أزمة النظام السياسي الأميركي: هشاشة الديموقراطيّة؟ – أسعد أبو خليل
لو كانت هناك عدالة على هذه الأرض (أو في السماء)، لكان يحقّ لكل سكّان الأرض الإدلاء بأصواتهم في مسألة تقرير الرئاسة الأميركيّة، لأن أميركا تقحم نفسها في كلّ شؤون الدول، إلى درجة أنّها أرادت أن تحثّ نقولا فتّوش على أن يقطع روابطه مع 8 آذار، وهي كانت ترغب لو أنّ بيار فتّوش حنَّ على حليفها وليد جنبلاط بحصّة في معمله الشهير. يُقرّر الرئيس الأميركي في الشأن اللبناني، مثلاً، أكثر ممّا يقرّر الرئيس اللبناني نفسه (بعد نزع صلاحيّاته في «الطائف»). كذلك الخلافة في سلالات الطغاة الحاكمة في الخليج، لا تُقَرّ من دون ترجيح أميركي. ولا يزال محمد بن سلمان يتمنّع عن الاستيلاء على العرش بانتظار ترخيص أميركي صريح. لكن ليس لنا، شعوب العالم، أن نقرّر في مسألة اختيار إمبراطور الأرض. هذا الأمر متروك لفئة من الشعب الأميركي التي تختار أن يقترع، ومجموعها يكون أحياناً أقلّ من نصف هذا الشعب.
لم تكن نتائج الانتخابات الأميركيّة متوقّعة؛ استطلاعات الرأي كانت (في معدّلاتها على موقع «ريل كلير بوليتكس») تعطي لجو بايدن أرجحيّة بنسبة عشرة في المئة على، صعيد البلاد بأجمعها (أي الانتخاب الشعبي الذي يحتسب أصوات الاقتراع في كلّ البلاد)، كما كانت تُعطي بايدن أرجحيّة واضحة في «الولايات المتأرجحة» (أي تلك التي باتت تذهب في هذا الاتجاه أو ذاك، يوم الانتخاب، وتصبح هي العرضة لتنافس المرشّحَين). المؤشرات كانت لا تفيد دونالد ترامب (أو «طرمب»، حسب لفظ ألبير كوستانيان) على مدى أشهر. لكنّ النتائج (بصرف النظر عن شخصيّة الفائز التي لا تزال عرضة للتكهّن وتعداد الأصوات باليد، تماماً كما كانوا يفعلون في بداية عصر الانتخاب)، تُعمّق من الشرخ الذي يفصل بين وطنَيْن في أمّة واحدة. الحزب الجمهوري يصبح بازدياد حزب الذكور البيض (هو ينال أكثر من ثلثَيْ أصوات الذكور البيض، وتزداد النسبة عند هؤلاء الأقلّ تعليماً بينهم)، والنساء البيض اللواتي يخترن الحزب الجمهوري (بنسبة 58٪ لترامب، مقابل 43٪ لبايدن، فيما صوّتت النساء ككل بنسبة 56٪ لبايدن مقابل 43٪ لترامب). والتغيير الديموغرافي لصالح المهاجرين والملوّنين، يُنقص من حظوظ الحزب الجمهوري على المدى الطويل، ولهذا يعتمد الحزب على وسائل عديدة للحفاظ على أرجحيّته: 1) هو يعمد في الولايات إلى تصعيب عمليّة الاقتراع وتعقيدها (تماماً، كما كان الحزب الديموقراطي يستنبط في الولايات الجنوبيّة حتى الستينيّات، وسائل عديدة وامتحانات لتخفيض حجم الاقتراع للسود) عبر وسائل عديدة، لعلمه أنّ الملوّنين والفقراء – وهم الأقل اقتراعاً بين الطبقات الاجتماعيّة والأعراق – يقترعون غالباً لصالح الحزب الديموقراطي (زاد ترامب من نسبة تأييده بين السود الذكور، وإن قليلاً). كذلك، فإنّ زيادة إجراءات التسجيل قبل الاقتراع، هي حيلة استنبطها الحزبان الممثّلان لمصالح النخب الطبقيّة، تماماً كما أراد المؤسّسون الأوائل الذين اعتبروا أنّ اختيار الرئيس مسألة بأهميّة تفوق القدرة العقلانيّة للعامّة (من البيض الذكور طبعاً، لأنّ الآخرين كانوا مستثنين من العمليّة الانتخابيّة). 2) ينجح الحزب الجمهوري، خصوصاً في عهد ترامب، برصّ الصفوف العنصرية بطريقة لم تألفها البلاد من قبل.
كان هناك دائماً تساؤل في أوروبا، كيف لم تشهد أميركا ظاهرة «اليمين الجديد» (وهو اسم ملطَّف لظاهرة اليمين العنصري الإسلاموفوبي المتطرِّف). لكن سبب عدم ظهور حزب «يمين جديد»، لا يعود إلى غياب أفكار اليمين الجديد عن أذهان المقترعين، بل لأنّ النظام الاقتراعي القائم على الدائرة الانتخابية الواحدة (التي تعطي الفائز الربح المطلق، وهذا صحيح في احتساب الفائز عن كلّ ولاية في الانتخابات الرئاسيّة، حيث ينجح الفائز بأكثريّة الأصوات في ولاية كاليفورنيا، مثلاً، في الحصول على 55 صوتاً اقتراعيّاً ولا يحصل الفائز على الملايين من الأصوات الأخرى على أي من الأصوات الاقتراعيّة) تمنع تشكّل أحزاب ثالثة. يصعب جداً في ظلّ النظام الانتخابي الحالي تشكيل حالة اختراق من قبل حزب جديد، إن على مستوى مجلس النواب أو الشيوخ أو الرئاسة. لكنّ الحزب الجمهوري تكيّف مع تصلّب الفكر العنصري الأبيض عند الناخبين البيض، فبات يمثّل ظاهرة اليمين الجديد من دون إعلان تشكيل حزب جديد منشق عنه. تغيّر الحزب الجمهوري كثيراً عمّا كان عليه في عام 1980 مثلاً، وحتى قاعدته الانتخابيّة تغيّرت. كان الجنوب الأميركي معقلاً للحزب الديموقراطي، لكن مناصرة الأخير للحقوق المدنيّة في قانون 1965 بطلب من الرئيس لندن جونسون (وهو كان عنصريّاً على الصعيد الشخصي، مثله مثل معظم رؤساء أميركا، وفكرة أنّ ترامب هو أوّل رئيس عنصري، كما قال بايدن، هي فكرة مهينة للسود لعلمهم أنّ معظم رؤساء أميركا كانوا من المؤمنين جهاراً بنظريّة تفوّق العنصر الأبيض) دفعت بالبيض إلى الهجرة الكبيرة من الحزب الديموقراطي نحو الجمهوري الذي أصبح الحزب النافذ في الجنوب، وتخلّى عن إرثه كالحزب الذي يرتبط برمزيّة إعتاق العبيد من قبل الرئيس الجمهوري، إبراهام لينكولن.
يعمد الحزب الجمهوري إلى مخاطبة البيض، وتأجيج تعصّبهم (تماماً كما برع حزب «الكتائب» في مخاطبة التعصّب الطائفي لجمهوره وتخويفه من المسلمين على مرّ السنوات التي سبقت الحرب الأهليّة)، مستعيناً بلغة مرمّزة والتشديد على «النظام والقانون» الذي، منذ حملة ريتشارد نيكسون الانتخابيّة في عام 1968، بات مصطلح تخويف البيض من السود – وقد حوّل ترامب شعار «النظام والقانون» إلى لازمة في حملته الانتخابيّة الأخيرة. كما أن ريتشارد نيكسون خاطب الغرائز العنصريّة للبيض، باستعمال مصطلح «الأكثريّة الصامتة». وقد استعار ترامب في هذه الحملة الانتخابيّة من حملة نيكسون، وهو كان شديد الإعجاب به (وقد تسرّب إلى الإعلام أخيراً مراسلات بين ترامب ونيكسون، واللغة فيها لغة مُعجب برئيس سابق). والبيض يتبرّمون من المستقبل، ويحاولون إيقاف تقدّمه: وهذه الغضبة من المهاجرين التي عبَّر عنها ترامب لم تكن إلا حركة من «اليمين الجديد» العنصري الذي يعمّ دول أوروبا – لكن ربط العنصريّة في المجتمعات الغربيّة باليمين فقط، يغمط العنصريّة في وسط الوسط والليبراليّين وحتى اليسار المعادي للمهاجرين. إنّ العنصريّة الفرنسية والإسلاموفوبيّة، باتت تتجلّى في كلّ المروحة السياسيّة، ربما باستثناء الحزب الشيوعي الفرنسي.
واختيار بايدن مرشحاً للحزب الديموقراطي من بين دزّينة متنوّعة (في الجندر وفي العرق) كان عملاً مقصوداً. أراد الحزب الديموقراطي ترجيح كفّته عبر جذب العمّال الصناعيّين البيض في الولايات التي خسرتها هيلاري كلينتون في آخر انتخابات، مثل ميشيغن وبنسلفانيا وويسكنسون، وهي كانت تاريخيّاً ولايات العمّال الصناعيّين البيض الكاثوليك، وكانوا عماداً ثابتاً للحزب الديموقراطي. ونجح رونالد ريغان في جذب هؤلاء في انتخابات عام 1980، لأسباب متعدّدة بعضها عنصري: النقمة ضد سياسات البرامج الاجتماعيّة لم تكن إلا ثورة ضد ما يراه البيض من امتيازات للأقليّات والنساء (مع أنّ النساء البيض كنّ المستفيدات الأكبر من هذه السياسات). الحزب الجمهوري يؤجّل الخسارة الكبيرة التي ستلحقه عندما يصبح البيض أقليّة في البلاد، وهو يعاند ضد ذلك من خلال إجراءات كثيرة، منها إعادة رسم الدوائر الانتخابيّة بطريقة تحفظ للجمهوريّة الحفاظ على أغلبيّاتهم في الولايات، أو من خلال حضّ البيض على الاقتراع بنسب كبيرة، ومنها التحريض ضد المهاجرين والحدّ من التجنيس الذي يفيد الحزب الديموقراطي. وعمليّة إعادة رسم الدوائر الانتخابيّة وتشتيت أصوات الأقليّات تجري من سنوات وليس هناك من رادع لها، لأنّها حق من حقوق المجالس الاشتراعيّة المحليّة الخاصّة بكل ولاية. وهذه لعبة لعبها الحزب الديموقراطي وتمرّس بها، إلّا أنّه بات يعترض عليها متأخّراً لأنها تضرّه.
كانت نتائج الانتخابات الرئاسيّة مفاجئة، فقط لأنّ خللاً حلّ بوسائل الإعلام وباستطلاعات الرأي. استطلاعات الرأي ليست علماً، وهي لا تتفوّق إلا بدرجة قليلة عن خزعبلات وبلاهات ميشال حايك وليلى عبد اللطيف. ونسبة تأييد ترامب في عام 2016، كانت أقلّ في استطلاعات الرأي ممّا هي عليه يوم الاقتراع، وهذا الأمر تكرّر هذا الأسبوع بالرغم من وعود وتعهّدات من شركات الاستطلاع بأنّها أصلحت أخطاء منهجيّة وتقنيّة في الاستطلاعات الماضية (كانت الاستطلاعات مثلاً تقلّل من نسبة سكّان الريف والمزارعين في الولايات، وهذه المجموعة السكّانية تميل للحزب الجمهوري، والاستطلاعات تقلِّل من نسب الاقتراع للقاعدة الحزبيّة الجمهوريّة، أي الذكور البيض). لكنّ الأخطاء كانت فظيعة هذه المرّة: توقّعت الاستطلاعات تفوّقاً بنسبة 15% لصالح بايدن في ولاية ويسكنسون (بحسب استطلاع «ذي واشنطن بوست» وشبكة «إي.بي.سي») فيما نجح بايدن هناك بنسبة ضئيلة جداً. وحصل شيء مشابه أيضاً في ولاية مين، حيث فازت سوزان كولنز بمقعدها في مجلس الشيوخ بنسبة مريحة، فيما توقّعت الاستطلاعات خسارتها بنسبة كبيرة. استطلاعات الرأي لم تكن يوماً علماً، ولن تكون مهما تحسّنت تقنيّاتها، وهي أقلّ فائدة في دولة تنقسم بنسبة النصف بين فريقَيْن متصارعَيْن. ولقد ساهمت وسائل الإعلام في الإساءة إلى استطلاعات الرأي، لأنّها خلقت ثقافة شيطنة ضد ترامب، ما دفع بالعديد من أنصاره إلى إخفاء أهوائهم عن المستطلعين خشية وصفهم بالعنصريّين (ولهذا تاريخ معروف في الاستطلاعات الأميركيّة، ويرتبط بظاهرة «وايلدر»، وهو كان مرشحاً لمركز المحافظ في ولاية فرجينيا في عام 1990 وفضحت الانتخابات يومها أنّ نسبة البيض الذين اقترعوا له كانت أقل بكثير من النسبة التي أبلغت شركات الاستطلاع بنيّتها الاقتراع له). أي أنّ تأييد ترامب مكتومٌ في تبيانات الاستطلاع، وهذا شبيه بنسبة التأييد المكتوم لمارغرت تاتشر في بريطانيا في الثمانينيات، إذ أنّ الشباب كانوا لا يفصحون عن نيّتهم الاقتراع لها، لأنّ ذلك لم يكن محبّذاً في الجو الشبابي البريطاني يومها. هذه مشاكل لن تُحل في استطلاعات الرأي هنا، مهما تعقّدت وتشعّبت النماذج الحسابيّة التي تعتمدها وسائل الإعلام، وشركات الاستطلاع، في توقُّع نتائج الانتخابات. لم تخطئ حنة أرندت عندما قالت إنّ السياسة لا تكون في التوقّع، وليس هذا شأنها. وفي لبنان، هناك لـ8 آذار شركات استطلاع معتمدة، وهناك أخرى معتمدة لـ١٤ آذار، وهي قادرة على توقّع نتائج انتخابات ملائمة لكلّ طرف، كما أن شركة «زغبي» باتت متخصّصة في إنتاج نتائج استطلاعات رأي في العالم العربي، تتّفق مع مصالح وتوجّهات محمد بن زايد.
أراد الحزب الديموقراطي ترجيح كفّة بايدن عبر جذب العمّال الصناعيّين البيض في الولايات التي خسرتها هيلاري كلينتون في آخر انتخابات
لم يكن سقوط ترامب – لو تأكد – عفويّاً أو نتيجة تقلّبات هائلة وجذريّة في أهواء الرأي العام. النتائج كانت متقاربة، لو حسبتها من خلال الكليّة الاقتراعيّة أو من خلال النسب على مستوى البلاد. ولقد نجح ترامب في زيادة تحالفه الانتخابي: فهو وإن خسر نسبة ضئيلة من الرجال البيض (من62% في عام 2016 إلى 58% في هذه الانتخابات) فإن عوّض عن ذلك بتحقيق نسب إضافيّة طفيفة من تأييد اللاتين (نحو الثلث) ومن السود (الذكور بصورة خاصّة). لكنّ نسبته من تأييد القوات المسلّحة انخفض إلى 52٪ فقط، وهذا غير مألوف للمرشح الجمهوري. وهذا التقلّص يكشف حقيقة أسباب خسارة ترامب. لقد شنّت البنية العسكرتاريّة – الاستخباريّة حملة لا سابق لها ضده، وهو استهان بعدائها له لأنّه غير متمرّس في الحكم والعمل السياسي. لم يكن ترامب يعلم أنّ هناك أثماناً باهظة يتكبّدها من رصيده السياسي كلّ رئيس يحاول أن يشنّ حرباً ضدّ أجهزة الاستخبارات، هي تعمل في الخفاء ولديها من مخزون المعلومات ما يجعلها خصماً لا يُستهان به. لم يكن ترامب يعلم أنّ شنَّ حرب علنيّة وسريّة ضد 17 وكالة استخبارات ذات ميزانيّة سرّية بعشرات المليارات لها أكلافها السياسيّة والشخصيّة. من سرَّبَ وثائق ضرائب ترامب، بعد سنوات من إصراره على عدم الإفصاح عنها؟ هل هناك غير وكالات الاستخبارات هذه، التي لديها القدرة على النفاذ إلى أماكن حفظ هذه الوثائق؟ ثمّ من الذي سرّبَ هذه الوثائق قبل أسابيع فقط من الانتخابات الرئاسيّة؟ ما يُسمّى في مصر بـ«الدولة العميقة» (وهي أعمق هنا من أيّ دولة أخرى في العالم، لأنّها دولة الإمبراطوريّة المترامية الأطراف) لم تكن راضية عن ترامب، وتركيبة السياسة الخارجيّة التقليديّة (من الديموقراطيّين والجمهوريّين) خشيَت من أن يقود ترامب الإمبراطوريّة إلى حتفِها. لم يسبق في السنوات الماضية، أن حظي مرشّح بهذا الإجماع من قبل نخبة الحزبَيْن في السياسة الخارجيّة كما حظي بايدن، وهذا مؤشِّر إلى الانحراف الذي قاده ترامب في نظر هؤلاء.
ستعود قيادة إمبراطوريّة الحرب الأميركيّة إلى أيدٍ أمينة موثوق بها، وستحسِّن من مسار الإمبراطوريّة لضمان استمراريّتها. قادة القطاع الاستخباري – العسكري عبّروا عن الكثير من القلق في ظلّ إدارة ترامب. إنهاء حالة العداء مع كوريا الشمالية، مثلاً، كان مثاراً للقلق الذي تسبّبت به سياسات ترامب. إنّ حالات العداء التقليديّة ضرورة من ضرورات سياسة الإمبراطوريّة – وفي أي حال لم يُسمح لترامب بالمضي في سياساته المهادِنة لكوريا الشمالية، كما أنّه لم يُسمح له بسحب القوات الأميركيّة من أماكن مختلفة في العالم. نشر القوات ضرورة من ضرورات الإمبراطوريّة الحربيّة، والتهريب ضرورة للحدّ من التهديدات لمصالح قوة الحرب الأميركيّة. وقد خشي خصوم ترامب من خبراء الإمبراطوريّة من تفكيك «حلف شمال الأطلسي»، وذلك بحجّة التخفيف من نفقات الالتزام الأميركي. وكان ترامب على حق بأنّ اهتمامه بأولويّة تحسين الاقتصاد وتخفيض الأعباء الماليّة للسياسة الخارجيّة (باستثناء ميزانيّة الدفاع والاستخبارات) ستعود بالنفع المالي على أميركا.
فضحت الأزمات السياسيّة الأميركيّة في السنوات الماضية هشاشة الديموقراطيّة الأميركيّة. فقَد النظام السياسي الكثير من خواصه التي كانت أميركا تزهو بها بين الأمم، عن عراقة ديموقراطيّتها. التهديد الأكبر للنظام السياسي، برز في انتخابات عام 2000، عندما تقرّرت الانتخابات الأميركيّة في المحاكم وليس في صناديق الاقتراع. النظام السياسي يفقد شرعيّته، أو تصبح الشرعيّة مرتبطة فقط بتطابق الحزب الحاكم مع أهواء الناخب: الديموقراطي لا يرى شرعيّة خارج حكم حزبه، والعكس صحيح في حالة الجمهوريّين – أو هي أعمق في حالة هؤلاء. أنصار الحزب الجمهوري أكثر تعصّباً لفريقهم وأكثر استعداداً للجوء إلى الحيَل والخدع والطرق الملتوية للبقاء في السلطة. لم يكن أنصار ترامب يمزحون عندما كانوا يهتفون لولاية ثالثة له (التعديل الدستوري الثاني والعشرون يحدّد ولاية الرئيس بولايتَيْن فقط). وظاهرة ترامب ليست، كما يحاول الإعلام الليبرالي تصويرها، ظاهرة شخص واحد يمرّ مروراً عابراً في السياسة السياسيّة الأميركيّة. هي نتاج عوامل تحتدم في النظام السياسي، منذ التسعينيّات على الأقل. يكفي أن تعرف أنّ البيض الذكور لم يختاروا رئيساً من خارج الحزب الجمهوري منذ عام 1977، وهم بذلك يثورون على تحالف النساء والملوّنين في الحزب الديموقراطي (زيادة ترامب في الانتخابات الأخيرة من نسبة تأييد الذكور السود، لم تظهر في التغطية الليبراليّة له، لأنّها تريد جعله ظاهرة محصورة بالمتطرّفين لأنّها لا تريد أن تعترف بعمق الأزمة السياسيّة الأميركيّة). قد لا يختفي ترامب عن الساحة السياسيّة بعد سقوطه، لكن سيأتي مثله – الكثير مثله – في السنوات المقبلة. كانت معادلة ترامب ناجحة: هذه شعبيّة الرئيس بين أعضاء حزبه لم يسبق لها مثيل، حتى أنه فاق شعبيّة ريغان في عزّه. وهذا العامل يمنع حتى خصوم ترامب في داخل حزبه من المجاهرة بانتقاده.
هناك سيناريوات حقيقيّة لتقويض النظام السياسي الأميركي من الداخل. تتخيّل ترامب، مثلاً، أو غيره في المستقبل، وهو يحضّ أنصاره على اقتحام مراكز الاقتراع لتعطيل عميلة عدّ الأصوات (القانون المحلّي في أريزونا يسمح للمتظاهرين بمحاصرة مراكز عدّ الأصوات، وهم مدجّجون بالسلاح الظاهر). وقد غرّد ترامب، قبل يومين، مطالِباً بـ«وقف العد». هذه الجملة لو صدرت عن زعيم دولة في العالم النامي، لكانت أدّت إلى تقريع فوري من وزير الخارجيّة الأميركي، إلّا إذا كان هذا الزعيم من أدوات أميركا الكُثُر في العالم الثالث. هناك بوادر على حالة تمرُّد في النظام الحاكم. تسرّب أنّ وزير الدفاع الأميركي السابق، جيمس ماتس، اتّفق مع البعض في هيئة الأركان على معارضة ترامب، في حال أصدر أوامر اعتبروها مناقضة للمصلحة الأميركيّة العليا، وقادة في مكتب التحقيقات الفدرالي تباحثوا في انتخابات عام 2016 في إمكان تعطيل انتخاب ترامب. كان النظام الأميركي مستقرّاً عندما كانت الشرعيّة محلّ إجماع بين الناس، وعندما كان الحزبان متقاربَيْن في الموقع نحو الوسط الأميركي المحافظ. لكنّ الحزب الجمهوري سافرَ كثيراً نحو اليمين ممّا كان عليه من قبل، والتحالف الجديد للحزب الديموقراطي يدفعه نحو الليبراليّة، فيما قيادة الحزب لا تزال في حالة رفض الواقع والإصرار على البقاء في موقع الوسط المحافظ. هي معركة أجيال في داخل الحزب الديموقراطي، وينعكس ذلك على سياسات الحزب نحو الاحتلال “الإسرائيلي”.
سخِرت أميركا كثيراً من أنظمة في العالم النامي، وهي باتت تحمل سمات بعض تلك الأنظمة. هل يرفض ترامب مغادرة البيت الأبيض؟ هل سيحرّض أنصاره على التمرُّد المسلّح؟ هذه الأسئلة لم تعد سيناريوات أفلام هوليوود. وإمكانيّة طرد ترامب من البيت الأبيض بالقوّة ليست مستعبدة. يمكن لنا اليوم الاستعانة بأمثلة من أنظمة في العالم الذي لا يعتبره الغرب متحضِّراً لتوقُّع مجرياتٍ سياسيّة أميركيّة. لعلّ مشاغلهم الداخليّة تصرفهم عن دول العالم النامي، وتقلِّل من حوافز شنّ حروبهم التي تبدأ ولا تنتهي.
* كاتب عربي
(حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)
الأخبار