قوة الحكاية وسحرها – د. فيحاء قاسم عبد الهادي
ظاهرة ثقافية
لو لم تكن لما حكيت، ولو لم نكن لم تولد الحكاية،
لا تعيش الحكاية إلاّ بنا؛ أنت وأنا،
نحكي لنتواصل، ولنستلهم، ولنتساءل،
نحكي لنحلم بعالم أفضل،
بحكاياتنا نجعل المستحيل ممكناً.
*****
هل يختلف وقع الحكايات علينا حين تتناول مراحل عشناها أو سمعنا عنها؟
هل تفقد سحرها وبريقها وتأثيرها؟ كيف ننظر إلى قصص الماضي الذي لامسنا؟ أو لامس عائلاتنا؟
*****
روى “حمزة العقرباوي”، عن رحلة تهجير “محمد القاضي”، عام 1948، من كوكبا إلى البريج إلى مصر؛ ثم تحدث عن الماضي الأقرب، عمّا حدث عام 1967، وبعدها. ورغم أن القصص التي تحدث عنها الحكواتي قد حدثت في الواقع، وفقاً لرواية الراوي؛ إلاّ أن ما صاحبها من أعمال بطولية أضفت جواً أسطورياً إلى الحكاية؛ الأمر الذي شدّ المستمعين/ات إلى عرض “خير يا طير”، وجعلهم يصغون إلى الحكاية بقلوبهم.
وروت “سالي شلبي” عن تفاصيل حكاية تهجير “رشيدة فضيلات”، من عراق المنشية إلى مخيم العرّوب؛ احتكَّت الحكاية بالحكاية، وذكَّر الماضي بالحاضر؛ لتتواصل عذابات المرأة الفلسطينية المهجَّرة، ولتظهر بالتدريج ملامح قوتها ومقاومتها وصمودها.
*****
حين روى “حمزة” عن عام 1967؛ لم يتحدث عن الهزيمة المريرة التي أحسها “أبو ناصر” ورفاقه فحسب؛ بل تحدث عن مقاومة بطولية، أهملها التاريخ المكتوب؛ لامست أحاسيسنا:
“عندما حصلت المعركة سنة 67، كنت في موقع “حامد”، ما بين معسكر البريج ومدينة غزة. كنا نتحرَّق شوقاً للمعركة. في أثناء المعركة أول طائرة للعدو أسقطها في مدينة غزة “محمد عبد الرحمن كامل أبو ريا”، ثاني طائرة أسقطها العبد الفقير إلى الله، جاءت الطائرات لتقصف موقعنا. نستقبل هذه الطائرات حسب تدريبنا برشاشات، من ضمن الرصاص المستخدم كان رصاص: خارق حارق، أصبت إحدى الطائرات، اشتعلت فيها النار، وأُسقطت بعيداً عن الموقع، في اتجاه معسكر البريج في وادي غزة. هذا في الوقت الّلي كانت إذاعة صوت العرب تقول: أسقطنا 23 طائرة! ولم يكونوا قد أسقطوا ولا طائرة!”.
تابعنا بفخر وإعجاب البطولات التي حدثنا عنها الراوي على لسان الحكّاء، ثم حبسنا أنفاسنا مع عذابات رحلة التهجير التي تلت الهزيمة: “سينا عبارة عن جبال من الرمال، تسمّى سوافي، وإنت تمشي رجلك تغوص في الرمال. بدأنا الرحلة يوم 17 يوليو، عِزّ الحرّ، لو وضعت برّاد فيه ميه تعمل شاي بيغلي، مشوار طويل جداً. لما مرّينا بمنطقة مشهورة بالرّمان، اسمها قطا وقطيّة، وإحنا ماشيين في الليل؛ وصلنا منطقة منخفضة، ما بين سافيتين، دائماً المناطق المنخفضة تجد فيها بعض الماء، يُسمى الثميلة. إيش نعمل؟ قالوا: بدنا نطلع في اتجاه بورسعيد. عشان تِصل بورسعيد فيه منطقة بعيدة اسمها الملّاحات، الرمل كإنه بتمشي على سجّادة؛ لكن بتصير توكل في الرِّجلين، بعد شويّة تبدأ المياه تزداد، تغطّي القدم، شوي تزداد تزداد، إلى أن تصل حوالي الصدر، وكلّها مخلوطة بالأملاح. نمشي نمشي إلى أن وصلنا الشاطئ، عند هذه المنطقة، كان جيش سوداني مسؤول عن المنطقة، رحّبوا فينا. اتصلوا بالقيادة، نقلونا في قوارب إلى بورسعيد، وبعدها إلى القاهرة، كان استقبال رائع”.
وحين روت “سالي” عن معاناة وصمود “رشيدة” عام الهزيمة، استعانت بحسّ الراوية الساخر الناقد؛ لتقارن بين دول عربية ثلاث لم تحتمل الصمود ثلاثة أيام، عام 1967، وبين عراق المنشية، التي قاومت تهجيرها عام 1948 لمدة عشر شهور:
“هي إسرائيل قصّرت؟ إسّع بدنا نحبها ونحترمها؟! بادوا كل الدول العربية، بادوهم، 3 دول ما تحمّلوش 3 تيّام، الّلي إحنا عراق المنشية لحالها 10 تُشهر وهي تحارب في إسرائيل”.
*****
هيأنا الحكواتي والحكواتية لنشارك في رسم تفاصيل الحكاية، لم نعجب حين تحوَّل “محمد القاضي” إلى العمل السياسي المنظم، وغدا قائداً عسكرياً، أو حين قاومت “رشيدة” ظروف قهرها، واستقلت، وأصبحت لها مهنة تعتاش منها.
روى “حمزة” على لسان “أبو ناصر”، قصة التحاقه بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وانتخابه لعضوية اللجنة المركزية، واللجنة العسكرية، وسفره إلى الأردن، ثم إلى بيروت، وتدريبه للمئات من كوادر الجبهة، نساء ورجالاً، كما روى بمرارة سبب اختلافه مع قيادة الجبهة، وانسحابه منها:
“بدأت مع الدكتور “جورج حبش” في محادثات، أطلب منه عقد مؤتمر وطني، لدراسة أسباب هزيمة العمل الفلسطيني في الأردن، ونتخذ ضد كل من يثبت تواطؤه أو عدم كفاءته عقوبات. يوافقني. كنت أحبّه، وواثق إنه بيحبّني، استمريت في هذا العمل عدة شهور، شعرت عدم قدرته على اتخاذ مثل هذا القرار، قلت: أنا مستقيل! هذا كان عام 71، أو 72، قال: خلّي بالك طويل، قلت: أنا نَفَسي انقطع! رجعت على القاهرة. لوظيفتي في إدارة الحاكم”.
وروت “سالي” عن “رشيدة”، عن الظروف التي هيأتها لتأخذ قرارها بالاستقرار في مخيم البقعة، بعد معاناتها كفلسطينية وكامرأة، حين تزوج زوجها بأخرى وطردها: “تجوّز عليّ في عزّ حرب ال 67، في عزّ عازة الزلام، كنت بنت 30 سنة، في عزّ صباي وفي عزّ جمالي”.
وتحدثت عن ذكائها وقوة إرادتها؛ حين قرَّرت أن تستقل اقتصادياً، وتفتح دكاناً تعتاش منه مع أولادها: “أخيِّط الطبِّة ب 10 قروش، أهدِّب حطّات للزلام، وبعدين، جار إلنا في الأردن قال لي: اشّو رايكِ تسوّي لكِ نِتْفِت دكّانة؟ قلت له: كيف؟ بفضل الله، يناولني العشر ليرات، أوفّر لو نصّ ليرة في الشهر، أحطّ في حصّالة، أخيِّط بعشر قروش أخبّيهن، أوفِّر، صار والله معي شوية مصاري، جارنا أخذني على عمّان ورّاني سوق البخارية، وجِبِت شويّة حرير وماركا ومواسير، وجِبت شويّة حُلقان، وخواتم من الفالسو. صار عندي دكّانة وصرت أبيع، صرت أبني، بنيت مطبخ في الدار، عاودت بنيت غرفة، وبنيت الدّكانة، عقدتها عقدة، طوّرتها، والله ملّيتها”.
*****
استحضرت الحكايات الماضي البعيد، ثم الماضي القريب؛ بشكل جميل أخّاذ، من خلال المحاكاة، والقصّ، والموسيقى والغناء. أعادت صياغة لحظات تاريخية مؤلمة، وأخرى مضيئة؛ فكشفت، وذكَّرت، وساءلت؛ مما ساهم في “استعادة مركزية القصة في التعلم والفن والحياة”، وفي الحفاظ على الذاكرة الشخصية والجماعية.