أبو ماهر اليماني: أعظمُ عـشّاق فلسطين – سماح إدريس
مرّت البارحة ذكرى ولادة أبي ماهر اليماني (24 سبتمبر 1924 – 4 يناير 2011). للجيل الجديد بشكلٍ خاصّ: هنا مقال كتبتُه عنه قبل ساعات من تشييعه سنة 2011، ونشرتْه الزميلة “الأخبار”.
***
أبو ماهر اليماني: أعظمُ عـشّاق فلسطين
سماح إدريس
عصرَ هذا اليوم، سيحتضن ترابُ لبنان واحدًا من أنبل القادة العرب وأطهرِهم وأشجعِهم وأصلبِهم وأشدِّهم عشقًا لفلسطين. ولا يسعُني في هذا الوقت القاتل، الذي تُفْجَع فيه أمّتُنا برحيل أخلصِ خلّصها، إلا أن أخطّ كلماتٍ سريعةً وفاءً لهذا الرجل القدوة.
***
أبو ماهر كتلة من المميّزات الإنسانيّة والقياديّة والأخلاقيّة، أكثرُ ما لفتني منها عنصران رئيسان.
أوّلًا: تنوّعُ مجالات نشاطه في خدمة فلسطين، ولا سيما فلسطينيّو لبنان؛ بل لا نبالغُ في القول إنّه قد يكون أكبرَ مَن خَدم مخيّماتِ لبنان قاطبةً حتى يومنا هذا. وإنّ المرء ليُصاب بالدُّوار من حيويّةِ هذا المناضل الفذّ وتنقّلاته: من تأسيس نقابةٍ، إلى إنشاء مجموعةٍ عسكريّة، أو نادٍ ثقافيّ، أو مؤسّسةٍ تربويّة.
كذلك فإنّ المرء سيعتريه الذهولُ من كيفيّة توصّل أبي ماهر إلى اختراع الوقت لمتابعةِ أعمالِ ما أسّسه: بعينٍ حانيةٍ، وقلبٍ عطوفٍ، وتصميمٍ فولاذيٍ. وهاكم جردة بسيطة ببعض أعماله ومناصبه. وما سيُلحظ فيها، بلا شكّ، هو منحاها التأسيسيّ؛ بمعنى أنّ أبا ماهر لم يكن محضَ مشاركٍ أو تابعٍ، بل كان مسؤولًا (أوّلَ أحيانًا) عن تأسيس عددٍ هائلٍ من الهيئات الفلسطينيّة الشعبيّة والنقابيّة والسياسيّة والعسكريّة والتربويّة.
أ) ففي ميدان التعليم، لم يكتفِ بأن أمضى سنواتٍ طويلةً في التدريس (كليّة التربية والتعليم في طرابلس)، وفي الإدارة (مدارس الأونروا في بعلبك وعين الحلوة وبرج البراجنة)، وفي عمل النظارة (الكليّة الأهليّة في بيروت وبعلبك وثانويّة خالد بن الوليد ـ المقاصد في بيروت)، بل كان وراء فكرة إنشاء مدرسةٍ في برج البراجنة.
كذلك أسهم في تأسيس أنديةٍ ثقافيّةٍ في بعض مخيّمات لبنان.
وعلى الرغم من أنه لم يحُزْ تعليمًا جامعيًّا عاليًا، فإنّ ما اكتسبه من تربيةٍ وطنيّةٍ صادقةٍ داخل المدارس التي ارتادها (سحماتا وترشيحا وصفد وعكّا والقدس)، وبفضل أساتذةٍ أجلاء (كحامد عطاري)، جعله يتيقّن من أهميّة التعليم والثقافة في تحرير الوطن — وهذا درسٌ سنعرضه بشيء من التفصيل لاحقًا، ولا يكفّ أبو ماهر عن التشديد عليه على امتداد مذكّراته الثريّة («تجربتي مع الأيّام»، خمسة أجزاء، عيبال وكنعان، دمشق، 2004).
ب) أما في العمل العسكريّ، فقد كان أحدَ مؤسّسي المنظّمة العسكريّة لتحرير فلسطين (1949)، والفرع العسكريّ في حركة القوميين العرب. ولم يكن ذلك غريبًا، بالمناسبة، على ابن حسين اليماني: فأبوه باع بقرتَه في بداية الثلاثينيّات من القرن الماضي ليشتري بثمنها بندقيّةً، وليلتحقَ بالثورة التي قادها شيخُ المجاهدين (من جَبْلة السوريّة) عزّ الدين القسّام. ولم يكن ذلك غريبًا عليه وقد شاهد، بأمّ العين، وهو فتًى، الآباءَ الفلسطينيين يخبّئون السلاحَ لمقاومة الجيش البريطانيّ ومهاجمةِ المستعمرات الصهيونيّة.
هذا بالإضافة إلى انخراطه لاحقًا في ما سمّاه «اشتباكاتٍ صغيرةً» مع الصهاينة، من قبيل ما فعله في تلّ الرميش ومستعمرة حولون.
ج) أما في العمل النقابيّ، فإلى جانب قيادته نشاطاتٍ عمّاليّةً قبل طرده من فلسطين إلى لبنان، فإنّه كان مؤسّسَ اتحاد عمّال فلسطين في لبنان، ونائبَ الأمين العامّ للاتحاد العامّ لعمّال فلسطين، وأحدَ مؤسّسي الكشّاف العربيّ الفلسطينيّ في لبنان، ومؤسّسَ رابطة الطلاب الفلسطينيين في لبنان، وأحدَ مؤسّسي اللجان الشعبيّة في مخيّمات الفلسطينيين في لبنان.
د) وفي المجال السياسيّ المباشر، كان أبو ماهر أحدَ مؤسّسي شعبة فلسطين في حركة القوميين العرب، والجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، فضلًا عن تأديته دورًا قياديًّا طويلًا ومؤثِّرًا في الجبهة المذكورة (حتى استقالته منها في أوائل تسعينيّات القرن الماضي) وفي «جبهة الرفض» و«جبهة الإنقاذ» واللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة.
زدْ على ذلك ترؤّسَه «دائرةَ شؤون العائدين»، وعضويّتَه الفاعلة في أكثر من عشرة مؤتمراتٍ قوميّةٍ أو فلسطينيّة.
ثانيًا: مناقبيّته الفريدة. لعلّ أحدًا لا يستطيع تلخيصَ أخلاقيّة أبي ماهر العالية أفضل من جورج حبش، رفيقِه في نبلِ الأخلاق قبل أن يكون رفيقَه في السلاح والموقف.
يركّز «حكيمُ الثورة» عند حديثه عن «ضمير الثورة» على الأمور الآتية: نظافة اليد واللسان، النزاهة الأخلاقيّة، التواضع في المأكل والملبس والعيش، الحساسيّة الخاصّة تجاه عوائل الشهداء والأسرى (مقدّمة «تجربتي مع الأيام»، ص 12). ولعلّ الحكيم أدرك خصالَ رفيقه بعمقٍ لا بحكْم دربهما الواحد الطويل فحسب (منذ مطلع عام 1951)، بل لأنّه يشترك وإيّاه كذلك في تلك الخصال أيّما اشتراك. بل لعلّنا نضيفُ إلى تلك الخصال رفضَهما معًا للمناصب حين تتعارض مع قدرتهما على تحمّل المسؤوليّة كاملةً. هكذا يكتب حبش ما يأتي:
«مع حلول عقد التسعينات، أقدمَ أبو ماهر على التخلّي عن جميع مواقعه في الجبهة الشعبيّة ليفسحَ في المجال أمام الجيل الجديد… ليأخذَ دورَه. غير أنّ الرجل لم يتوقفْ عن العمل، بل تابع القيامَ بواجباته الوطنيّة التي شملتْ ميادينَ العمل السياسيّ والقوميّ والجماهيريّ…» (المصدر السابق، ص 13).
هنا لا تفوتنا ملاحظة أنّ الحكيم استقال من مهمّاته التنظيميّة هو الآخر بعد شعوره بالعجز الصحّيّ عن إكمال مهمّاته، طامحًا إلى بناء «مركز الغد» لشرح أسباب الهزيمة العربيّة وسبلِ النهوض على حدّ تصريحه غيرَ مرّة؛ بينما أقدم أبو ماهر على الاستقالة من الجبهة، طامحًا إلى كتابة مذكّراته لتكون عونًا للأجيال القادمة في تلمّس طريقها في خضمّ الصراعات المضطربة.
وإذا كان لي أن أقدّم واقعتيْن سمعتُهما شخصيًّا، ولا تزالان تهزّانني هزًّا حتى اللحظة، تمثيلًا على مناقبيّة أبي ماهر، فستكون الأولى نقلًا عن أبي ماهر نفسه، والثانية نقلًا عن أخيه ورفيقي ماهر.
أما الأولى فهي أنّني زرتُه قبل عدّة أعوام في منزله في الطريق الجديدة، فشكا سوءَ صحّته، فسألتُه لماذا لا يعودُ الطبيبَ، فأجاب إنّ طبيبه (د. إبراهيم السلطي) صديقُه ولا يقْبل أن يأخذ أجرًا منه، وهو لذلك يفضّل ألّا يذهب عنده إلّا للضرورةِ القصوى احترامًا لوقته وصداقته وعمله.
وأمّا الثانية فملخّصُها أنّ الجبهة طلبتْ من ماهر (المقصود هنا أخو أبي ماهر) أن يقبضَ على أحد المشتبَهِ في عملهم ضدّ المقاومة لمصلحة «المكتب الثاني»، فتقصّى ماهر تحرّكاتِه، وحين أيقن أنّه في منزله قبل سطوع الفجر قرع بابَه، ففتحتْ زوجتُه، فاستسلم الرجلُ لمعرفته بعزم ماهر وتصميمِه على الإتيان به مخفورًا مهما كان الثمن. عاد ماهر فسلّمه إلى الجبهة، ليُفاجأ بأبي ماهر يستشيطُ غضبًا وهو يقول: «ألم يكن في استطاعتك أن تنتظر حتى يخرج من البيت بدلًا من أن تُفزعَ عائلتَه وترْهبَها؟ أنسيتَ ما كان يَحلُّ بكم حين يهجم عناصرُ المكتب الثاني على البيت في وسط الليل ليقتادوني إلى السجن أكثرَ من 50 مرّة؟». نظر ماهر إلى أخيه مذهولًا، وأحجم عن حمل السلاح أيّامًا (مع أنه مسؤول عسكريّ ومقاتل).
نعم، هذا هو أبو ماهر، أيّها السادة، وهذه هي التربية التي سلكها ونقلها إلى الآخرين: السلاحُ يُستخدم بأخلاقٍ وشهامةٍ وطهْر، مهما كانت الظروفُ وكان الخصومُ؛ فالغاية لا تبرِّر الوسيلة قطّ.
***
لا بدّ لكلّ مَن يطالع مذكّرات أبي ماهر أن يخرجَ بخلاصاتٍ كثيرة، سأقتصرُ هنا على أبرزها.
1- البعد النضاليّ الفلسطينيّ جزءٌ لا يتجزّأ من النضال العربيّ، مهما كانت شراسةُ تآمر الأنظمة العربيّة، قريبِها وبعيدِها، على القضيّة الفلسطينيّة.
لذلك، ربّما، لم ينجرفْ أبو ماهر وراء شعار «يا وحدَنا» الذي روّجه اليمينُ الفلسطينيّ (ولا سيّما بعد هزيمة 1982) ليبرِّرَ استسلامَه أمام العدوّ الإسرائيليّ والولايات المتحدة.
2- إنّ للوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة ثوابتَ ينبغي أن ترتكزَ عليها، وهي التي تبنّتها قراراتُ المجالس الوطنيّة الفلسطينيّة المتعاقبة والمجلس المركزيّ واللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير، وتقضي بعدم التنازل عن شبرٍ من فلسطين ولا عن حقّ العودة إلى كامل فلسطين.
ولهذا صرف أبو ماهر سنواتٍ طوالًا وهو يصارع المستسلمين داخل منظّمة التحرير، بل وهو يناضل ضدّ بعض «الانحرافات» داخل الجبهة الشعبيّة نفسها على ما يردّد بعضُ العارفين.
3- لا انتصارَ بلا معرفة، والمعلّمُ الشجاعُ هو أساسُ النهضة. وهذا درسٌ لنا، نحن معشرَ الأكاديميين و«المثقفين»، الذين نسينا أو تناسينا أنّ شهاداتنا ومعارفَنا ليست وسيلةً للتباهي والتبجُّح، بل لخدمة الناس والمجتمع والأمّة، ولمواجهة الإدارة الظالمة أو المتقاعسة.
لم يتردّدْ أبو ماهر لحظةً في عصيان إدارة المدارس التي عمل فيها حين رأى فيها تهاونًا بحقّ فلسطين والطلّاب (ولا سيّما مدارس الأونروا)، فطُرد أو سُجن جرّاء ذلك. فكم عددُ أساتذتنا اليوم الذين يؤْثرون السلامة على المواجهة مع الإدارة؟
***
اليوم يَحْملك طلّابُ المخيّمات والمقاصد وبعلبك وطرابلس وصيدا وبيروت يا أبا ماهر. ويسير بك أحفادُ جورج حبش ووديع حدّاد وغسّان كنفاني وأبي علي مصطفى وتلميذِك النجيب ناجي العلي. وسيردّدون جميعُهم، في قلوبهم، كلماتِك البسيطةَ المفعمةَ بالتحدّي والأمل:
«سأعود إلى أرضي الحبيبة، بلى سأعود. هناك سيُطوى كتابُ حياتي، سيَحْنو عليَّ ثراها الكريمُ ويؤوي رفاتي. سأرجعُ، لا بدّ من عودتي!»