من مخيم جباليا في قطاع غزة في فلسطين المحتلة الى العالم الأوروبي كانت رحلة الرفيق والصديق نافذ قنديل، هذا المناضل الفلسطيني اليساري، الطيب، الشهم والأصيل. للأسف الشديد غدت رحلة باتجاه واحد، إذ لم تشهد عودته الى فلسطين، الى غزة والى مخيم جباليا حيث لازالت تقطن عائلته. فقد عاجله الموت في لحظة خاطفة على الطريق بين مدينتين بولندتين قبل سنوات. حادث سير أودى بحياة الفلسطيني الذي درس القانون والمحاماة في جمهورية بولندا في سنوات الثمانينيات من القرن الفائت. نافذ قنديل كان قنديلا مشعاً بين الفلسطينيين في بولندا، في ذلك الوقت من الزمن الفلسطيني. دفن نافذ في بولندا بعيدا عن فلسطين وعن عائلته وصحبه ورفاقه في مخيم جباليا والمخيمات الأخرى المنتشرة في قطاع غزة، وحتى بعيدا عن رفاقه من الطلبة الفلسطينيين والعرب الذي توفيوا أيضا في بولندا. فقد فرق الموت وفرقت مقابر المدن البولندية بين بعض رفاق الأمس، طلبة الأمس. إذ توزعوا موتاً بين المدن، كما كانوا توزعوا حياةً وعِلْماً ودِراسةً بين نفس تلك المدن بعد الانتهاء من معهد اللغة في مدينة “وودج” البولندية.
وما تدري نفس بأي أرض تموت
نعم لا ندري بأي أرض سوف نموت وفي أي بلد أو مدينة أو مكان أو مقبرة سوف ندفن، وما أكثر قبور الفلسطينيين المنتشرة في كل بقاع الدنيا عنوة عن كل بني البشر. لم يكن نافذ يدري أنه سيموت في بولندا أو في الدنمارك أو في السويد حيث كان يسكن ويقيم قبل وفاته. فقد توفي في حادثة السير وهو يقوم بزيارة عمل الى بولندا. كما لم يكن غيره من رفاق الأمس في التجربة البولندية يدرون أنهم سيموتون هكذا بسرعة وهم مازالوا في مقتبل العمر وريعان الشباب. لكنهم ماتوا في لحظات خاطفة.. تاركين خلفهم حكايات وذكريات سوف نتذكرها ولن ننساها نحن رفاقهم ما دمنا أحياء.
تعرفت على الرفيق نافذ قنديل من خلال تحالف قوى اليسار الفلسطيني في بولندا، وبالضبط من خلال التجمع الديمقراطي الفلسطيني آنذاك الذي كان يجمع أربع فصائل فلسطينية يسارية جمعها التحالف المذكور عقب الانشقاق الذي حصل في حركة فتح وفي الساحة الفلسطينية بعد الخروج من بيروت سنة 1982. وكان نافذ من كوادر الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي قام قادته بعد برويسترويكا غورباتشوف بتغيير اسمه الى حزب الشعب ولازال يسمى هكذا حتى يومنا هذا. وبالمناسبة فإن كل شيء تغير منذ ذلك الوقت، ليس فقط أسماء بعض الأحزاب الشيوعية العربية بالذات، بل تغيرت رؤيتها وسياساتها وتحالفاتها. هل تغيرت نحو الأسوأ؟… أترك الجواب لمن يهمه الأمر.
تغير أيضا قادتها وتبدلوا وتغيرت شعبيتها… بقيت قائمة على التاريخ والذكريات لدى فئة من الناس الذين لازالوا يحملون شعارات الأحزاب الشيوعية العربية، ويعيشون على أمل العودة الى أزمنة لن تعود وإن عادت فلن تعود كما كانت. ولنا عبرة في الدول الأشراكية التي منحتنا إمكانية العلم والدراسة في جامعاتها مجانا ودونما مقابل. فقد اندثرت الى الأبد بسبب أخطائها وسوء التصرف والقيادة وقمع الناس والفساد وأيضا بسبب العداء الغربي الرأسمالي والكنسي الديني لها.
في نهاية شهر نيسان سنة 1986 وخلال الاحتفال باليوم الوطني لجبهة التحرير الفلسطينية الذي أقمناه في مدينة فروتسلاف البولندية الجميلة، حيث كان هناك تجمع طلابي فلسطيني كبير، شارك معنا نافذ في المهرجان وكان حيويا وقام بالدبكة الفلسطينية مع رفاق آخرين منهم من لازال حياً ومنهم من رحل عن عالمنا، كما رحل نافذ في بولندا وفي غيرها من الدول. ميزة المهرجان أنه جمع يومها غالبية الطلبة الفلسطينيين الذين جاءوا من كل المدن البولندية الى فروتسلاف للمشاركة في العرس اليساري الفلسطيني، عرس رفاق الشهيد القائد طلعت يعقوب الأمين العام لجبهة التحرير الفلسطينية ورفاقه الشهداء.
كان نافذ شخصا محبوبا ومتواضعا ومثقفا ومحبا لأصدقائه ولرفاقه. وكان كثير الزيارات واللقاءات مع الطلبة الفلسطينيين القدامى وأكثر قليلا مع الطلبة الجدد. طلبة معهد اللغة البولندية، حيث كانت الفصائل الفلسطينية تحاول استقطاب وتنظيم المستقلين منهم وبالأخص القادمين من الوطن المحتل والأردن. كنت ألتقي بنافذ في كثير من المناسبات السياسية والطلابية وأكثر في مناسبات شخصية وجلسات في المقاهي ومساكن الطلبة، التي كانت تشبه مكاتب الفصائل والتنظيمات الفلسطينية والأحزاب العربية. كنا نقضي سهرات جميلة مع أخوة ورفاق آخرين. نتحدث ونتناقش ونطلق النكات والقهقهات والضحكات، فيما من المطبخ تفوح روائح الطبيخ الفلسطيني (المقلوبة) واللبناني (الكبة النيّة) أو العراقي (السمك المقلي بالسماق) أو السوري (مقبلات ومعجنات) أو اليمني (صيادية سمك وأرز وقهوة يمنية).. أو السوداني (الفول المدمس بالبيض والخضراوات) أو المغاربي حيث في المغرب يسمون البامية ملوخية والملوخية بامية .. تستمر السهرات وتطول ونستمر عرباً وفلسطينيين وأحيانا أخرى طلبة من دول أجنبية وعالمية وطلبة وطالبات بولنديين وبولنديات، نستمر في السهر والجلوس بالذات في عطلة نهاية الأسبوع حتى الفجر. ونافذ الجميل والمضيء مثل قنديل يقهقه ويبستم، يعلو صوته ثم يخفت مثل ضوء القنديل.. وكان نافذ يتحدث كطفل عن المخيم وعن فلسطين. وكنا نبادله الحديث ونسرد على مسامعه قصص النضال والمخيمات.
توفي نافذ قنديل وهو في مقتبل العمر وربما في ذلك حسنة واحدة أنه لم يشهد انطفاء الشعلة التي كانت تضيء قنديل فلسطين ومقاومة شعبها. وانهيار المشاريع الثورية والقومية والوطنية التي عاش في كنفها وناضل لأجلها مثلنا جميعا.
هناك مئات آلاف المناضلين الفلسطينيين من الأحياء والشهداء والجرحى والأسرى الذين تعرضوا لخيانة وقلة وفاء القيادة السياسية الفلسطينية، تلك التي تخلت عنهم كما تخلت عن فلسطين. لكن الوفاء يبقى لدى الأوفياء، فلهم الخلود وعلينا الوفاء كل الوفاء.