آثار فيروس كورونا وسيكولوجيا خيبة الأمل – د.عامر صالح
لا يوجد سقفا رقميا ولا زمنيا لضحايا مرض فيروس كورونا, وعلى ما يبدو فأنه يحصد المزيد من الأرواح والأصابات والعدوى المستمرة دون تكهنات بالقضاء عليه, سوى تكهنات بعدد ضحاياه المقبلة في ظل استعصاء العثور على علاج له أم سقف نهايته زمنيا, وقد قدر عدد شهداء كورونا بمليون ونصف اذا استمرت الحال بهذا المنحى التصاعدي للأصابات دون العثور السريع على علاج محدد له, فهو ينتقل كالنار في الهشيم, ووفقا لأحصائيات اليوم هناك ربع مليون مصاب واكثر من عشرة ألف وفاة, بل أن بعض الدول المتقدمة اعلنت صراحة أنها لا تستطيع مقارعة هذا الفيروس والقضاء عليه, بل وتبتهل الى السماء لمساعدتها بعد ان تخلت عنها الدول الحليفة والصديقة والمبتلاة بذات الوباء. هذا ليست سيناريو مظلم تفتعله الدوائر المخابرتية والأمنية لزرع الرعب لدى شعوبها, بل أنه علاج الصدمة السيكولوجية الأولى حين تضع الشعب امام هول المأساة لكي يتقبلها ويشد الأحزمة على البطون في محاولة لأمتصاص صدمة كورونا, وهي حالات معروفة في الصراحة مع المريض والمجتمع في امراض اخرى والخطرة منها بشكل خاص, وحتى اعلامه بالموت التقريبي له جراء مرض ما.
وقد قالت منظمة العمل الدولية إن التقييم الأولي لتأثير كورونا على العالم، ستكون آثاره بعيدة المدى، وستدفع الملايين من الناس إلى البطالة والعمل الجزئي وفقر العاملين، وهو ما يتطلب اتخاذ تدابير حاسمة، منسقة وفورية. أشار تقرير صادر عن المنظمة إلى أن الأزمة الاقتصادية وأزمة الوظائف التي أحدثها انتشار وباء كورونا يمكن أن تؤدي إلى زيادة أعداد العاطلين عن العمل في العالم بنحو 25 مليون شخص، وفقاً لتقييم جديد أجرته منظمة العمل الدولية.
واستناداً إلى السيناريوهات المختلفة لتأثير وباء كورونا على نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، تشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى ارتفاع البطالة العالمية بنسب تتراوح بين 5.3 مليون وهو سيناريو “متفائل” و24.7 مليون للسيناريو “المتشائم”، وذلك زيادة على عدد العاطلين عن العمل في عام 2019 وعددهم 188 مليوناً. وللمقارنة، أدت الأزمة المالية العالمية 2008-2009 إلى زيادة البطالة في العالم بمقدار 22 مليون شخص.
ومن المتوقع أن تشهد العمالة الناقصة (البطالة المقنعة) زيادة كبيرة، حيث تترجم العواقب الاقتصادية لتفشي الفيروس إلى تخفيضات في ساعات العمل وفي الأجور. إن العمل الحر في البلدان النامية، الذي يعمل في كثير من الأحيان على تخفيف الأثر السلبي التغييرات، قد لا ينجح هذه المرة في ذلك بسبب القيود المفروضة على حركة الأشخاص (مثل مقدمي الخدمات) وعلى السلع. كما أن تراجع التوظيف يعني أيضاً خسائر كبيرة في دخل العاملين، وتقدر الدراسة هذه الخسائر بين 860 مليار دولار أمريكي و3.4 تريليون دولار مع نهاية عام 2020. وسيترجم هذا إلى انخفاض في استهلاك السلع والخدمات، وهذا بدوره يؤثر على آفاق قطاع الأعمال وعلى الاقتصادات.
ومن المتوقع كذلك أن يزداد عدد العاملين الفقراء زيادة كبيرة أيضاً، لأن “الضغوط على الدخل بسبب تراجع النشاط الاقتصادي ستترك أثراً مدمراً على العمال الذين يعيشون على خط الفقر أو تحته”. وتقدر منظمة العمل الدولية أن ما بين 8.8 مليون و35 مليون شخص إضافي من العاملين في العالم سيعيشون في فقر، مقارنة بالتقدير الأصلي لعام 2020 (وهو 14 مليوناً في جميع أنحاء العالم).
وقد كشفت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية “إسكوا”، أن هناك عواقب وخيمة لتفشي فيروس كورونا المستجد فى الدول العربية وأن هناك نحو 1.7 مليون وظيفة ستفقد خلال العام 2020. وقالت “إسكوا”، أن تقديرات الخسائر الاقتصادية في الدول العربية ستبلغ نحو 42 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي للاقتصادات في هذه الدول مجتمعة. وأوضح الخبير نيرانجان سارانجي، الذي نشرت اللجنة مقابلة معه على صفحتها بتويتر، حيث قال: “هذا ليس استثنائيا لأن النمو العالمي قد تراجع للنصف عما كان متوقعا للعام 2020″، لافتا على أنه قد يتراجع أكثر نتيجة لانتشار فيروس كورونا في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وفي الأسواق النامية. ويذكر أن روجر داو، الرئيس والمدير التنفيذي لجمعية السفر الأمريكية قال في تصريحات لشبكة “سي ان ان” إن فيروس كورونا كبد اقتصاد أمريكا خسائر بلغت 800 مليار دولار، مضيفًا أن صناعة السفر وحدها خسرت ما قيمته 355 مليار دولار.
على المستوى النفسي هناك حالة من الهلع والخوف لما ينتاب البشرية من فقدان للأرواح والأموال وفرص العمل وعدم الاستقرار وبالتأكيد الخوف من عدم العودة الى ما قبل كورونا” وخاصة لدى الدول التي اعتادت على مستويات من الترفيه واشباع الحاجات, قد يكون غير متاح بعد كورونا لسنوات قادمة. تطرأ عدوى الخوف تلقائيًا ودون وعي، مما يصعب السيطرة عليها حقا. وتفسر هذه الظاهرة لماذا يمكن أن نرى نوبات من الهلع الجماعي الذي قد يحدث في الحفلات الموسيقية أو الأحداث الرياضية أو التجمعات العامة الأخرىـ فبمجرد أن يثار الخوف في الجموع، ربما ظن أحدهم أنه سمع طلقات نارية، فلا تشعر المجموعة أن هناك وقتا أو فرصة للتحقق من مصدر الخوف. ويتحتم على الناس أن يعتمدوا على بعضهم البعض، تمامًا كما تفعل الظباء. وينتقل الخوف من شخص إلى آخر، مصيبا كل فرد في طريقه. ومن ثم يبدأ الجميع الركض للنجاة بحياتهم، وفي أحيان كثيرة، ينتهي هذه الذعر الجماعي بالمآسي. ولا تتطلب عدوى الخوف لدى البشر، التقارب أو الاتصال الجسدي المباشر مع الآخرين، فتستطيع أن تقوم وسائل الإعلام التي تنشر الصور والمعلومات المرعبة، بمهمة نشر الخوف بفعالية عالية..
علاوة على ذلك، وكما يقول الأستاذ “جيسيك ديبياك” من جامعة ميشيكان بأمريكا” ففي حين أن الظباء تتوقف عن الركض بمجرد أن تكون على مسافة آمنة من الحيوانات المفترسة، فإن الصور المخيفة التي تبثها وسائل الإعلام، يمكنها أن تبقي الإنسان خائفا، فالشعور بالخطر المباشر لا يهدأ، كما تزيد وتيرة عدوى خوف في ظل الظروف التي تعمل دائمًا على “فيسبوك” و”توتير”، ووسائل الإعلام التي تعمل على مدار الساعة يوميا, سواء بحق أم لترويج خطاب غير واقعي لزرع الرعب.
هذا جزء من حقائق السلوك الأنساني الطبيعية في الأزمات, ولكن أزمة كورونا بما أنها تهدد العضوية الأنسانية بالفناء وعدم البقاء وتجريدها من انجازاتها ومكتسباتها عبر السنين فأن الخوف مشروعا استنادا الى مصدر الخطر وحجمه, وخاصة في الدول التي عودت المواطن على اشباع مستمر لحاجات الأمن والصحة ةالدواء, ومن هنا فأن الدول الديمقراطية تأخرت في أخذ الوباء بالجدية اللازمة، وهذا يحسب عليها وليس لها. ولكن ترددها في فرض منع التجوال والتحكم بحياة المواطنين، واستخدام المناشدة في البداية بدلا من الأوامر وغيرها من المعوقات، هي من مزايا “نوعية الحياة” الأفضل في المجتمعات في غير ظروف الطوارئ. الأنظمة السياسية لا تقيم بموجب سلوكها في حالات الطوارئ، خلافا للبشر الذين غالبًا ما يظهر جوهرهم في حالات الطوارئ. علينا أن نميز بين طبيعة الأنظمة وطبيعة البشر. ولكنه، على كل حال، درس كبير لها أن تكون مستعدة لمثل هذه الحالات.
قد يقود كورونا الى العديد من حالات الوفاة النفسية والتي تحدث بسبب حدوث صدمة نفسية يعتقد الشخص أنه ليس هناك مهرب منها، ويعتقد أن الموت هو الحل الوحيد. وغالبا ما تحدث الوفاة في الثلاثة أسابيع الأولى التالية للمرحلة الأولى من الانسحاب من الحياة. “الوفاة نفسية المنشأ هي حقيقة وهي ليست انتحارا ولا ترتبط كذلك بالاكتئاب، ولكن بالرغبة في التخلي عن الحياة ثم الوفاة في خلال أيام، وهي حالة حقيقية تماما تحدث بسبب الصدمة النفسية الحادة”.. هكذا يفسر الأمر الباحث جون ليتش الباحث بجامعة بورتسموث. ويضيف “ليتش” أن الدائرة الحزامية الأمامية في المخ هي المسئولة عن التحفيز والشروع في السلوكيات الموجهة نحو الهدف، وأن الصدمة الحادة يمكن أن تعطل الدائرة الحزامية الأمامية، فيتعطل التحفيز الذي هو ضروري للتعامل مع الحياة وأوقات الفشل فيها، وبديلا عن هذه المشاعر الإيجابية تصبح اللامبالاة والأستسلام هي السلوك المسيطر، ومن ثم ينسحب الإنسان من الحياة تماما. اليوم تزرع كورونا حالة من الرعب “تتجسد ملامحها بعد كم الضحايا ” بفقدان المعنى وعدم جدوى العيش, وخاصة بعد العجز شبه الكامل لكل جهود الخلاص من كورونا لحد الآن, وخاصة في دول ذات المرجعية في التقدم العلمي والطبي.
بالتأكيد بعد الخروج من وباء كورنا سيجد العالم نفسه مختلفا عن حقبة ما قبل كورونا وعلى مستويات مختلفة, ولعل ابرزها اعادة النظر بصياغة طابع العلاقة بين المواطن والدولة في ظل الأزمات المستعصية, واعادة النظر في العلاقات بين دول العالم المختلفة, وخاصة بين دول الأتحاد الأوربي, واعادة النظر بجدوى التسليح المنفلت والسلاح النووي” اذ كان فيروس كورونا يكفي عن هذا كله, ويستدعي ذلك اعادة النظر انسانيا في ضرورة تعزيز اللحمة الأنسانية بين الدول والمجتمعات المختلفة بعيدا عن طبيعة أنظمتها المختلفة, اعادة النظر جذريا بأنظمة الوقاية الصحية واعادة بناء النظم الصحية لحالات الطوارئ وليست فقط لحالات الرخاء في سياقات طبيعية كما اثبتته تجربة كورونا, الأستدراك الواعي بعدم جدوى القطبية العالمية والضرورة الملحة لتعدد الأقطاب على اساس المصالح المشتركة للشعوب وخاصة في زمن الكوارث وترك الشعوب تختار نظمها السياسية بعيدا عن التدخلات الخارجية, اعادة النظر في الكثير من المفاهيم الأقتصادية سواء على مستوى الأقتصاد الوطني او الأقتصاديات العالمية والنظر في مدى كفاءتها الداخلية اثناء الأزمات, التركيز على البعد الأنساني في مخرجات النظم الاقتصادية بعيدا عن السلوك الربحي السريع والتراكم غير النفعي للأموال وعدم استثمارها في الأزمات. التركيز على التكامل الأقتصادي العالمي بعيدا عن المنافسة المنفلتة, واعتقد ان اعادة النظر سيطال مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة في ضوء بقاء الأنسان كونه هو القيمة العليا.