أخي الحبيب بسام.. سرب الطيور الغريب يذكرني بك .. – ماهر رجا
هنا في بلاد غابات البتولا والليالي الموحشة الطويلة، حيث يأتي الصباح من سماء غائمة كمخيلة السفن التائهة في عرض البحر، تتحرك بوجل آخر خيوط الدفء الناجية وسط الطبيعة المتأهبة للشتاء .. الندى الهش على الأعشاب من أنفاس الأطياف التي ظلت تجول الطرقات مستوحشة حتى الفجر، وعلى الأشجار رداء العاصفة الممزق من ليلة الأمس.
الشتاء يشبه الغياب في هذه البلاد، رمادي كصورة قديمة بالأبيض والأسود، ويهوى الأماكن الخالية كحارس للفراغ، ويحل معه الليل مبكراً حيث يجلس كمتشرد مع الذكريات تحت نوافذ البرد، فلا لا يعود الفصل الماطر شاعرياً ولا عابثاً رائعاً بموسيقا الروح وورود الفوضى العاشقة في النفس، ربما أيضًا لأنه ليس قصير الزيارات كما في بلداننا.
أنت تعرف ذلك من ذكريات السنوات التي قضيتها في بولونيا حيث غالباً ما تأوي الشمس إلى جبال الثلج وتتبادل الفصول الأدوار في اليوم الواحد، لكنك لم تكره الشتاء على الرغْم من ذكرياتنا القاسية عنه في النسخة الطينية القديمة من مخيمات اللجوء الفلسطيني. كانت احتمالاته الشاعرية أقرب إلى خيالك حتى قبيل وصوله، منذ أن يخطو صوت فيروز الصباحي كطفلة البهجة الغامضة على الورق الأصفر في طرقات “ذهب أيلول”، إلى مشهد أسراب الطيور المهاجرة التي لطالما نظرت إليها في البلد البعيد كما قلت لي يومًا، بقلب حائر: غرابة ذلك السفر الذي لا يتوقف كل عام، وتلك الأشكال السحرية التي ترسمها الأسراب في السماء، لوحة الوحشة الرائعة كما أسميتها، والقدرة المحيرة للطيور في الإحساس باقتراب قوافل الرعد والغيم الأسود المحملة بالبرد الفاتك ومواعيد الثلج.
بيني وبينك شتاء قادم الآن، شتاء السنة الثالثة بعد الغياب.. بيني وبينك أيضاً مسافة أطول مما تبقى من العمر وأقصر بآلاف المرات من شوقي إليك.. وبيني وبينك رحلة سرب الطيور الذي ظهر هذا الصباح في سماء المدينة يرفرف بإيقاعات هادئة كالتأمل، وفي الرحيل حسرة الأجنحة.
على أسْطح القرميد ترك السرب المسافر ريش الذكريات الصيفية وقلب الطائر الذي مات ليل الأمس في العاصفة.. وكلما ابتعد كلما غدا غريباً، لا تعيده الأغاني ولا الأمنيات..
يرفع العابرون رؤوسهم إلى الأعلى. يتمهل رجل عجوز ويتنهد متذكراً أنه رأى المشهد ذاته مع زوجته التي رحلت في الشتاء الماضي.. تتذكر امرأة حبًا خاسراً .. ينادي طفل على السرب: يا طيور خبئي لي قطعة زرقاء من السماء الدافئة من أجل طائرة الورق!
وأنا أنظر إلى السرب وأفكر أنه ربما سيمر من فوق مرقدك الأخير..
أنت هناك وأنا هنا في بقعتين موحشتين، وأشعر أحياناً أنني أنت هناك وأنك أنت هنا..
أيها الحبيب، الخفيف الروح، المؤنس بحضورك، السخي بقلبك، هل سقى قبرك اليوم مطر عابر؟ هل انتبهت لزهرة برية كشمس أيلول طالعة قرب رأسك؟ إنها زهرتك في قلبي.. ولن تذبل أبداً.
الشاعر ماهر رجا
دمشق 27-9-2023