أمير الدراجي رفيق الدرب في ذكرى وفاته التي مرت قبل أسبوعين .. نضال حمد
أمير الدراجي رفيق الدرب في ذكرى وفاته التي مرت قبل أسبوعين ..
خيتومة إعتفاد أمير الدراجي – نضال حمد
أمير الدراجي صاحب القلب الكبير والحس المرهف والقلم الشجاع والفكر الانساني الحيّ يمضي الى حيث لا أحد يمكنه العودة من هذا السفر… يترك خلفه بقاياه في غرفة صغيرة، مغلقة، تحيط بها الثلوج من كل الجهات. على مرمى حجر من غرفته المليئة بالأوراق والذكريات والانطباعات والكتابات المبعثرة، تجلس كل من راحيل، بغداد ونينوى، بناته، ملائكته ينظرن من النافذة الى الحصان الأبيض الطائر الذي حمل والدهن ومضى به نحو السماء…
يا أمير الدروب التي أوصلتنا الى النرويج بدلاً من الصفصاف في فلسطين المحتلة والناصرية في العراق المحتل. ترى بماذا فكرت في آخر لحظات البول على هذه الحياة؟ بالعراق، بفلسطين، بالناصرية، بعين الحلوة ورمل شاطئ صيدا الذي تاق لك.. ولساقك المعطوبة بفعل رصاص أعداء الحياة.. بماذا كنت تفكر وانت ترسم على فراشك الأبيض بدمك الاحمر رسوماً لأطفال المخيمات، لراحيل وبغداد ونينوى … أيها الطيب، المُحب، العاشق، الملتزم، المبدئي و الثابت على خط الانتماء للإنسانية، لماذا تمضي بلا وداع؟.. ولماذا تتركنا خلفك ضحايا لوحوش الحضارة المعدنية وفوسفور أمريكا و”اسرائيل”..؟؟
هل تذكر يا أمير، يا أبا جودت ، معسكر النجارية في الجنوب اللبناني ، حيث كنت مع رفاقك تدرب أطفال المخيم؟ نعم إنك تذكر ذلك. فقد كنا في أوسلو قبل سنوات تحدثنا عن تلك الأزمنة بحسرة وألم، وتذكرنا الشهداء من أبي كفاح فهد الى أبي الفهود العراقي وآخرين بالمئات. ثم انتقلنا للحديث عن صديقك الشهيد الشاعر علي فوذة، الذي لازمته ورافقته في تحرير صحيفة الرصيف المتمردة اثناء حصارنا في بيروت. قلت لي أنك عندما قمت بزيارة علي في مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، اشار لك وهو في غيبوبته الى الأعلى فعرفت أنه يريدك أن تحتفظ ببعض اشيائه. مضى علي فوذة وانتهت جريدة الرصيف، وخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت لكننا كلانا بقينا هناك. فكان نصيبك الملاحقة والاعتقال والاذلال ونصيبي الجراح الصعبة فالمنفى.
احتضنك مخيم عين الحلوة كواحد من ابنائه الطيبين وكنت واحداً من أنجب ابنائه المناضلين. لم تنكسر ارادتك ولم تنحنِ للعواصف الكثيرة، بقيت عزيز النفس بالرغم من سيطرة الرؤوس العفنة على أرزاق البشر في المخيم. وبالرغم من تحول المنظمة الى شركة يسيطر عليها قادة المصادفة ولصوص المرحلة.. عشت هناك بلا هوية وبلا جواز سفر سوى هويتك النضالية وجواز سفرك الثوري. بقيت صامداً مع أسرتك حتى ضاقت بك الحياة فهجروك الى النرويج. وهنا التقينا من جديد لنعيد رسم مراكب الأطفال لكن على شاطئ أوسلو.
في بداية شهر ديسمبر 2002 كتبت رسالة منشورة الى الصديق أمير الدراجي وكنت يومها أتعرض لحلمة شرسة من قبل كتَّاب ومنظري الاحتلال الأمريكي للعراق لاحقاً. هؤلاء لعبوا دوراً كبيراً في التحريض على العراق والدعوة لاحتلاله. مع العلم أنني وأمير اختلفنا بالموقف من غزو العراق. من تلك الرسالة أعيد نشر التالي :
” كنت سيفك لأنك كنت سيفي … ألسنا من أب واكثر من أم؟
ومن فكر حر جعل الحقيقة والصراحة شعاراً حتى أتهمونا بالوقاحة؟!
ألسنا من تراب والى تراب سنعود؟
أليست تربتك تربتي وتربيتك مثل تربيتي وتجربتك شبيهة بتجربتي ..؟
ألم تعلمنا الحياة على أرصفة الثورة والمقاومة وعواصم الأحلام الثورية والمدن الفاضلة كيف نتآخى حياةً وموتاً؟؟
كنا نحيا مع الشوك والتراب والعذاب والجوع والفقر والتحدي والتصعلك لأجل الفقراء والبؤساء .. لم نقل أننا أول الرصاص وأول الأقلام لكننا لم نبع ولم نساوم ولا نهادن وما خضعنا للإذلال …
يا رفيقي أمير
لست سوى ظلك الذي أبعدته عنك شمس نهارك المفقودة، ورأس حربتك يوم تكاثرت عليك الكلاب المسعورة.. ولست سوى حافظ الصداقة حتى ولو انقلبت المفاهيم والمواقف والصورة.
أيها الأمير الذي لازالت تحلق عالياً في سماء الغربة وخارج سربك.. أنت عاشق وقد يقتلك حبك.. يا صديقي لن تجد سموئلاً واحداً في عالمك الجديد يحفظ أمانتك.. فأحفظها بنفسك ولا تسلمها لقلمك أو غضبك … “.
جاء رد أمير سريعاً ومنشوراً تحت هذا العنوان (الى نضال حمد : نجابتك يا نضال أوقفت غضبي وحماقتي .. 08-01-2003 ) أنشر منه بعض المقتطفات:
” منذ فترة طويلة وأنا أهرب من دينك يا نضال حمد، وكعادتي كأكبر هارب من الديون كما كنت أفعل بين أزقة المخيمات حيث لا تعذرني أحشاء راحيل وبغداد ونينوى بناتي ملائكتي أن أعود للبيت خالي الوفاض، وها أنتم أهل عين الحلوة تطاردوني بديونكم حتى على الانترنت!! لأنك يا نضال من صخرة سيزيف ثقيلة كم حاولت الهرب منها، ولكن دون فائدة، وقد خدعتك مراراً بوعودي أن أكتب شهادة عنك، فلولا أمثالك لكفرت بفلسطين!!
آه لماذا كل هذا الضمير يطمث بالخصاب بين أفاعي صحراوية لادغة؟
لماذا قدري صادف أمثالك ومنعني عن تفجير غضبي على قاذورات ذاكرة مريرة ومهولة؟ لماذا دائماً أجد الطيبين يراقبون ويمنعون صرختي؟ …
قرأت في “ايلاف” من يشكك بطهارة قديس مثلك، ويتساءل من يدفع لك فضحكت حتى البكاء ثم فكرت أن هذا الكوكب لو أجرى مسابقة بين الأمناء والشرفاء على الذمم لكنت أنجب الفائزين يا نضال، حقاً لو كنت الرب لأمنتك كل أسراري، ولو كنت مشرفاً على أموال البشر لجلعتك أمين صناديق الأمانات. ضحكت من ذلك القرد …
إنني دائماً متسلح بالهاوية، ومجلل باليأس وفي جيوبي على الدوام بعض أقراص للانتحار كلما شعرت بخطر على كرامتي، ففي تاريخ العرب هناك نوع من الإباء المحترم وهو الانتحار ببطء وقد أسموه العرب ” الإعتفاد” بالعين والفاء، فالعربي حين تشح دنياه ولم يقبل مهانة التسول من أجل لقمة العيش يبني على نفسه غرفة مغلقة ويموت جوعاً وانتحاراً، وهكذا ولدت وأنا مشروع إعتفاد دائم ليس بسبب الجوع بل بسبب كراهية عهود البشر وغدرهم وأذاهم”…
وداعاً أيها المعتفد الذي أبكى قلبي بإعتفاده قبيل الرحيل ..
سنظل في مخيمك عين الحلوة نذكرك أنت وكل رفاقك العراقيين والعرب، الطيبين، المناضلين، الذين عاشوا وناضلوا معنا وتحملوا مصاعب الحياة أكثر منا.
كتبت ونشرت أول مرة في 25-01-2009
اعادة تحديث في الثامن من شباط 2021
نضال حمد
- نشرت ضمن كتابي “سأصبح نجماً” الذي صدر في دمشق بطبعتين سنة 2019