الشهيد منذر فتحي الخطيب 1960-1976 – نضال حمد
الشهيد منذر فتحي الخطيب 1960-1976 – نضال حمد
مع اقترابي من الدخول في العقد السادس من عمري فإن ذكريات الطفولة وبداية النشأة في حارات المخيم تعودني وتزورني في لحظات كثيرة، خاصة في هذه الأوقات التي تلزمنا الجلوس في البيوت كثيراً بسبب انتشار وباء كورونا وسياسات التباعد والحجر. لازلت أتذكر الأصدقاء من جيلي الأكبر أو الأصغر مني قليلاً. من هؤلاء كان الأخ والصديق الشهيد منذر فتحي الخطيب، هذا الفتى الذي كان يكبرني بثلاثة أعوام، شقيق صديقي ورفيقي وأخي الراحل وائل فتحي الخطيب.
كنا مع كثيرين من أبناء حارات الصفصاف وعرب زبيد وطيطبة بالذات وغيرها من البلدات مثل سعسع وعلما والرأس الأحمر والطيرة والمنشية والغابسية والسميرية، التي كانت تقع بالقرب من بعضها البعض في مخيمنا عين الحلوة. كنا نشكل فرقاً أو مجموعات من الأطفال والفتية نقضي النهارات الطويلة معاً بعد الانتهاء من الدوام في المدرسة. فعلى مساحة تلك الحارات وبالذات حارتي الصفصاف وعرب زبيد كانت تقام النشاطات الطفولية، ثم تمتد الى النبعة وكروم الزيتون بجوارها مثل كرم أبو نمر. صعوداً الى سفوح تلال مخيم المية ومية، وعند مغارة التايغر والوادي تحت تلة سيروب.
عند الغروب وأحياناً بعد الغروب بقليل كنا نعود الى بيوتنا متسخين، مرهقين جوعانين عطشانين، فنغتسل ونستحم ونأكل ونشرب، ثم نقوم بواجباتنا المدرسية قبل التوجه الى النوم غير آبهين بالحر والرطوبة في فصل الصيف ولا بالبرد والشتاء وأصوات المطر على الزينكو، ولا بالدلفات في الأسقف تتسرب منها أمطار الشتاء لتسقط في أوعية وضعت خصيصا تحتها داخل غرفنا وبيوتنا. ففي تلك الأجواء المخيمية الصعبة حيث لا أحد أفضل من الآخر ولا فرق بين البيوت، كبر وترعرع منذر فتحي الخطيب، الطالب المجتهد والمتفوق، الشاب المتحمس والمندفع، فشعاره كان في ذلك الزمن المخيمي، الثوري والفدائي كما شعار غالبيتنا الساحقة (كل شيء لأجل فلسطين).
في هذا الصدد قال لي الأخ أبو شادي الخطيب وهو ابن عم الشهيد منذر وصديقه منذ الطفولة: “ولد منذر في سنة ١٩٦٠ وكان إنسانا هادئً وديعاً وطيباً. وكان قريباً وصديقاً وزميلاً في الدراسة طيلة مدة الدراسة الابتدائية والتكميلية. هذا عدا عن أواصر علاقات القربى حيث كنا نقضي أوقاتا كثيرة معاً سواء في المدرسة أو خارج المدرسة. كنا نتابع الدراسة سوياً لأنه كان طالباً مجتهداً وشغوفاً بالتعليم. هو إبن الأستاذ المناضل العم فتحي أحمد الخطيب، الذي كان ينتمي لحركة فتح كواحد من كوادرها في المخيم. بعد أن إشتد عودنا وفي زمن الثورة كنا كما معظم أبناء جيلنا نتوق الى الالتحاق بفصائل الثورة، من معسكر الأشبال الى مختلف الأماكن حيثما كان مجالاً للعمل الوطني والتدريب المتواصل، الذي كان يجذب الشباب اليافعين اَنذاك. الى حيث استقر الانتماء لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني في ذاك الوقت، فكانت حياتنا المشتركة زاخرة من الدراسة الى العمل الوطني وكافة النشاطات المشتركة”.
سنة 1975 تصاعد التوتر في لبنان وكانت البداية من مدينة صيدا الجنوبية من خلال احتجاج الصيادين ومزارعي التبغ الجنوبيين. كان على رأس التظاهرات في صيدا النائب العربي الناصري الشهيد معروف سعد، الشخصية المحبوبة والقائد الصيداوي، الذي قاتل الى جانب الزعيم جمال عبد الناصر في فلسطين سنة النكبة 1948 ضمن فوج المتطوعين العرب. أصيب معروف سعد بطلق ناري ادى الى وفاته فيما بعد. ومنذ ذلك الوقت بدأت الأحداث تتصاعد وصولا الى مجزرة بوسطة عين الرمانة التي ارتكبها الفاشيون اللبنانيون حلفاء “اسرائيل” حين قتلوا عشرات الفلسطينيين بدم بارد. كل شيء كان معداً ومخططاً له. ففي 13 نيسان 1975 اندلعت الحرب الأهلية في لبنان. سنة 1976 تصاعدت الأحداث بشكل كبير حين قررت سوريا التدخل، فحدث الصدام السوري مع الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. كانت العصابات الانعزالية الفاشية اللبنانية العميلة جماعة آل الجميل وشمعون، توسع عدوانها على الفلسطينيين والوطنيين اللبنانيين. ثم تطورت الأحداث لتصبح حرباً مفتوحة، فيما أصبح يعرف بالحرب الأهلية اللبنانية. تلك الحرب الدموية التي إمتدت لخمسة عشرة عاما كاملة.
في ذلك الوقت بدأت فصائل المقاومة الفلسطينية بحشد المقاتلين على أوسع نطاق تحت بند التجنيد الإجباري، الذي طال أبناء جيل منذر ومن هم بسن ال 16 عاماً وما فوق. هل كان قرار التجنيد الاجباري الذي اتخذته الفصائل قراراً سليماً؟… هذا موضوع بحاجة لنقاش وطني، علمي وعقلاني موسع. مثلما هو موضوع التحاق الطلبة الفلسطينيين الجامعيين الدارسين من أوروبا ودول العالم بجبهات القتال في اجتياح 1978 وغزو 1982. حيث استشهد عددا منهم.
يقول أبو شادي الخطيب: “كنا شبابا يافعين في السادسة عشرة من عمرنا وفي ذات ليلة كنا نقضي الوقت معاً انا ومنذر في بيتنا. جاء أحد الكوادر من فصيلنا وسأل عني فقط فخرجت دون أن أبلغ عن منذر، وذهبت مع الجماعة الى معسكر التدريب وكان هذا آخر لقاء مع منذر.”.
شهدت تلك الفترة افتتاح معسكرات كثيرة تابعة للفصائل الفلسطينية منها معسكرات لفتح وللشعبية والقيادة العامة والنضال والديمقراطية وجبهة التحرير الفلسطينية. وأهمها معسكر النجارية لجبهة الرفض. هناك تدرب مئات المقاتلين من مخيمات لبنان وبالذات من مخيم عين الحلوة. بعد انتهاء التدريب والدورات توزع المقاتلون على جبهات القتال في جبل لبنان. في هذا الوقت كان منذر التحق بمجموعة تابعة لحركة فتح وذلك عن طريق والده بحكم الانتماء. فوالده الأستاذ فتحي كان من كوادر فتح في منطقة صيدا. مجموعة منذر قاتلت في جبل صنين وتلك المنطقة على ما اعتقد. هناك فقدت المجموعة كاملة ومن ضمنها منذر.
بحسب الصديق والرفيق عبد القادر السيد ابن خالة منذر وصديقه من أيام الطفولة والمعسكر. تألفت المجموعة من عدد من مقاتلي مخيم عين الحلوة صغار السن، بقيادة ضابط من فتح هو الشهيد ريكس، قائد المجموعة، الذي قاتل في الأردن مع الشهيد القائد أبو علي اياد. كان منها الشهداء علي محمود ميعاري من بلدة عكبرة في الجليل ومن مخيم عين الحلوة مواليد 1961. والشهيد محمود عبدالله حمودي مواليد 1960 في مخيم عين الحلوة وهو من بلدة الرأس الأحمر في الجليل الفلسطيني المحتل. وأبو خالد دلاتا من عين الحلوة ومن أهالي الدلاتا بلدته الاصلية في فلسطين المحتلة. كذلك الناجي الوحيد، محمد هاني موعد، ابن صفورية وعين الحلوة. الذي بدوره قال: “أن المجموعة ضلت طريقها اثناء الانسحاب باتجاه مواقع القوات المشتركة في الجبل، وكان ذلك ليلاً. ووقعت في كمين محكم، حيث بدأ اطلاق الرصاص عليها من كل مكان ومن كل الجهات. وأضاف أنه سمع شخرات وزفرات الموت واستشهاد رفاقه، فيما هو وقع في حفرة أنقذته من الرصاص والموت مثل رفاقه. اعتقل محمد وكان الكتائبيون الفاشيون يريدون اعدامه في ساحة البلدة. لكن نتيجة وجود معتقلين كتائبيين لدى حركة فتح غيروا رأيهم وبهذا انقذت حياته مرة ثانية وخرج بالتبادل بين فتح والكتائب. في نفس الفترة الزمينة ولكن في منطقة أخرى بالجبل، هي منطقة عين الصحة، ومع مجموعات أخرى تابعة لجبهة الرفض والجبهة الشعبية تم أسر صديق منذر وصديقنا منذ الطفولة والحارة خالد أبو عنتر، أُسِر من قبل القوات السورية التي كانت تتقدم في الجبل. ثم أطلق سراحه فيما بعد.
عاد المقاتلون الذين خرجوا سالمين من المواجهات الى بيوتهم، ومنهم أبو شادي الخطيب لكن منذراً لم يعد. مع مرور الأيام والأشهر كان الرفاق والأصحاب والأصدقاء يسألون عن بعضهم وعن رفيقهم وزميلهم منذر. لكن الأخير بالرغم من مرور الأشهر والسنين لم يعد وهو لغاية اليوم في عداد الشهداء المفقودين. ترك هذا الفقدان والاستشهاد أثراً وجروحاً بليغة في نفوس كل صحبه وأحبته وخاصة أسرته. لقد شهدنا طوال السنوات الماضية ذلك الحزن والفقد والشوق على وجهي والد ووالدة منذر وكل أهله. إزداد الحزن حزناً مع استشهاد عمه سهيل الخطيب في ظروف غامضة وبأيدي ملطخة بدماء الفلسطينيين. ثم وفاة وائل ووالده تباعاً.
منذ استشهاد منذر وحتى اليوم مرت عشرات السنين. بقينا نحن صغار المخيم والحارة ورفقاء الطفولة والمدرسة والذكريات. بقينا نتذكره.. كبرنا وها نحن على أبواب العقد السادس من عمرنا، وما نسينا رفيقنا وشقيقنا الشهيد منذر، ولا شقيقه الشهيد وائل رفيقا الطفولة والحارة والمخيم والنضال. لن ننساهما، منذر شهيد الجبل وشقيقه الأصغر سناً، شهيد لقمة العيش، رفيق الطفولة والحارة والمخيم والنضال، الراحل وائل فتحي الخطيب.
لكم ولكل شهداء ثورتنا وشعبنا وقضيتنا المجد والخلود يا شهداء عائلة الخطيب، شهداء مخيم عين الحلوة وشهداء فلسطين.. لكم الخلود وعلينا الوفاء.
نضال حمد – 16-3-2021