آن ليند: تستحقّين هذا الاسم – بثينة شعبان
ما قامت به آن ليند الأسبوع الماضي هو أنها ألقت حجراً في مياه راكدة، فهل من يقرأ الرسالة جيداً، ويعيد النظر ليسير على خُطى وزيرة خارجية السويد الراحلة التي قُتلت مظلومة على يد الموساد؟
كان المؤتمر الصحافي بين وزيرة الخارجية السويدية آن ليند ووزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو الحدث المميّز في أحداث الأسبوع الماضي المتشابهة في الصمت عن جرائم الاحتلال التركي والنفاق والسكوت الدولي والعربي عن الحقّ. ولذلك، فهو يستحق وقفةً وتحليلاً وربطاً بما يجري حوله جغرافياً وزمنياً.
ورغم أنَّ الوزيرة كانت هي الضّيفة، وأنها بذلت جهدها لتراعي الأصول الدبلوماسيَّة، فإنَّ هذا لم يكن أبداً على حساب وضوح موقف بلادها والاتحاد الأوروبي، والذي عبّرت عنه بشجاعة وحزم، ففي إيجازها عن المحادثات التي دارت بينهما، قالت: “نحثّ تركيا على الانسحاب من الشمال السوري”، فانتفص وزير خارجية الدولة المحتلة للشمال السوري، ليقول: “لقد استخدمت الوزيرة عبارة يجب التوقّف عندها، إذ قالت: “نحثّ تركيا على الانسحاب من سوريا”، وهذا يعني أننا نحذّر تركيا، والكلمة خطأ، وكان يمكن أن تستخدم ندعو تركيا”.
وبشأن خروقات حقوق السيادة لكل من قبرص واليونان، فقد أثارت أيضاً غضب الوزير التركي الذي بدأ كالعادة بترويج الأكاذيب حول موقف بلاده من قبرص واليونان. وهنا، لم تجد آن ليند بداً من أن تنهي الجدل، ولكن من خلال توجيه ضربة قاصمة إلى منطق مضيفها، إذ قالت: “الجميع هنا يعلم أنَّنا أجرينا مباحثات صريحة ومنفتحة، ولا أريد أن أدخل في سجال هنا، ولكن أتمنى فقط أن يُسمح لكل إنسان في تركيا بأن يعبّر عن رأيه بالحرية التي يعبّر عنها السيد الوزير”، فوجّهت بذلك انتقاداً لاذعاً لملاحقة الصحافيين المعارضين لاستبداد نظام إردوغان الذي زجّ معارضيه في السجون.
ورغم أنَّ موقف الاتحاد الأوروبي من العقوبات على سوريا ومن قضايا أخرى مدان، ولا يأخذ بالاعتبار أبداً مصلحة الشعب السوري، فإن هذا الموقف الأوروبي من الاحتلال التركي لشمال سوريا موقف صائب، لأنه ينسجم مع القانون الدولي، وإن كانت دوافعه بداية القلق من الدور التركي في أوروبا والمتوسط ووسط آسيا، إذ إننا نبحث اليوم فقط عن قول كلمة حق في السياسة، وعن أي موقف جريء يضع النقاط على الحروف.
ونظراً إلى أنَّ هذا الموقف تمّ إعلانه على لسان الوزيرة آن ليند، فلا بدّ من أن نتذكّر هنا أنها تحمل اسم السياسية السويدية الراحلة اغتيالاً بسبب مواقفها الصّلبة في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، آن ليند، التي كانت تنتمي أيضاً إلى الحزب ذاته “الحزب الاشتراكي الديمقراطي”، وكانت وزيرة خارجية السويد من العام 1998 إلى العام 2003، حين تم اغتيالها في 11 أيلول/سبتمبر في ستوكهولم – السويد.
وطبعاً، كعادة الاغتيالات الموسادية، تمّ اتهام رجل مختلّ عقلياً بالاغتيال، لإسكات صوت آن ليند التي عُرفت بمواقفها المؤيدة للفلسطينيين والدولة الفلسطينية وحقّ العودة، وكانت كلماتها في الأمم المتحدة تتميّز بإعلاء صوت الحق الفلسطيني والتحدث عن جرائم الاحتلال (الإسرائيلي). وقد زارت الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر من مرة، وأبدت تعاطفاً إنسانياً كبيراً مع معاناة الشعب الفلسطيني، فهل مصير من يعلي كلمة الحق ويدين الإجرام والاحتلال هو الإعدام أو العزل؟ ألهذا السبب ربما يفتقر عالمنا اليوم حتى إلى توصيف الأحوال كما هي، ويفتقر جداً إلى قادة لا يخشون في الله لومة لائم ويسمون الأشياء بأسمائها؟
إنّ المتأمّل اليوم في أحداث هذا العالم يشعر كأنَّ شريعة الغاب هي المسيطرة، فهل يعقل أن تقوم أقوى دولة في العالم بنهب نفط الشعب السوري عبر الحدود، وأن تسرقه في وضح النهار، بينما يعاني الشعب السوري من نقص حاد في الوقود، من دون أن نسمع إدانة واحدة من الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية العاملة في سوريا، وطبعاً من دون أن يكتب الإعلام الغربي الذي يدّعي حرية التعبير مقالة واحدة تفضح جرائم النهب الاستعمارية هذه، والتي تتم بحماية جيش الاحتلال الأميركي وعملائه من قسد، تماماً كما تم إحراق محاصيل القمح والشعير في الشمال الشرقي، لحرمان السوريين من محاصيلهم وتجويعهم، كي يغيّروا مواقفهم السياسية ويثوروا على حكومتهم؟! هل يعقل أن يصرّح رئيس الولايات المتحدة الأميركية بأننا “بقينا في سوريا من أجل النفط السوري، فهل من معترض؟”، وألا يلقى هذا التصريح المشين استهجاناً واحداً في الغرب كله؟
كما أغلقت عصابات قسد بأمر من أسيادها في جيش الاحتلال الأميركي ألفي مدرسة سورية في الشمال الشرقي السوري، لتحرم أجيالاً سورية من التعلّم بلغتها العربية، من دون أن نقرأ مقالاً واحداً يدين هذا التصرف المجرم، ومن دون أن نسمع إدانة واحدة من الأمم المتحدة أو الدول الغربية التي تتحدَّث دائماً عن حرصها على حقوق الإنسان، وأيّ حقّ أقدس من الحق بالتعلّم بعد الحق بالحياة؟!
نحن لا نتوقّع طبعاً أن تقدم هذه الدول والمنظمات على الدخول في نزاع على المستوى الدولي مع الولايات المتحدة التي تتحكَّم “إسرائيل” واللوبي الصهيوني في واشنطن بإدارتها، ولكننا نتوقّع إعلان مواقف تنسجم والطروحات التي عمدوا على تكرارها في كلّ مناسبة، على أنها تعبر عن مبادئهم في الدفاع عن حقوق الإنسان ومصلحته وحريته في العيش والتعلم والتنقل والحركة.
هل كان لنظام مثل نظام إردوغان الديكتاتوري أن يتجرّأ على احتلال الأرض السورية والعراقية والليبية والأرمنية والقبرصية والقطرية اليوم، وأن ينشر أعوانه في دول أوروبية وآسيوية، لترتكب في الخفاء الجرائم والمؤامرات التوسعية التي سوف يواجهها العالم مستقبلاً، لو أن دولاً في هذا العالم اتخذت مواقف صارمة بالفعل من كل عدوان على الحقوق الوطنية للشعوب التي تعرَّضت لجرائم الاحتلال التركية، ولو عبرت هذه الدول، ولو بالكلمات، عن استيائها من هذه الجرائم العدوانية واتخذت موقفاً منها؟
لقد عبّر وزير نظام إردوغان عن انزعاجه لأنَّ الوزيرة السويدية استخدمت كلمة “نحثّ تركيا”، فما بالكم لو دان الاتحاد الأوروبي هذه السياسات، واتخذ موقفاً صريحاً وحاسماً منها؟ المعنى الوحيد للعولمة اليوم، والَّذي على الجميع أن يفهمه، هو أنَّ العالم برمته في قارب واحد، فإمّا أن يغرق وإما أن يصل إلى برّ الأمان، لأن المرحلة التي وصل إليها عالم اليوم تعني أنه لا يمكن تدمير بلد بمعزل عن وصول آثار هذا الدمار إلى بلدان أخرى، ولا يمكن أن يتم انتهاك الحقوق الوطنية لشعب في بقعة جغرافية من دون أن تصل ارتداداته إلى المناطق الأخرى المجاورة والبعيدة.
وما لم يدرك مسؤولو الدول العدوانية التي تستخدم السلاح والإرهاب والجيوش لقهر الدول الأضعف عسكرياً هذه الحقيقة، فسوف تستمرّ الفوضى وانعدام الأمن والأمان وانتشار الخوف والفقر، بدلاً من الطمأنينة والرخاء للشعوب كافة.
المهم اليوم ليس أن نفكّر فقط في ما سوف تأتي به الانتخابات الأميركية، وفي الجرائم الخطيرة التي يعمل الطاغية إردوغان على ارتكابها عبر إشعال نار الفتنة ونشر الإرهاب في كلّ مكان، ولكن المهم هو التفكير العميق والجاد إلى أين سوف تقود هذه الجرائم والسياسات العالم في السنوات الخمس القادمة، فهذا الطاغية مهووس كهتلر بإمبراطورية تسحق الشعوب تحت وطأة الاحتلال والنهب التركي!
وإذا ما استمرّ الصمت والنفاق على ما هو عليه اليوم تجاه جرائم إردوغان التوسّعية، كما كان الصَّمت والنفاق البريطاني المعروف تجاه هتلر، فأين ستجد كل هذه البلدان نفسها بعد خمس سنوات من الآن؟ وهل ستتمكَّن المواقف حينها من إصلاح ما أفسده دهر من التخاذل والانتظار، من دون القيام بأيّ عمل لتغيير دفّة سفينة البشرية ووجهتها إلى برّ أكثر أماناً واطمئناناً؟
ما قامت به آن ليند الأسبوع الماضي هو أنها ألقت حجراً في مياه راكدة هي أحوج ما تكون إلى التحريك، فهل من يقرأ الرسالة جيداً، ويعيد النظر والتفكير، ليسير على خُطى وزيرة خارجية السويد الراحلة آن ليند التي قُتلت مظلومة على يد الموساد، فليس لأحد مصلحة في قتلها سوى “إسرائيل”؟! وقد دفعت حياتها ثمناً لمواقفها، كما دفع آلاف الشرفاء في العالم ثمناً لمواقفهم الجريئة والصادقة، كي نسير، ولو بخطوات بطيئة، نحو عالم يتمكَّن فيه الأحرار من إعلاء صوت الحقّ من دون أن يدفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم.
آن ليند وزيرة خارجية السويد الحالية اليوم استحقت شرف هذا الاسم الذي ضرّجته زميلتها بدمائها في العام 2003، وتركت شابين جميلين يفتخران بإرث والدتهما المشرّف.
- بثينة شعبان
- 19 تشرين اول 2020
-
– إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً