجميل – نضال حمد
شاب بولندي وطالب جامعي عاش معنا نحن الطلبة الفلسطينيين الحلوة والمرة كما يقولون في بلادنا. منذ وطأت قدمي مدينة فروتسلاف البولندية تعرفت عليه ناشطاً طلابياً يسارياً لكن فوضوياً إن صح التعبير. كان فوضوياً بشكل كبير لكنه كان أيضاً صاحب موقف جذري فيما يخص قضية فلسطين، وكان مناصراً حقيقياً وصادقاً في نصرته وتضامنه مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. لم يكن له من نصرته غاية سوى الوقوف الى جانب المظلومين ضد الظالمين والى جانب المكافحين لأجل الحرية ضد الصهاينة المعتدين الذين احتلوا بلادنا فلسطين ولازالوا يحتلونها. في تلك الأيام لم يكن سهلاً أن تجد من يقدم وقته ونفسه للعمل الى جانبك ومعك لأجل قضيتك. لكن آدم قدم نفسه لتلك المهمة التي نجح فيها ومات وهو متمسكاً بها.
عاش حياته الجامعية كما كان يحلو له، حياة صاخبة، مليئة بالسهر والنشاط والتحديات في زمن كان فيه الطلبة البولنديين في غالبيتهم العظمى متشابهين من ناحية الحالة المادية السيئة. فيما كانت أوضاعنا نحن الطلبة الأجانب بغالبيتنا حتى الفقير منا أفضل بكثير من أوضاع الطلبة البولنديين. ففي كنف النظام الاشتراكي الذي كان يحكم بولندا في الحقبة السوفيتية، كانت بولندا تعيش في آخر سنواتها كدولة اشتراكية أزمات حقيقية، سياسية واقتصادية. على فكرة ففي ذلك الوقت العصيب كان بعض الطلبة اليساريين الحقيقيين لا يوافقون الحزب الحاكم سياساته وبنفس الوقت لا يتماشون مع المعارضة البولندية التي كانت تابعة للغرب بشكل عام. بمعنى آخر كانوا عالقين بين المطرقة والسندان. كانوا يجدون فينا نحن الفلسطينيين ملاذاً آمناً وحليفاً في معركة الحرية بشكل عام. وكنا نحن أيضاً لا ندري كيف نتعامل مع الواقع الصعب في بلاد، حزبها الحاكم حليف لنا لكنه بنفس الوقت كان سبباً رئيسياً من أسباب عداء الشعب البولندي له وللاشتراكية الحاكمة في ذلك الوقت من الزمن البولندي والسوفيتي. وكان سبباً في عداء المعارضة لنا لأننا حلفاء له وللاتحاد السوفيتي. لكن في حقيقة الأمر فإن تلك المعارضة لم تكن بحاجة للسبب المذكور لمعاداتنا لأنها كانت أصلاً حليفاً استراتيجياً للغرب الرأسمالي وهو بدوره كان ولازال حليفاً رئيسياً واستراتيجياً للكيان الصهيوني.
عندما وصلت دفعتنا الى فروتسلاف نهاية سنة 1984 كانت أعداد الطلبة الفلسطينيين هناك قليلة لكنها كانت نشطة وفاعلة. ومع وصولنا زادت فعالية وكمية النشاطات الفلسطينية في المدينة. في سكن الطلبة الجامعي تعرفنا الى “ماريك” وآخرين ممن كانوا ناشطين في العمل الطلابي والجامعي أو من خلال منظمات الشبيبة والطلبة. كطلبة فلسطينيين لم تواجهنا أية صعوبات أو عوائق في نشاطنا وعملنا خلال سنوات دراستنا إبان الحكم الاشتراكي، بل وفر لنا الحزب ومؤسساته دعماً لوجستياً وإعلامياً، كما سمح لنا باقامة نشاطاتنا دون اعتراضات. استخدمنا مقرات منظماته الطلابية لاقامة حفلاتنا ومناسباتنا الوطنية. وشارك ممثلون عن تلك المؤسسات تقريباً في كل نشاطاتنا. وكان ماريك دائم الحضور بفعالية ونشاط وحيوية في غالبية تلك المناسبات.
تميزت علاقة ماريك مع الصديقين الفلسطينيين بدر حامد والمرحوم محمد الخوالدة فقد كان لصيقاً بهما بشكل كبير. وكانوا معاً يحيون الليالي الطلابية والأيام الجامعية والسهرات الشبابية. مع بداية الانهيار للنظام الاشتراكي في بولندا سنة 1989 أخذت تبرز في بولندا منصات ومحطات اذاعية وتلفزيونية جديدة غير المحطات الرسمية المعروفة. منها تلفزيون
ECHO
في فروتسلاف حيث حصل ماريك على فرصة عمل هناك مما ساعده في التغلب على مشاكله المادية.
ماريك كان مدخناً شرهاً وشبه مدمن على الكحول. وقليل الاهتمام بمظهره وشكله وأناقته، ترك لحيته تنمو فكنا لا نرى من وجهه غير لحيته ونظارته ودخان سجائره البولندية الرديئة، الذي كان دائم الانبعاث كأنه موتور سيارة يعمل على الديزل ولا يتوقف عن العمل.
ذات يوم قبل نحو 15 عاماً، لا أذكر في أي سنة أو أي شهر علمت من الأصدقاء الفلسطينيين في فروتسلاف أن ماريك توفي. لغاية اليوم لا أعرف سبب وفاته ولا تاريخها ولا أين دفن، في فروتسلاف أم في مكان ولادته الأصلي حيث أنه كان من خارج المدينة، مثلنا نحن الغرباء عنها والذين أصبحنا جزءاً منها خلال سنوات اقامتنا فيها. أذكر أن له شقيقة كانت أيضا تدرس وتقيم في فروتسلاف ولا أعرف ما حل بها بعد التغييرات التي شهدتها بولندا والتحول من الاشتراكية الى الرأسمالية.
اليوم وأنا أنبش في خزان الذاكرة تذكرته وتذكرت تلك الأيام من أواسط سنوات الثمانينات من القرن الفائت. تذكرت رحلتنا بصحبته ومع آخرين وأخريات من فروتسلاف الى مدينة و منتجع “كارباتش” الجبلي، لقضاء عطلة نهاية السنة وحفل رأس السنة الميلادية، هناك حيث الثلوج والبرد والأجواء الاحتفالية الطلابية الصاخبة.
صديقنا ماريك يا من ترقد بسلام منذ سنوات، نعلمك أننا لازلنا ننتظر الحرية والعودة الى فلسطين، تلك التي عملت معنا صادقاً لأجل تحقيقها.
نضال حمد
20-12-2020