أحمد الخطيب طفل من جنين
نضال حمد
لم يكن الصبي الفلسطيني أحمد إسماعيل الخطيب (12 عاماً، من مدينة جنين) يدري أن صباح ذاك اليوم من العيد سيكون آخر طلعة شمس في حياته، وأن صلاة العيد تلك ستكون صلاته الأخيرة كما عيده الأخير، وأن ما قاله لأمه ممازحاً: ” أنا ذاهب ويمكن أن أستشهد “، حيث كان كتب أيضاً على باب خزانته ” الشهيد البطل أحمد إسماعيل الخطيب “، سيصبح حقيقة كان هو نفسه يجهل فظاعتها…
كان الفتى أحمد يمزح لكن جنود الاحتلال أعداء الفرح والمرح والطفولة في جنين ونابلس ورفح لا يوجد في قلوبهم مكان للمزاح، ولا ندري إن كانوا يملكون قلوباً حية كما كل الناس، أو أن لهم أبناءً وأطفالاً يلاعبونهم ويلهون معهم ويطلبون لهم الحياة ما استطاعوا لذلك سبيلاً…
هؤلاء الجنود من طينة أخرى. إنهم قتلة وشياطين على هيئة بشر. هؤلاء أحفاد وجنود يهوشع الذي عرفته كتب التاريخ مدمراً وهادماً وجزاراً في مدينة أريحا التاريخية، أول مدن التاريخ البشري، حيث حضارة شعب كنعان بالأمس وشعب فلسطين اليوم. هؤلاء الجنود مدججون بالأسلحة الأمريكية الأحدث، ومزودون بأفضل وأخطر وأفتك ما في تلك الترسانة القاتلة من أسلحة القهر والموت والدمار.
هؤلاء الجنود لا رحمة في قلوبهم ولا شرف في عقيدتهم ولا إنسانية في تربيتهم، ورغم هذا يتسلمون المساعدات الأمريكية بشكل منتظم، مع أن الذي يدفع ثمنها، أو يساهم بدفع ثمنها، المواطن الأمريكي، دافع الضرائب، مما يعني أنه شريك في الجريمة من حيث يدري أو لا يدري. لذا فإن كل من لا يقاطع البضائع (الإسرائيلية) والأمريكية يعتبر أيضاً مشاركاً بتفاوت في حصول الجريمة، وفي تمكين (إسرائيل) من الحصول على الأسلحة الأمريكية وبناء ترسانتها العسكرية.
صباح اليوم المذكور وبينما كان الطفل أحمد يلهو في الحارة بمسدسه البلاستيكي “اللعبة” عاجله الجنود بوابل من الرصاص فأردوه قتيلاً. ثم برروا فعلتهم الشنيعة تلك بحق الدفاع عن النفس وحماية أمن محمية (إسرائيل) الصهيونية. وبعد أن توفي الفتى أحمد في المستشفى متأثراً بجراحه، صرح ناطق بإسم جيش الاحتلال بأن الجيش يعرب عن أسفه للحادث.
هكذا وبكل بساطة يعربون عن أسفهم لقتل صبي لم ينهِ عامه الثاني عشر، كل ذنبه وجريمته أنه كان يلهو بمسدس بلاستيكي قرب منزله في حارة من مدينة جنين في الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة. مما يعني أن الطفل أحمد كان في وطنه وأرضه ومدينته وحارته وبيته يحتفل بهدية العيد، بينما القتلة كانوا من الغزاة واللصوص الذين دخلوا المنطقة عنوة وبلا ترخيص وبدون إذن بغية إيقاع الأذى والاعتداء على السكان وتخريب احتفالاتهم بالعيد.
من الناحية الأخرى فإن التعليمات العسكرية الصهيونية التي تسمح للجنود بإطلاق النار على أي فلسطيني من الكبار والصغار بغية الدفاع عن النفس وعن أمن “إسرائيل” كما يدعون هي العامل الأساسي في الإرهاب والتجاوزات التي يقوم بها الصهاينة في فلسطين المحتلة. إذ هناك تعليمات عسكرية واضحة ومعلنة ما زال وزير الدفاع (الإسرائيلي) موفاز وأركان حربه يرددونها كل يوم، وهي تقضي بإطلاق الرصاص للقتل، وليس لإيقاف أي مشتبه به. وعلى هذا الأساس يتم استغلال تلك الأوامر في تصفية وقتل وإرهاب المواطنين الفلسطينيين من الجنسين ومن الصغار والكبار.
إذا ما عرفنا أيضاً أن المحاكم العسكرية وحتى المدنية الصهيونية تبرئ الجنود والضباط (الإسرائيليين) من التهم التي توجه لهم، حول ارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الضفة الغربية وقطاع غزة وحتى في الجليل والمثلث والنقب، حيث هناك مئات الجرائم المماثلة وحتى الأخطر والأكبر التي ارتكبها جنود وضباط وقادة ووزراء ورؤساء وزراء صهاينة ضد الشعب الفلسطيني، كل ذلك كان ولازال يمر بدون عقاب أو حساب في الداخل أو الخارج.
والمؤسف حقاً أن ما يطبق دولياً على يوغسلافيا ورواندا والعراق وليبيا وسوريا والفلسطينيين لا يستطيع أحد تطبيقه على محمية الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة. وذلك لأن أمريكا ومعها جوقة المزيكا من البلاد التابعة والخانعة والخاضعة يرفضون ذلك.
لو قمنا بوضع الانتهاكات (الإسرائيلية) والجرائم كلها هنا، لما استطعنا عدها وإحصاءها بدقة، هذا لكثرتها ولتداخلها ولتورط معظم قادة كيان الصهاينة الأموات والأحياء فيها. فمن شارون ورابين وبيريس وبيغن وشامير وباراك ونتنياهو وديان ومائير وموفاز ويعلون وبن اليعازر من قادة الصف الأول، إلى الضباط والجنود الذين أعدموا وسحقوا وقتلوا المدنيين الفلسطينيين بدماء باردة على الحواجز وفي المخيمات والمعابر والحارات، وحتى في المدارس والبيوت والأسرة، حيث تم قتل الأطفال والعجزة والمقعدين بأساليب وحشية وقذرة.
لازال العالم يذكر كيف قام البلدوزر (الإسرائيلي) بدفن مقعد فلسطيني تحت أنقاض منزله في مخيم جنين، وكيف أن بلدوزراً آخر قام بقتل الناشطة الأمريكية راشيل كوري في وضح النهار وعلى مرأى من كاميرات الصحافة، وكيف أن الجنود (الإسرائيليين) أعدموا الطفل محمد الدرة وجرحوا والده في واقعة بشعة شهدها العالم متلفزةً ومنقولةً نقلاً حياً من مكانها في قطاع غزة، وكذلك عملية إعدام الطفلة إيمان الهمص في رفح، وقتل الطفلة إيمان حجو في سريرها، وقنص الطفلة سارة وهي جالسة في السيارة خلف والدها.
هناك مئات القصص التي يندى لها الجبين، والتي لو حدثت معكوسة، ومع يهود أو غربيين أو أمريكيين أو غير عرب فلسطينيين، أو لو كنا نعيش في عالم مثالي وغير منحاز للصهاينة، لكانت أسقطت حكومات وبدلت قوانين وهزت عروش وهزمت جيوش.
لكنها للأسف تحدث في فلسطين المحتلة، ويقوم بها الذين يحتلون تلك الأرض من وحوش واحة الديمقراطية الصهيونية في الشرق الأوسط، والتي للأسف لازالت غير خاضعة للقانون الدولي، وتحميها قوانين غريبة وعجيبة تكيل بمكيالين، غير عادلة وغير منصفة، يسنها قادة عالم تابع لكل ما تريده محمية الصهاينة في فلسطين المحتلة. وهذا ما يؤكده الواقع المرير من سنوات العيش في ظل الحراب الغريبة وتحت رحمة الاحتلال، وفي المنافي والشتات واللجوء والعدوان والحروب.
نقول لعائلة الطفل الشهيد أحمد الخطيب: حتى نزوعكم للسلام لن يقبلوه ولن يرضوا به، لأنهم باختصار لا يريدونكم سوى أذلاء وتابعين لهم، خدم في مستعمراتهم وعبيد في مصانعهم وتحت حكمهم العنصري، فهم الذين أعلنوا وكرروا مراراً أن دولتهم لليهود فقط، مع أنها مقامة في بلاد العرب وعلى أرض العرب، كما أن هناك جزءاً كبيراً من السكان هم من العرب.
كلامهم يعني بصراحة ووضوح أن تعريف الدولة لليهود فقط يعني أنها دولة عنصرية. والعنصريون لا يقدرون حتى مثل تلك الوقفة المقدسة التي وقفتها عائلتكم تعبيراً عن رغبتها بالسلام الحقيقي وعن رفضها للغة القتل والإرهاب.
يمكننا القول أنه حتى قيام العائلة الفلسطينية بتلك المبادرة الإنسانية الكبرى والعظمى، والتي تمثلت بتوزيع أعضاء جسد الطفل أحمد على ستة مرضى (إسرائيليين) بينهم خمسة أطفال وامرأة قد لا تساعد في تعزيز وترسيخ مفهوم السلام، لأن السلام الحقيقي يجب أن يرتكز على ثقافة إنسانية. وهذه الثقافة لازالت غير متوفرة في المجتمع الاحتلالي- الإحلالي في محمية (إسرائيل) العنصرية.
نحترم قول والد أحمد خطيب من أن: “إنقاذ الأرواح أهم من الخلاف العقائدي”، وأنه يشعر أن “ابنه دخل قلوب كل (الإسرائيليين)”، وأنه “يشعر بفخر بالغ أن أعضاء ابنه ساعدت ستة (إسرائيليين)”، وأنه اتخذ هذا القرار ليرسل رسالة إلى العالم فحواها: أن الشعب الفلسطيني يريد السلام للجميع.
ونحترم بنفس الوقت وبنفس المقدار ما قالته والدة الطفل أحمد، السيدة عبلة الخطيب: أنه ليس لدى العائلة أي مشكلة في التبرع بأعضائه سواء لفلسطينيين أو (إسرائيليين) مادام سينقذ أرواحاً.
إن تلك الوقفة الكبيرة واللفتة الإنسانية الطيبة من عائلة نكبت بفقدانها طفلها فجأة وبموته قتلاً برصاص جنود لازالوا يتمتعون بممارسة إرهاب الدولة، تعتبر لفتة إنسانية فوق العادة، وعملية إنقاذ لحياة ستة من المفترض أنهم من الأعداء. ومن يدري، فقد يكون من بينهم من هم من أهالي القاتل الذي كان بوسعه حماية نفسه بإطلاق الرصاص على ساق أو يد الطفل لا على رأسه.
حقيقة أن القاتل تعمد وتقصد القتل، وبالرغم من أن عائلة الطفل الشهيد أحمد تفهم ذلك جيداً، إلا أنها تبرعت بأعضائه التي قد ينالها أحد أبناء الجنود العابثين بحياة أطفال فلسطين، أو أحد أقرباء القاتل، أو معارفه، أو جيرانه، القاتل الذي يمارس هواية صيد وقنص الضحايا الفلسطينيين.
بالرغم من عدم شعورنا أو إحساسنا بأي بريق أمل، نقول بأننا نأمل أن تحقق عائلة الفتى الشهيد أحمد خطيب غايتها الإنسانية النبيلة. لكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح، فالأمل شيء جميل وكبير، لكن الواقع الذي عاشه ويعيشه الشعب الفلسطيني مع وحوش الاحتلال شيء آخر تماماً، فوحشيتهم تبقى أكبر دليل على انكسار الأمل الفلسطيني بسلام عادل وحقيقي لو افترضنا أن هذا السلام أصلا فيه عدل. فعلى صخرة الاحتلال وقسوته وعنصريته وكراهيته للعرب والفلسطينيين لا أمل في سلام ولا في رحيل الاحتلال.
06-11-2005