من ذاكرة المخيم وغزو لبنان 1982..الشهيد قاسم حجير بطل معركة شرحبيل – نضال حمد
الشهيد قاسم حجير بطل معركة شرحبيل 1982 – نضال حمد
من ذاكرة المخيم والشهداء وغزو لبنان صيف سنة 1982
ربما كان رفيقنا وابن مخيمنا وصديقنا وأخونا قاسم حجير يتوقع أن يوم السابع من حزيران يونيو 1982 قد يكون آخر أيام حياته إذا نال الشهادة في مواجهة القوات الصهيونية الغازية، ووحدات الكوماندوس والدبابات التي أنزلت في محور كفر فالوس وشرحبيل وعلمان بغية السيطرة على شرق صيدا وقطع الطرق بينها وبين جزين وبيروت. يعني قطع طرق شرق وشمال صيدا لاتمام الحصار عليها وعلى مخيمي عين الحلوة والمية ومية. وللتقدم شمالاً باتجاه الدامور وخلدة وبيروت الغربية. فبيروت الشرقية عاصمة الفاشي بشير الجميل كانت مفتوحة لهم كما بيوتها كانت مفتوحة لجنودهم وضباطهم وجنرالاتهم.
طبعاً في ذلك الوقت من الزمن لم يكن يخطر على بال أحد منا حتى في أسوأ كوابيسه أن يصل الصهاينة الى صيدا خلال يومين من غزو لبنان. وهم الذي وصلوا الى مشارف العاصمة بيروت ومنطقة خلدة في عضون ثلاثة أو أربعة أيام. فكما أسلفنا في كتاباتنا السابقة عن الشهداء الآخرين الذين سقطوا وهم يتصدون للغزو الصهيوني سنة 1982 تفاجئ الجميع بهذا الاندفاع الصهيوني وارتبكوا في تلوقت الذي تكفلت فيه الدعاية الصهيونية والطابور الخامس ببث الهلع والارباك والقلق والانكسار في أنفس الناس وحتى في أنفس المقاتلين.
قال أحد الأصدقاء والرفاق (أبو ابراهيم) الذي أصيب بجراح في مواجهات شرحبيل – علمان والذي حمل الرفيق قاسم وحاول انقاذه بعدما أصيب الأخير اصابات خطيرة في بطنه وامعائه. لكن الاصابة كانت مميتة. سوف أعود للحديث عن هذا الموضوع وحكاية البطل الشهيد قاسم حجير في مكان آخر من مقالتنا هذه.
صورة للشهيد قاسم حجير في السبعينات من القرن الفائت في مخيم عين الحلوة اثناء تشييع أحد الشهداء.
قال لي هذا الرفيق أنه بعدما استطاع الانسحاب من شرحبيل وهو جريح لكن اصابته كانت غير خطيرة، وصل الى مخيم عين الحلوة حيث كانت تدور مواجهات عنيفة مع الدبابات الصهيونية المتقدمة نحو المخيم. هذه الحالة القتالية المخيمية والصمود الذي أبداه شباب المخيم أعادت شحنه من جديد، رفعت معنوياته التي كانت قد تأثرت سلباً بما حصل في شرحبيل وعلمان حيث تُرك المقاتلون عرضة للموت، وحيث وقعوا في كمين صهيوني كان من المفترض أن يكون كمينهم وأن يقع فيه الصهاينة… وحيث فقد هذا الرفيق كل رفاقه الذين كانوا معه وظن أنهم استشهدوا جميعا في تلك الموقعة البطولية. لكن تبين فيما بعد أن فقط الشهيد قاسم حجير هو من استشهد من مجموعة مخيم عين الحلوة. لكن هذا لا يعني أنه لم يسقط شهداء غيره، سقط كثيرون ومنهم شهيد مصور ميداني من فلسطينيي صيدا القديمة كان يرافق القوة الفلسطينية المشتركة، هو عبد الرحمن عبد العال. فقد استشهد بعض أفراد المجموعات المشتركة الفلسطينية في تلك المواجهة، التي كان العدد الأكبر فيها لمقاتلي حركة فتح مع وجود مجموعتين من فصيلين مختلفين، مجموعة الشهيد قاسم حجير وهي من الجبهة الديمقراطية ومجموعة لجبهة التحرير الفلسطينية كان قائدها أخي جمال ومنها قريب آخر لي وصديقي أبو ابراهيم الذي يحدثنا عن المعركة واسستشهاد قاسم حجير قائد مجموعة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في المعركة.
من الشهداء هناك مجموعة من الفلسطينيين واللبنانيين من مدينة صيدا الأثرية القديمة وكانوا كلهم تقريباً يتبعون لحركة فتح، أمن موحد، كتيبة جواد أبو الشعر وكتائب أخرى. كما كان قائد القوة المشتركة من حركة فتح وبحسب أخي جمال اسمه لطيف وهرب منذ البداية وأرسل مكانه ضابط آخر من كتيبة شهداء أيلول. فيما ذكر لي أبو علي أن قائد القوة استشهد أول واحد في المعركة حيث أصيب بطلقة في رأسه وبعد ذلك انفتحت أبواب جهنم على الطرفين الصهيوني وعلى رفاقنا واخوتنا في المجموعات الفلسطينية. هذا الكلام أكده أيضاً أخي جمال عندما قال أن الضابط المذكور كان يتواصل على اللاسلكي مع قيادته ويعد واحد، إثنين، ثلاثة، أربع، خمسة، ستة.. تعاملنا مع الهدف… في تلك اللحظة أصيب الضابط اصابة قاتلة في رأسه. وأنهمرت المقنبلات والرصاص على المجموعات الفدائية من كل صوب وحدب. كما يضيف جمال أنه عندما اجتمعت القوات في صيدا للذهاب الى المواجهة في شرحبيل كان الحج اسماعيل قائد القوات المشتركة في الجنوب ومسؤول حركة فتح على غير عادته بلباسه المدني ومعه سائقه وأتضح أنه كان مقرراً سلفاً الفرار من صيدا الى البقاع مع توجه المجموعات الفدائية الى أرض المعركة.
عند الوصول الى المنطقة توزعت المجموعات التي كانت تتألف من ما مجموعه حوالي 70 مقاتلا غالبيتهم العظمى مزودة بقواذف بي سفن – آر بي جي. لمواجهة الدبابات الصهيونية والمجنزرات والملالات. ذهب أخي وقاسم وابو ابراهيم ومن كانوا معهم في اتجاه فيما ذهب أبو علي في اتجاه آخر، لكن بالقرب منهم. عند الوصول تفاجأ الجميع بوجود الكوماندوس والدبابات الصهيونية بين أشجار الزيتون وفي الكروم. فعند وصولهم وتوزع مجموعاتهم على المنطقة، يبدو أن احدى المجموعات تصادمت فورا مع الصهاينة حين أطلقت قذيفة آر بي جي وصليات رصاص فرد عليها الصهاينة بقوة وكثافة نارية مما كشفهم للمجموعات الأخرى خاصة حيث كانت مجموعة أبو علي. التي استطاعت إصابة جنود وملالات ودبابات وإعطابها فقد كانت محصنة جيداً ضد قذائف الآ ربي جي. كما استطاعوا قتل وجرح عشرات الجنود الصهاينة في تلك المواجهة التي كانت من مسافة الصفر تقريباً.
في تلك اللحظات كانت مجموعة جمال وأبو ابراهيم وقاسم تتعرض لقصف عنيف وتدخل في مواجهة مباشرة مع الأعداء الغزاة. على إثرها أصيب أبو ابراهيم في أذنه وأخذت الدماء تسيل بغزارة فغطت رقبته وذراعه. في تلك اللحظات يقول أخي جمال كان من الصعب حتى أن تلتفت وراءك نظراً لغزارة النيران علينا وكنا منبطحين طوال الوقت. لكن استطعت أن أنظر خلفي فوجدت الرفيق ابو ابراهيم ينزف ظننت أن اصابته في رقبته، ولم يكن ممكنا الوصول اليه رغم قرب المسافة.. فالرصاص كان ينهمر كأمطار الشتاء. في ذلك الوقت سمع أبو ابراهيم صوت قاسم حجير ينادي عليه بإسمه مكرراً النداء أكثر من مرة.. فعرف أنه أصيب ولم يكن يبعد كثيراً عنه، لكنه كان على ما يبدو في وضع أفضل قليلا من وضع صديقه ورفيقه جمال، فقرر التوجه نحو قاسم كي يساعده. ترك سلاحه بالقرب من جمال وكانت الدماء لازالت تنزف من أذنه وتغطي رقبته وذراعه وكان الطقس حاراً جداً. قال لي أنه عندما هم بالتقدم نحو قاسم سقطت قذيفة بينه وبين جمال، يتذكر أنه شاهد قسم من جسد جمال يرتفع ويهبط فظن أن القذيفة قضت عليه.. ولم يكن بنفس الوقت يعرف أي شيء عن مصير أبو علي والآخرين.
في النهاية استطاع الوصول الى قاسم، فوجده مستلقيا خلف جل الزيتون وكانت بطنه مفتوحه وأحشاؤه خارجة منها. كانت اصابته خطيرة جداً. حمله وزحف به لا يعرف كيف تحت الرصاص والقصف. لكن قاسماً لم يستطع الصمود واستشهد متأثراً بحراحه. فتركه هناك واتجه باتجاه معمل الباطون حيث التقى بمجموعة من الأمن الموحد التابع لفتح، انسحب معهم في سيارة وأوصلوه الى مستشفى غسان حمود في صيدا حيث تلقى العلاج وتوجه بعدها الى مخيم عين الحلوة. فوجد الصهاينة قد سبقوه الى هناك .. شارك في معركة جديدة وأصيب اصابة أخرى لكن هذه المرة كانت أقوى بكيثر من الإصابة الأولى وكادت تؤدي الى بتر يديه. لكنه في النهاية تفادى ذلك وتم اعتقاله ووضعه كما آلاف أخرين في سجن معتقل أنصار.
الرفيق والصديق ابو ابراهيم قال لي أنهم عندما وصلوا الى شرحبيل قال له الشهيد قاسم : “إذا أصبت يا صاحبي بجراح لا تخف سوف أحملك وأعود بك الى المستشفى”.. لكن العكس هو الذي حصل فقد أصيب قاسم وحاول صاحبه انقاذه واسعافه الى المستشفى لكنه لم يستطع لأن قاسم استشهد ولأن الدنيا هناك كانت أشبه بالجحيم.
أقرئوا شهادة الرفيق والصديق “ابو ابراهيم” حول المعركة واستشهاد قاسم:
” كنا في القوات المشتركة وذهبنا الى هناك، الى شرحبيل لاقتحام مركز تموضعت فيه ثلاث دبابات صهيونية تم انزالها في المنطقة. كنت أنا وجمال وأبو علي عن جبهة التحرير الفلسطينية وكان قاسم حجير وآخرين عن الجبهة الديمقراطية. دخلنا المكان المتفق عليه وانتظرنا كما اتفقنا ان يتم قصف المكان من قوات الدعم المدفعي والصاروخي ومن ثم بعد ثلث ساعة نهاجم نحن. نزلت بعض القذائف على المنطقة وحتى بعضها نزل حولنا. في نفس الوقت كانت هناك مجموعة من الأمن الموحد التابع لحركة فتح بدأت اطلاق النار عالمكشوف وبدون تخطيط وتنسيق مع الآخرين، لم ينتظروا لحظة الهجوم المشترك وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، اطلاق نار عشوائي. بحسب الرفيق ابو ابراهيم كانت المجموعة تهاجم بشكل مكشوف وليس تسللاً. ويضيف بالمناسبة هم ساعدوني في وقت لاحق على الانسحاب بعد إصابتي بجراح وأوصلوني الى المستشفى. في تلك اللحظة تجهز الصهاينة وشنوا هجوما عنيفا علينا وكانت المفاجئة اننا لاحظنا ربما 30 ملالة ودبابة وليس 3 فقط كما كنا نعتقد. كانوا يطلقون الرصاص بغزارة شديدة ويساندهم الطيران الحربي.
أنا والرفيق جمال ما قدرنا حتى نرفع رأسينا من غزارة الرصاص باتجاهنا. في تلك اللحظة أصبت أنا بكتفي واذني وكان الدم ينزف ساخناً جداً. قلت لجمال لازم ننسحب لوراء الجل حتى نعرف ماذا نفعل وننطلق من جديد. بينما كنت أحكي مع جمال في تلك اللحظة بدأ قاسم حجير يناديني بإسمي.. كان قاسم اثناء تجمعنا قبل المعركة قال لي ” والله اذا أصبت (جرحت) يا صاحبي سأحملك وأعود بك”. قلت للرفيق جمال سأذهب لمساعدة قاسم، زحفت خطوتين الى الوراء، ثم انفجرت قذيفة أمامي في أرض رملية، في تلك اللحظة شاهدت وكأن جسد ومؤخرة جمال انتفضا فقلت ربما القذيفة أصابت رأسه لذا انتفض جسمه كله. نزلت الى الجل خلفنا باتجاه قاسم فرأيت بطنه ممزقا وأحشاؤه خارجة منه .. في تلك اللحظة كان قاسم موجود لوحده ولم يكن معه أي شخص آخر من مجموعته. لا اعرف أين كان الشباب أو ماذا حل بهم اثناء الاشتباك. كان القصف مستمر وعنيف والرصاص غزير، قاسم كان إحتمى وراء الجل أو ربما الإصابة أوقعته خلف الجل. حضنت قاسم وسحبته لمسافة قصيرة وتكلمت معه، لكن كان صوته خافت جداً ويكاد لا يسمع (سمعنا في موقع الصفصاف على الهاتف غصة صوت أبو ابراهيم حين ذكر هذه الكلمات).. أضاف أبو ابراهيم في تلك اللحظة تداركت الوضع، فقد كنت في حالة من اليأس لأعتقادي وجزمي بأن جمال استشهد في القذيفة التي سقطت بيننا. أما أنا فكنت أنزف طوال الوقت والطقس حار جداً .. سحبت قاسم لمسافة جليّن في الكرم لكنه كان أصبح في العالم الآخر ولم يكن هناك أي تجاوب من قبله. لقد استشهد قاسم… أما أنا على الاصابة والجراح والخوف وثقل جسد قاسم، صار قلبي يدق بقوة، وتسلل الى نفسي اليأس خاصة أن سلاحي تركته بالقرب من جمال حيث سقطت القذيفة نتيحة ارتباكي من سماع صراخ قاسم وسرعة توجهي إليه لإغاثته. بعد تيقني من أن قاسم استشهد وجمال أيضا ظننت أنه استشهد وأبو علي لم أكن أعرف أي شيء عنه، تركت جثمان قاسم في المكان وكنت مرهقاً ومتعباً ويائساً وأخذت أبحث عن طريقة للانسحاب).
شهادة فدائي أصيل لا ينسى ولا يسامح ولا يغفر ..
كل من عرف الشهيد قاسم حجير يعرف أنه كان شاباً مندفعاً وشجاعاً ومقداماً وجسوراً ومتحمساً جداً للمواجهة وقتال الصهاينة. كان شخصاً محبوباً من رفاقه وأصدقائه وجيرانه وأهله وسكان حارته.. كان محبوباً من أبناء مخيمه عين الحلوة، حيث كانت عائلته تسكن في حارة الطيرة، بلد الأباء والأجداد في فلسطين المحتلة. لقاسم شقيق أصغر منه أيضاً شهيد، استشهد بعد سنوات قليلة من استشهاد قاسم في شرق صيدا في مكان غير بعيد عن مكان استشهاد قاسم، في مواجهة مع العدو الصهيوني وعملاءه من عصابتي انطون لحد وسمير جعجع.
ماذا أقول لك يا أخي ورفيقي قاسم؟
لو عدت اليوم أنت والشهداء ورأيتم حالتنا واين وصلت فصائلنا وثورتنا ومنظمتنا ربما ستصابون بالصدمة أو تتمكن منكم جلطة تودي بكم جميعاً. كل ما قدمتموه لأجل فلسطين باعه الصغار، تجار ولصوص الوطن والمنفى، الذين سرقوا الثورة والقرار وتسلقوا على التضحيات والعظام والجماجم وقبور الشهداء… الذين أصبحوا أدوات بيد العدو الصيهوني. أفضل لكم ولنا أن لا تعودوا وأن لا تروا شيئاً من جرائم وخيانات سفلتنا وحثالاتنا.
المجد والخلود للشهيد قاسم حجير ولكل الشهداء ونحن على العهد متمسكين بطريق كامل تراب فلسطين. نعاهدك أنت ورفاقك الشهداء على الوفاء كل الوفاء.
نضال حمد في الثاني من آذار مارس 2021