أسرار الابداع السينمائي عند الياباني “أكيرا كوروساوا” كما وردت في كتابه:
مهند النابلسي
دروس مجانية في الاخراج لدى اسطورة السينما اليابانية:
“عرق الضفدع”:
“الاعتراف بفضل المعلمين الكبار وتقديرهم، الدقة والبساطة والصراحة والذاكرة الحية واللمسات الابداعية ودور المخرج.
*تاثير السيناريو وطريقة ادارة الممثلين والانتماء للكرة الأرضية.
*مشاهدة التحف السينمائية القديمة، من ايام السينما الصامتة…
*كوروساوا بمواجهة الماركات التجارية اليابانية العالمية التي تخنق “ذاكرة الانسان المعاصر”!
عرض “شيق- مفيد” لأهم فقرات الكتاب:
*يموت أكيرا كوروساوا (امبرطور السينما اليابانية وشاعرها الكبر دون منازع) في العام 1998 بعد صراع طويل مع المرض.
*فيلم “الساموراي السبعة” (1945) هو مجرد دعوة للتأمل في لعبة الحياة بواقعها ومتخيلها.
*ربما يعد فيلم “راشمون” بعرف البعض تحفة نادرة من القرون الوسطى، بمزيج درامي ذي نكهة “أكزوتيكية” بحتة.
*أما “كاغيوشا”-ظل المحارب 1980، فهو تراجيديا تاريخية متاملة في سحر السلطة، كما ان فيلم “دودسكادن”(1970)، فهو لا يحمل نظرة جوانية لما تخفيه النفس البشرية، ان عرفنا ظأنه فيلمه الملون الأول.
*كوروساوا يترك لنا في “عرق الضفدع” ما يشبه السيرة الذاتية، كما يكشف لنا اسرار افلامه اللاحقة وطريقة اخراجه، حيث الكتابة عنده تحفل بالغموض ذي النكهة اليابانية احيانا، كما بالبوح التفصيلي لأدق ذكريات طفولته ونشأته.
*الكتابة عند كوروساوا تذكره بالغموض الياباني، وتشبه الضفدع “المسكين” المتروك في علبة محاطة بداخلها بالمرايا التي تعكس له تشوهات صورته وتعددها، فيفرز خائفا حينئذ “العرق” الذي قد يتحول الى “نقيع مغلي”، يساعد على مداواة الجروح والحروق!
*اذا كنت بحاجة الى سيف، فخذ –اذن- هذا السيف المصقول، سيف “التنين الأسود”، اذن فأنت تريد ان تشرب الحكمة ذاتها…اذن، اقرأ ل “لدزورو” الربيع والخريف!
*صدرية “الكيندو” وصندلي الخشبي، استخدمتهما في اول فيلم لي “سانشيرو سوغاتا”، لاظهر ارتقاء البطل في طريقه لاتقان “الجودو”، وقد استخدمتهما لاواعيا فاللاوعي يعمل على تحفيز الخيال، باستيلاده من الذكريات.
*”مهما تعاليت، سيأتي من هو اعلى منك”، فالضفدع في البئر لم يسمع عن المحيط!
*انها ظلامية الروح الانسانية…
*عندما يغمض الانسان عينيه امام الأشياء المرعبة، فان الخوف يتملكه من الداخل، واذا ما رأيت كل شيء بعينين مفتوحتين، فلن تخاف ابدا!
*…وفي السينما، التقيت المخرج “كادجيرو ياماموتو”، الذي فتح لي ابواب اللغز-السينما، وجون فورد، التفت لي ايضا ببصيرته النفاذة، واعطاني دفعا معنويا كبيرا للتقدم، واضم الى هذه القائمة أسماء خمسة مخرجين يابانيين كبار راحلين (وقد ذكر اسماؤهم)، وعندما اتذكرهم، احس اني اريد أن اصرخ من كل قلبي: اوجه لكم الشكر، ايها المعلمون المحترمون…الذي نمجد ونحب، لكن احدا منهم لن يسمعني الان!
*أنا مثلا –في اي بلد احل بهن لا احس نفسي غريبا عليه رغم انني لا اعرف لغة اجنبية واحدة، فالكرة الأرضية هي مسقط رأسي…ولو رأى البعض المآسي التي ترتكب بحق البشرية في هذا العالم، لتوقفوا عن الزعم بخصوص “مسقط الرأس”.
*مجرد ان تعيش فهذه هي الاثارة بحد ذاتها.
*شاهد حوالي مئة فيلما اجنبيا مميزا من انتاجات الأعوام ما بين 1919 وحتى العام 1929 لكبار المخرجين العالميين كسيسيل دي ميل، ديفيد غريفث، سيرغي ايزنشتاين، رينوار، جوزيف فون شتيرنبرغ، لويس بونويل، وآخرين غيرهم.
*اصبح شقيقه الأكبر (الذي انتحر في الثلاثين من عمره) مفسرا للأفلام الصامتة، لا يتقن حرفته وحسب، بل حاول المشاركة في الحدث وتقديم ما يحدث على الشاشة فنيا (ربما بنفس اسلوبي الانطباعي الفريد بنقد وتحليل الأفلام).
*بدأ عصر السينما الناطقة ، وسأظل اذكر بعض الأفلام التي شاهدتها في تلك الأيام: كل شيء هادىء على الجبهة الغربية/تحت سقوف باريس/الملاك الأزرق/واوبرا القرون الخمسة، حيث ان ظهور الأفلام الناطقة قد وضع حدا للسينما الصامتة، ومعها ولى دور المفسرين. (ص.116)
*المخرج هو آمر الخطوط القتالية، وله ان يتملك التكتيكات الحربية، وعليه ان يعرف كل اصناف القتال.
*اذا اردت ان تصبح مخرجا فتعلم اولا كتابة السيناريو (ص.143)…أن يكتب المرء صفحة واحدة كل يوم، فانه يستطيع أن يكتب سيناريو من 365 صفحة على مدى عام.
*المونتاج هو الملامسة الأخيرة للفرشاة، وهو شيء آخر ايضا، هو بث الحياة في الشريط السينمائي. (ص.144)
*حتى يصبح المرء مخرجا، ينبغي له أن يجيد ادارة الممثل، وكل شيء يحدث في موقع التصوير، وهذا اقل شيء يفعله حتى يتمكن من صنع الفيلم…ثم عليه اعطاء التعليمات الضرورية لطاقمه خلف الكاميرا: الاضاءة، الصوت، الديكور، الأزياء الاكسسوارات، الماكياج، وفي الوقت نفسه أن يتولى ادارة الممثلين.(ًص. 145)
*اذا حاول المخرج ارغام الممثل على الشيء الذي يرغب به، فانه سوف يحصل على نصف النتيجية، ولكن اذا دفعه في الاتجاه الذي اختاره الممثل نفسه، فانه سوف يحصل على اضعاف ما بداخله من انفعالات.(صز146)
*كيف ستفسر لي نظريا اختيارك لهذا المكان للتصوير بالضبط؟ أجبت بلامبالاة وملل: انا متعب، ولا ارغب بأن اتحرك من مكاني قيد انملة – اجبت يهدؤ.(150)
*…وتحت رحمة جبل “فوجي” صورنا طيلة النهار فوق الثلوج التي تتطاير مع هبات الريح، فتزداد لسعاتها، وكانت ايدينا ووجوهنا تتشقق لهطول هذا البرد. كنا ننطلق صباحا قبل أن تشرق الشمس، وما ان نصل القمة حتى تكون الأشعة قد تسللت للتو. (155)
*مشهد سينمائي “جدلي”: “بوابة المصنع مفتوحة على مصراعيها، تلتهم القادمين الى عملهم من العمال الشبان.(161)
*الشمس تساقط بأشعتها، والقمر يتقل في السماء، والنبع يتجلل بضباب غامض، فاذا ما احس احد بأن اللوتس يتفتح في الليل، فان هذا نذير شؤم.(171)
*آه في الذهاب سرور، وفي العودة رعب وشرور.(173)
*قصص مع تأثير الرياح: عندما صورت “الكلب المسعور” هب اعصار مدمر، أتى على الديكور كله، وفي جبال “فودجي” اثناء تصوير “ثلاثة اشرار في القلعة المخفية”، هبت علينا عواصف دمرت الغابات التي اخترناها للتصوير، حيث امتد برنامجنا من عشرة ايام الى ثلاثة اشهر.(174)
*عندما يتكون لدي احساس بأنني انتهيت، اصور مرات اكثر من المادة التي صورتها في الواقع، عندئذ اشعر بأنني اكتفيت…(174)
*من التقليدي في اليابان ان يخضع المخرج لامتحان كي يتم تصنيفه في قائمة المخرجين..(ملاحظة من كاتب المقالة: فهل يتم خضوع المخرجين لامتحانات بعد التخرج في عالمنا العربي كما هو الحال مع الأطباء؟)
*السمكة تقترب مرة واحدة فقط من الصنارة نفسها.(180)
*التقيت قتلة وسفلة وقذرين، والغريب أن وجوههم كانت عادية جدا، وهيئاتهم مريحة للنظر، وكلماتهم مقنعة ومزوقة…(183)
*ولو ان الأمبرطور دعا في خطابه الى الموت البطولي، لوضع الناس في الشوارع حدا لحيواتهم بالسيوف المسلولة من قرابها، فنحن ربينا على انكار الذات.(190)
*فيلم “ياماسان” يتحدث عن الأسواق السوداء، التي نبتت مثل شجر البامبو بعد هطول مطر شديد، وتفتحت في حواليها منظمات الاجرام “ياكودزا”.(205)
*اردت من هنا أن اعاين ظاهرة “ياكودزا” تحت المجهر، والمناخات التي يترعرع فيها افراد عصابات الاجرام، رجال المافيات، ما الذي يعنيه العنف الذي يتفاخرون به لهم.(205)
*اخترنا هذا المكان في طرف المدينة، وهو حفرة ضخمة مليئة بالمياه الاسنة، والحشرات المستنقعية، لها هيئة التقرح، والمرض الذي ينهشها، ومعنى هذه الشرور يتوضح اكثر في وعينا.(205)
*فيلم “المبارزة الصامتة” لم يكن مفهوما من الجميع، لأني انا نفسي لم اكن على دراية كاملة بالمشكلة التي يبحثها، ولم اكن قد احطت نفسي بالوسائط التعبيرية الملائمة والمساعدة.(217)
*”موباسان” قال لي: “لتحل نظراتك الى حيث لا تصل نظرات احد غيرك…وابق واقفا في مكانك، تحدق في ذلك الشيء حتى يتوضح، ويصبح قريبا من الجميع”.(217)
*أنا مقتنع بانني اصبحت مخرجا، لأن هذه المهنة اما أن تكون عقابا، او مكافأة على شيء انجزته في حياتي الماضية!
*لكن نفس الممثل “ميغوني” سلب الألباب بادائه لدور مختلف عن سابقيه…حتى أن مظهره العام قد تغير، ومثل دورالبطل
التراجيدي بطريقة اذهلتني.(212)
سيناريو فيلم “الكلب المسعور”:
*اخذت الرواية، وقراتها من جديد، كانت تبدا هكذا: “هذا اليوم هو الأشد قيظا في الصيف كله”…هذا ما اريد، قلت لنفسي، وقررت البداية بطريقة اخرى:- لقطة قريبة لكلب يدلف لسانه امامه، ويتنفس بصعوبة، يسمع صوت الراوي: “هذا اليوم الحرارة فيه لا تطاق”، ثم لوحة تحمل عنوان “دائرة البوليس الاولى”: -ماذا؟ سرقوا مسدسك؟، ثم يرفع المسؤول جسمه بتثاقل من وراء مكتبه، فيما يقف التحري امامه .. بعد أن ولفت المادة المصورة بهذا التتابع، حصلت على بداية مبشرة للغاية، لكنها مؤثرة: فالدراما موجودة الآن امام المشاهد، ويمكن له أن يتحسسها بالطريقة التي يريد، مشاهد الكلب المختنق سببت لي متاعب جمة، لا تحصى، فقد شاهدتنا امريكية تنتمي لجمعية الرفق بالحيوان ولم تصدقنا، فقد اخذنا الكلب من حظيرة الكلاب، وراعينا “ارضائه وتدليعه وماكياجه”، ليصبح منظره وحشيا ملائما للتصوير، وما ان كان يدلق لسانه ويلهث ختى نباشر بتصوير المشهد، وهكذا…(ص.218).
عن خفايا اخراج فيلم “راشمون” (الفلسفي):
*بنينا ديكورا عملاقا، وقد شيدنا فقط نصف بوابة بشكل تاريخي مهيب، ومع ظهور السينما الناطقة ، نسينا جماليات السينما الصامتة واسلوبها الفذ بالتعبير، وقد كان “راشمون” بمثابة حجر “البروفا” للعودة الى نبع ورونق السينما الصامتة التي افتقدناها، وفي محاولتي لتفسي السيناريو للمساعدين، قلت لهم بأن الطبيعة الانسانية هكذا، فالانسان مغلق امام ذاته، حتى عندما يتحدث عن نفسه…فهو لا يستطيع، ولا يود العيش دون كذب، ثم لاحظت ان هذه الميزة الانسانية مفقودة بعمق في السيناريو، وانهيت محاضرتي بالقول: “خذوا العالم الداخلي للناس، فهو بحد ذاته احجية، ويقينا سوف تفهمون الفيلم”.(ص./226/227/228/229)
*بدأنا التصوير بالقرب من (تارا) والغابة كانت مليئة بالقراد الذي كان يعلق بجسومنا، ويمتص دماءنا، ولم يكن سهلا أن ينزعه المرء عن جلده، وحتى لو نجح، فان المكان الذي علق به يظل محمرا لفترة طويلة، ثم يظهر المطر الصناعي على مستوى ارتفاع البوابات، وهمي الأول كان أن تبدو البوابة حقيقية، وهنا ساعدتني مراقبتي واستطلاعاتي الدائمة لبوابات المعابد البوذية.(ص.228/229)
*والمشكلة التي صادفتنا، كانت لالتقاط الشمس بالكاميرا، فهي الشمس التي تبعث لنا الضؤ وتولد الظلال، فلعبة الظل والضؤ هي الوحي الأساسي في الفيلم، لذا قررت ان اصور الشمس نفسها، وخلال الأعوام المنصرمة، اصبحت عادة توجيه الكاميرا نحو الشمس، عادة طقوسية، يا للروعة! فقد دخلت الكاميرا بين الأشجار، وفي عالم الضؤ والظل، في اعماق الروح الانسانية، وفيما بعد، فقد قالوا في مهرجان البندقية، ان الكاميرا في هذا الفيلم تتغلغل في اعماق الغابة بطريقة خلاقة…في اللحظة التالية، حدثت المعجزة، فقوينا الموسيقى من جديد، وانسابت مستمرة، لتتطابق مع المشهد “بهارمونيا” منسجمة، وولدت عندي اضطرابا غريبا، واحساسا بالخوف، لا ادري كنهه…وأخيرا نال “راشمون” جائزة “الأسد الذهبي” في مهرجان البندقية، وقد اصبح حجة لدي لكي اغوص ثانية في الجوانب الخفية من النفس البشرية.(ص.230-233)
*فيما بعد حصل هذا الفيلم على جائزة أفضل فيلم اجنبي من الأكاديمية الأمريكية للفن السينمائي، لكن الصحافة النقدية اليابانية عدت ا اسباب منح الجائزتين (اكزوتيكية) بحتة تتعلق بطبيعة علاقة الشرق والغرب…ولقد سبب لي هذا التفكير الاحساس بالمرارة. فلماذا اليابانيون لا يقدرون وا هو ياباني؟ ولماذا ننحني امام كل ما هو أجنبي؟(ص.233)(ملاحظة من كاتب المقالة: فليس العرب وحدهم الذين يملكون هذه العقدة امام الابداع الأجنبي؟!).
*ثم رأيت على الهواء مباشرة تلك اللعبة التي حاولت أن أكشفها في الفيلم: فمن الصعب على الناس أن يقولوا الحقيقة عن أنفسهم…واخيرا فقد أصبح “راشمون” البوابة التي خرجت منها الى العالم الفسيح كسينمائي، فأنا موجود مع كل هؤلاء الأبطال بكاملي…ولا شيء في العالم يمكن ان يكشف المبدع مثل ابداعاته نفسها..لا شيء اطلاقا.(ص.233/234)
مهند النابلسي/كاتب وباحث وناقد سينمائي/ mman2005@yahoo.com