فدائيون عراقيون استشهدوا لأجل فلسطين
بقلم نضال حمد
هذه الكلمات كنت كتبتها سنة 2002 ردا على بعض العراقيين من مؤيدي الغزو الأمريكي للعراق الذين شنوا على شخصي وعلى غيري من المعارضين للحرب على العراق هجمات عنيفة وصلت حد البذاءة والتخوين والتهديد.
في هذه الأيام ونحن أمام تاريخ يعيد نفسه لكن هذه المرة في سوريا ومع المعارضة السورية التي تحول بعضها الى نسخة من المعارضة العراقية، تتلهف لركوب دبابات الناتو الأطلسية ودخول دمشق كما دخلها الاستعمار الفرنسي. وقد يذهب بعض هؤلاء الى قبر الناصر صلاح الدين الأيوبي محرر بيت المقدس وقاهر الصليبيين ليقولوا له ها نحن أعدناهم الى بلاد الشام يا صلاح الدين. تماما بخسة ووقاحة كما فعل القائد الصليبي الفرنسي الجنرال (غورو) الذي قصد فوراً قبر البطل صلاح الدين الأيوبي وركله بقدمه وقال (ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين).
الثورة الفلسطينية كانت مكانا تجمعت فيه كل الطلائع الثورية العربية والعالمية. وكان للعراقيين وللسوريين الصدارة في طليعة الثوار والمناضلين العرب الذين التحقوا بالثورة الفلسطينية وفصائلها المنوعة. وبقي السوريون لفترة طويلة من الزمن في طليعة الشهداء التابعين لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن تصبح المنظمة مجرد اسم يستخدم لإغراض في نفس مغتصبيها. ثم يأتي الرفاق العراقيون ليحلوا في مكانة مرموقة وطليعية بين شهداء النضال العربي والأممي لأجل تحرير فلسطين ودفاعا عن الأمة العربية.
في هذه المقالة التي كتبتها قبل عشر سنوات وعلى هامش التحضير للحرب على العراق وتدميره واحتلاله، والتي أَعدت تحديثها اليوم بعد عشر سنوات من كتابتها. كنت كتبت عن بعض الأصدقاء العراقيين الذين استشهدوا لأجل فلسطين ودفاعا عن عروبة لبنان وعن سوريا وصمودها ومن أجل عراق عربي ديمقراطي حر وسعيد… وكنت أعرف بعضهم بشكل جيد. ومن هؤلاء من استشهد ومنهم من مازال حيا يرزق ومازلنا على تواصل معه. كما منهم من خرج ولم يعد، ولا ندري ماذا حل به بعد الرحيل عن بيروت سنة 1982 .
كلكم أيها الرفاق الطيبون، يا أحفاد حمورابي ونبوخذ النصر!! كلكم كنتم من المكافحين لأجل الحرية ولم تتطاولوا على حرية الآخرين بل قدمتم حيواتكم وأعماركم دفاعا عن قيّم العدالة والحرية والمساواة والإنسانية.
كنا يا رفاقي ومازلنا من دم واحد وطين واحد ومن تراب واحد. تجمعنا الهموم المشتركة ولو وقفت ضد سيوفنا كل السيوف والعروش. نعم لأننا من جراحنا في منافي التشرد والعذاب صنعنا ونصنع بلسم الأحباب. ونداوي العليل بالدواء القديم الجديد. دواء التوحد والتجدد وقبول الآخر مهما كان الخلاف معه في التحليل واستنباط اللغة وإيجاد الحجج والمواقف ضد الواقفين على الاتجاه المعاكس. اتجاه المصالح والمنافع سواء مع الأعداء أو الأشقاء الأعداء.. كنا نحمل الغيّم على جفن كل عين فتمطر العيون دمعا و حنين لوطن إما محتل أو محاصر بما يكفيه من الموت والذل والهوان والغطرسة والأعداء من داخله وخارجه.
جيفارا إبن العمارة شهيد البدايات
في نهاية السبعينات من القرن الفائت في جنوب لبنان في معسكر فدائي لكل العرب تابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ولجبهة الرفض الفلسطينية، شاهدت بعيني أبناء الوحدة العربية على خط المواجهة الأول، على جبهة الحرب والقتال مع الصهاينة وأعوانهم المحليين. هناك تعرفت على صابر المغربي القادم من بلجيكا .. وعلى اليساريين التوانسة ومنهم الفنان محمد علي، ورشيد ووليد وآخرين وعلى الإماراتي أبو مرزوق وعلى بحراينيين وعُمانيين، وعلى عشرات من السوريين واللبنانيين والعراقيين… وهناك ولدت صداقة مع رفيق عراقي من بلدة العمارة العراقية الجنوبية وكان أسمه جيفارا. أستشهد الأخ والصديق والرفيق جيفارا في إحدى المعارك بالجنوب اللبناني. فترك موته في نفسي أشد الأثر.
كنا صديقان وكانت الأحلام العربية الثورية الكبيرة همنا وهدفنا الأسمى. وكان جيفارا شابا عربيا وفيا لعروبته، وكان فدائيا مغوارا وشجاعا.. وكان جيفارا من الذين يلتهمون السجائر الإنكليزية التهاما كأنه ينتقم منها انتقاما عشوائيا. منه تعلمت تدخين سجائر “روثمانز” الانجليزية، لكنني تركتها بعد استشهاد جيفارا وعدت لأحراق سجائر ” وينستون”… وفي الختام تركت السجائر ولم أعد اكترث بها.
رحل جيفارا في شباط – فبراير سنة 1979 وصدقوني أنني لغاية الآن لا أعرف اسمه الحقيقي لأنني لم أسأله عن اسمه أبدا، فقد كان اسمه جيفارا وظل هكذا.. فهكذا عرفته وهكذا ودعته. هذا الشاب العربي العراقي، الشهم والأبي، كان فدائيا واستشهد هكذا.
ابو الفهود العراقي .. قائد ميداني ثوري لا يعرف المستحيل
أثناء اشتباك جانبي وفي غير مكانه ومع غير الأعداء الحقيقيين، حيث فرضت عصابات مسلحة متنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية، الاشتباك الجانبي على جبهة التحرير الفلسطينية وقوى تقدمية فلسطينية أخرى… أثناء ذلك نزل أبو الفهود العراقي إلى الشارع العام عند منطقة جسر الليطاني قرب الشبريحا، على الطريق المؤدي من مدينة صور إلى صيدا، كان ورفاقه عاريا من الملابس إلا الغيارات الداخلية، لفوا أنفسهم بالأسلاك والقنابل ووقفوا ينتظرون الجبناء الذين اغتالوا صديقهم بطريقة سوداء. انقضى ذاك اليوم بلا مصائب لأن أحدا من القتلة لم يمر على الطريق.
بعد سنتين من تلك الواقعة التقيت بأبي الفهود في مدرسة الكادر في منطقة شملان في جبل لبنان، وجلسنا هناك مع القائد الميداني المحبوب الشهيد أبو كفاح فهد ابن جنين وجبهة التحرير، الذي عاد مبكرا الى فلسطين. كانت سهرة جميلة ومؤثرة. في آخر الليل أخذنا كلنا ننشد أغنية عراقية جميلة لا زلت أذكر مقطعها الرئيسي ” الليل بتنا هنا والصبح في بغداد..”. بعدها بأربع سنوات أصيب أبو الفهود العراقي في منطقة سوق الغرب بجبل لبنان وهو يقود مجموعة من جبهة التحرير الفلسطينية على الخط المتقدم في مواقع القتال الأعنف بلبنان في تلك الحقبة من الزمن خريف 1983. وكان مع رفاقه يتصدى لعملاء أمريكا و”إسرائيل” في سوق الغرب، حين هاجمتهم ودهمتهم الصواريخ الأمريكية المنطلقة من حاملة الطائرات الأمريكية نيوجرسي، التي كانت ترابط في المياه الإقليمية مقابل شواطئ بيروت ، لحماية الانعزاليين اللبنانيين حلفاء الكيان الصهيوني.
نُقِلَ أبو الفهود إلى المستشفى في دمشق لكنه فارق الحياة بعد فترة لأن أصابته كانت في الكلية وبما أن كليته الأخرى كانت قد استبدلت بكلية صناعية نتيجة إصابة سابقة لم يتمكن من النجاة والحياة.
أذكر آخر ساعات قضيناها عنده في المستشفى بالشام، كنت أنا بدوري عائدا من علاجي بعد إصاباتي في حصار بيروت الشهير صيف سنة 1982، وكان أبو الفهود فهدا رغم معرفته بقرب ساعته وبمعدودية ساعاته.
بعد وفاة أبو الفهود ومن ثم استشهاد الرفيق سمير الكردي وقبله بأيام الرفيق عز الدين شاتيلا، أول المقاتلين الفلسطينيين الذين وصلوا منطقة الشوفيات على مدخل بيروت. جلست وحدي في غرفة مغلقة بمخيم اليرموك، حبست أنفاسي للحظات ثم بكيت لساعات عديدة وبقيا في المنزل عدة أيام. كنت أبكي وأفكر بعد البكاء ثم أعود وأبكي على حالنا المزري، إلى أن أفقت من صدمة توديع الأحبة والأصدقاء. يبدو أنني كنت بحاجتهم لشدة الألم الذي تركه رحيلنا عن بيروت ورحيلهم لأجل العودة الى بيروت والجنوب. لكنهم رحلوا وبقيت مع غيري من الرفاق والأصدقاء نودع من بعدهم الشهداء إلى مقابرهم والأحياء إلى منافيهم التي تشبه المقابر ..
إن حبي للعراق قديم ليس مذ قرأت لأول مرة في حياتي عن ملحمة كربلاء ولا لتاريخية البلد وقرب العقلية العراقية من العقلية الفلسطينية، والتشابه في قوة الشكيمة والاستعداد للتضحية والفداء. لقد أحببت العراق لأن فيه حكايات الفداء والاستشهاد… وفيه عبق الثورة المستمرة. ولقناعتي بأن العراق كفلسطين ولبنان كالعراق، وكلهم كسورية الأم، ولأن بلادنا واحدة بعربها وأكرادها وكل أقلياتها. بعد كل هذا كيف يريدنا البعض أن ننسى دماء أبو الفهود الذي “تكربل” – من كربلاء – مدرجا بدمه من جراء قنابل نيوجرسي اللعينة؟
أبو صطيف والآخرين
القصة العراقية الثالثة تعود لصديق ورفيق عراقي اسمه أبو صطيف كان مناضلا ثوريا في جبهة التحرير الفلسطينية تقطعت به السبل بعدما احتلت “إسرائيل” جنوب لبنان وطردت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت المحاصرة. في ذلك الوقت بقيت وبعض الرفاق الذين لم يرحلوا مع الراحلين بحرا وبرا الى دول أو منافي العرب. بقيت في بيروت مع بعض الرفاق، ثم أصبت ثاني أيام مجزرة صبرا وشاتيلا 17-9-1982. كانت المجموعة التي قاتلت ضمنها دفاعا عن بيروت الغربية والمخيمين تتألف من فلسطينيين وعربا من لبنان وتونس ومصر وسوريا والأردن.
بعد خروجي من مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت سكنت لعدة أشهر في منزل عم لي في مخيم شاتيلا. ثم سافرت من هناك بمساعدة طليانية للعلاج في إيطاليا. بعد فترة من السفر اتصل بي العم أبو إسماعيل حمد من مخيم شاتيلا وقال لي بأن أحد العراقيين من رفاقي الذين تقطعت به السبل وصل الى شاتيلا. وأضاف العم متابعا كلامه: أنا أتكفل به هنا حتى ربنا يفرجها عليه … وهكذا جلس أبو صطيف في دار عمي شهورا عدة إلى أن استطاع الرحيل…
لكن إلى أين رحل أبو صطيف العراقي؟ لا أحد يعرف ولا أنا أعرف …
وأتمنى أن يقرأ رسالتي هذه إذا كان لازال حيا فيعرفني ويتصل بي عبر موقع الصفصاف أو موقع الفيس بوك للتواصل الاجتماعي.
رفاق عراقيون أحياء
هناك عراقيين آخرين منهم من رحل فيما بعد مثل المناضل والأديب والفنان أمير الدراجي الذي عاش معنا في مخيمنا عين الحلوة وخاض كل معارك الثورة الفلسطينية من الأردن الى لبنان. ثم هاجر الى منفى جديد في النرويج حيث توفي قهرا في مدينة كونغسفنجر بعيدا عن مدينته الناصرية في العراق.
كما هناك أيضا رفاق مازالوا أحياء ومنهم من بقي يواصل مسيرة الكفاح ومنهم من تركها واهتم بحياته الخاصة. فتحية لهم… ومن هؤلاء الرفيق القائد أبو اليسار، المناضل الثوري العراقي، الذي قدم سنوات شبابه كلها في خدمة القضية القومية قضية فلسطين… ولازال يواصل النضال.
وتحية لأبي الفتوح وأبو تحسين وأبو مشتاق ومشرق ولكل الذين لم يرد ذكرهم الآن حيث أن ذاكرتي ماعادت تحفظ الأسماء.
قبل خراب مالطة
هذه النبذة عن بعض أصدقائي الشهداء من العراقيين الذين قضوا في معارك فلسطين المجيدة كانت ضرورية للـتأكيد على أصالة موقفي من ناحية العداء لأمريكا. وللتأكيد على نظافة كفي وجيبي وقلمي وسلامة رأيي من ناحية تبني الرأي الآخر، الرأي المخالف للبعض العراقي. لكن هذا البعض الذي باع العراق يمكنه بيع كل شيء، فقوة الهجمة التي طاولتني وتعرضت لشخصي في تلك الفترة الزمنية من بداية التحدي العلني لحرب احتلال العراق ومن أجل سرقة ثوراته وتحويله الى دويلات طائفية وإثنية ومذهبية. لقد كنت أُتهم كما في هذه الأيام من بعض المعارضين السوريين المتأمركين، المعادين لوطنهم وأمتهم، القابلين باحتلال سوريا وتقسيمها وتدميرها مقابل هزيمة النظام الوطني هناك. هؤلاء وأولائك اتهموني و يتهمونني بكل أنواع الاتهامات من العمالة والتسول والارتزاق حتى التعرض لأسمى ما أملك وهي جراحي التي أحمد الله إنها كانت بصاروخ دبابة ميركافا صهيونية وليس بأيدي عربية أو طائفية أو مذهبية. هذا التجني الأخير على تضحياتي وجراحي. لم يبق حكرا فقط على العرب من جماعة الناتو والأمريكان والصهاينة بل استخدمه أيضا فلسطينيون سفلة ومن حثالة شعب فلسطين قضوا سنواتهم يعملون عبيدا لدى بعض الفاسدين والمفسدين في الثورة الفلسطينية، والآن يعملون مخبرين للذين بدورهم يعملون بالتنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني في فلسطين المحتلة. هذه العصابة الفلسطينية التي شهرت بي وهاجمتني فعلت ذلك على نفس الأرضية التي استخدمتها معارضات أمريكا والناتو وكذلك نتيجة خلافات سياسية مع نهجهم السياسي المدمر والذي يواصل تدميره للقضية العربية.
في الختام لن يصح إلا الصحيح وسوف يصحو بعض هؤلاء المغيبين أو الغائبين عن الوعي والعقل والتفكير لكن لا نريد لهم أن يصحوا بعد خراب مالطة.
*ملاحظة: تاريخ كتابة المقالة – أوسلو 18-11-2002 وتاريخ تحديثها أوسلو 02-06-2012
أبطال عملية الخالصة فاتحة العمليات الانتحارية الفلسطينية
الشهيد ياسين موسى فزاع الحوزاني ( أبو هادي) جنوب العراق ـ 1954-
استشهد في 11-4-1974 داخل مستوطنة كريات شمونة
-أبطال عملية ام العقارب العملية الانتحارية الفلسطينية العربية في حزيران يونيو 1974 فيها شهيدان من العراق.
الشهيد أبو الفهود العراقي في قاعدة لجبهة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان