العم المرحوم أبو غازي حمد – أبو الشهداء- – نضال حمد
ولد في بلدة الصفصاف الفلسطينية سنة 1929 أي قبل ولادة كيان الاحتلال الصهيوني بسنوات. في بلدته التي تقع على سفح جبل الجرمق، فهناك قضى طفولته وصباه. أما نشأته كفتى فكانت في كنف العائلة مثله مثل خلانه وجيله وأخوته وأبناء عمومته وأخواله من أبناء الصفصاف. تلك العائلة أجبرت على ترك البلدة واللجوء الى لبنان بسبب الارهاب الصهيوني، والمجزرة التي ارتكبت فيها وحصدت حيوات العديد من أفراد العائلة والعشرات من أبناء البلدة.
كان العم محمد حمد – أبو غازي – قريب وصديق لوالدي أبو جمال حمد، الذي إسمه أيضاً محمد حمد. لكن اسم جدي أحمد واسم والد العم أبو غازي عبد. كان محمد العبد حمد برفقة محمد أحمد حمد يلهوان في البلدة وعلى سفح الجرمق. ففي تلك اللحظة كانا مع بعض الأصدقاء يتواجدون على تلال الصفصاف، تحت وبين أشجار الزيتون والتفاح وحقول التبغ، وكان جبل الجرمق شامخاً كأنه يصل الأرض بالسماء. كانوا يحرسون الحياة من الموت والأرض من الغزاة.
كثيرا ما كانوا يتوجهون الى الجبل لصيد الطيور والعصافير، التي تتكاثر على السفح وفي الحقول وبين الأشجار والأعشاب، حيث ترقد الصفصاف منذ الأزل في حضن الجرمق. كانوا هناك حين فاجأتهم الطائرات الصهيونية بغارة على البلدة يوم 28-10-1948 وهو يوم الهجوم الصهيوني الشامل على الصفصاف، حصل ذلك الهجوم مباغتة وبعد معارك استمرت من حين لآخر. كان العدو تكبد خسائر فادحة على محور الصفصاف. ربما تلك الخسائر كانت من الأسباب الأخرى الإضافية لوحشيتهم في البلدة وارتكابهم للمجزرة البشعة بحق أهاليها. تلك المجزرة التي أودت بحياة أكثر من 110 أشخاص نصفهم أو أكثر قليلا من رجال وشباب البلدة، فيما الآخرين من بلدات مجاورة للصفصاف.
في شهادته على سقوط البلدة التي كان أدلى بها لموقع الصفصاف ولكاتب هذه السطور قبل سنوات في مخيم عين الحلوة قال لي العم أبو غازي حمد:
” كنا نصطاد الطيور حين أغارت الطائرات على البلدة فعجلنا بالعودة الى بيوتنا لكن كانت المعارك في البلدة قد بدأت”. وأضاف : ” حين وصلت مع (والدك أبو جمال حمد) الى البلدة شاهدنا شاعر ومغني الصفصاف، محمد محمود الزغموت – كان ضمن فرقة الفنان الفلسطيني الشهير نوح ابراهيم – مضرجاً بدمه بعدما أصابته غارة الطائرات. تم حمل الشهيد الى منزل عائلته. لكن الهجوم المتواصل على الصفصاف لم يُمَكِن العائلة من دفنه”.
ربما أن الشاعر والمغني الشهيد دفن في المقبرة الجماعية لأهالي بلدة الصفصاف شهداء المجزرة والصمود.
إذن هكذا رحل شاعر ومغني الصفصاف دون جنازة ولا وداع يليقان به وبمكانته. للأسف لم تتمكن عائلته ولا أهل البلدة من دفنه. فبعض أفراد العائلة حتى لن يتمكنوا من وداعه وإلقاء النطرة الأخيرة عليه.
في ذلك الوقت صمد وقاتل أهل البلدة ومعهم بعض العرب من جيش الانقاذ، وبالرغم من الصمود الكبير، والتمكن من صد التقدم الصهيوني، المسنود بقصف مدفعي وجوي شديد على البلدة. فقد سقطت الصفصاف وسقط عشرات الشهداء من الأبرياء الذين اعتقلتهم وقادتهم العصابات الصهيونية الى منزل “البيك” كبير البلدة وقامت بإعدامهم رمياً بالرصاص وأجهضت فيما بعد على من تبقى منهم جرحى، كما حصل مع والد زوجة العم أبو غازي حمد. فيما هناك أكثر من شخص كانوا جرحى تمكنوا من النجاة من الموت ومن المجزرة. يقدر عدد شهداء الصفصاف بأكثر من ستين شخصا من أهالي الصفصاف، بالإضافة لأكثر من خمسين شخصاُ آخرين من سكان القرى المجاورة، هؤلاء الذين فروا إليها بعد سقوط بلداتهم بأيدي عصابات الارهاب الصهيوني في ذلك الوقت من زمن النكبة.
بعد االنكبة بقليل تطوع العم أبو غازي في جيش الانقاذ العربي وخدم في سوريا وعلى حدود فلسطين. فيما بعد تأكدت النكبة وسقطت معظم قرى ومدن وبلدات الجليل في فلسطين بأيدي الصهاينة المعتدين. فتأكد احتلال اليهود الصهاينة للجزء الأول من أرض فلسطين العربية. مما سبب جرحاً لم يندمل في قلب العم ابو غازي وكل أقرانه.
بعد فترة قضاها في جيش الانقاذ برفقة ابن عمه، العم المرحوم محمد حمد – أبو أحمد في جيش الانقاذ، عاد العم أبو غازي حمد من سوريا الى لبنان وسكن في مخيم عين الحلوة. هناك عمل بجد وكد في سبيل تحصيل لقمة العيش، ثم تزوج من قريبته زهيا قاسم حمد، بنت الشهيد وأخت الشهيد وأم الشهداء فيما بعد. أنجب منها أبناءا خمسة، قدم منهم شهيدان على درب المقاومة والتحرير وثالث عمل طويلا في المقاومة الفلسطينية وتوفي على فراش المرض في مخيم عين الحلوة. وكلهم كانوا في ذلك الوقت في صفوف جبهة التحرير الفلسطينية بزعامة الشهيد القائد طلعت يعقوب. حتى أن المرحوم أبو العبد – غازي حمد – أطلق اسم طلعت على شقيقه تيمناً بالقائد الراحل طلعت يعقوب.
الشهيد الأول عبد محمد حمد بطل معركة التصدي للدبابات الصهيونية الغازية لمخيم عين الحلوة في حزيران – يونيو 1982. إسمه معروف لكل سكان المخيم لأنه أستشهد بطلا وبعدما مع رفاقه الفدائيين ومنهم الشهيد شحادة أيوب أوقعو خسائر بالدبابات والجنود الصهاينة الغزاة.
الشهيد الثاني طارق محمد حمد اغتاله عملاء وهو يصلي في مسجد الصفصاف أو مسجد الشهداء في مخيم عين الحلوة مطلع التسعينيات من القرن الفائت. في ذلك الوقت كان طارق قد ترك جبهة التحرير الفلسطينية والتحق بحركة الجهاد الاسلامي في فلسطين بزعامة الشهيد القائد فتحي الشقاقي.
الثالث هو الغنيّ عن التعريف، أبو العبد -غازي حمد – رفيق النضال والمواقع والمواجهات على مر السنين. غازي الذي قضى جلّ حياته مقاتلا ومقاوماً في صفوف الثورة الفلسطينية المعاصرة وخاض الكثير من المعارك والمواجهات. توفي أبو العبد بعد معاناة مع المرض.
كان العم أبوغازي حمد من الفدائيين الأوئل الذين قاتلوا الصهاينة في نكبة فلسطين سنة 1948 وكما أسلفنا خدم متطوعا في جيش الانقاذ العربي لأجل فلسطين. وقاوم التشرد واللجوء وحياة القهر في المخيمات، وصعوبة الحياة في ظل القمع والتنكيل المخابراتي آنذاك بأهالي المخيمات في لبنان من قبل المكتب الثاني سيء الصيت والسمعة. فالمكتب الثاني اللبناني أي المخابرات كان مكتباً متصهيناً ومعادياً للفلسطينيين. ارتكب عناصره وضباطه عشرات وربما مئات الجرائم ضد أهلنا ومخمياتنا. الى أن جاء يوم 23 نيسان 1969 حين هبت المخيمات الفلسطينية في لبنان وكَنَسَت المكتب الثاني من داخلها، لتعلن بداية العصر العلني للفدائيين وللمناضلين وللثورة الفلسطينية في المخيمات. سقط في تلك الهبة الشعبية العديد من الشهداء منهم من مخيم عين الحلوة: الصفصافي محمد عبدالله شرارة ,آخرين من بلدات أخرى تم دفنهم كلهم في مدرسة المخيم لتعذر دفنهم في جبانة صيدا.
ناضل عمنا الراحل في مخيماتنا ولم يغادرها قط. فمن فلسطين الى اللجوء في المخيم ومن هناك الى القبر. تعرض لاصابة بالرصاص في فترة ما عرف بحرب مغدوشة سنة 1987.
عاش أباً مكافحاً مع شعبه الفلسطيني وفي صفوف الثورة الفلسطينية. وأصيب بجراح عدة مرات. كما قدم أبنائه شهداء لأجل فلسطين كل فلسطين، ورفض واقع السقوط والمهانة والاستسلام لبعضنا الفلسطيني ممن حولوا الثورة الى ثروة، وجعلوا من الاستسلام خيارا رئيسيا بدلاً عن الكفاح المسلح. ثم خانوا الأمانة ووصايا الشهداء وتضحياتهم ودمائهم.
رحل العم أبو غازي حمد عن عالمنا بعد عناء مع المرض تاركاً خلفه وصيته للأجيال الناشئة في مخيمات الصمود والصبر والكفاح، بالنضال المستمر، بلا تعب ولا وهن، وبالمقاومة حتى العودة وتحرير فلسطين كل فلسطين.
على العهد يا عمنا أبو غازي …
نشر في موقع الصفصاف بتاريخ 22-4-2021 – بقلم نضال حمد