أعمال الحفر في صفّورية سنة 1931 عن جريدة فلسطين
المصدر: جريدة فلسطين.
موعد النشر: 13 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1931.
موقع النشر: جرايد.
كتب لنا مراسلنا الناصريّ منذ مدّة، عن عثور بعثة الأستاذ واترمان الأميركيّ، الّتي تنقّب في قرية صفّورية من أعمال النّاصرة، على آثار ترجع إلى العهد الرومانيّ، وقد نشرت جريدة «نيويورك تايمز» بيانات مستفيضة عن ذلك الاكتشاف تنشرها فيما يلي:
نقلَ البرق عن القدس، أنّه قد تمّ في خرابات «سيغوريس»، في صفّورية القديمة، بالقرب من النّاصرة، اكتشاف قديم يرجع تاريخه إلى القرن الأوّل بعد الميلاد، وهذا الأثر عبارة عن مسرح رومانيّ عثرت عليه البعثة الأثريّة الّتي وجّهتها «جامعة ميشيغن» الأميركيّة للحفر والتنقيب في فلسطين، بإدارة الأستاذ «لِيروي واترمان»، رئيس فرع اللغات الشرقيّة في الجامعة، ومعاونه الدكتور «كلارنس فيشر» من المدرسة الأميركيّة للاكتشافات الشرقيّة في القدس، وسيكون لهذا الاكتشاف الحديث شأن قيّم، لما يتوقّع من جلائه حقائق ثابتة، لم تكتشف بعد عن حياة يسوع الناصريّ، بعد استكمال كشف تلك الطبقات الأرضيّة العميقة، التي تغطّي آثارًا يرجع تاريخها إلى عصر المسيح وما قبله.
أمّا كيف توصّلت البعثة إلى هذا الاكتشاف الثمين، فكان حين بُدِئَ بحفر خندق للاستطلاع على قمّة الأحدور المبنيّة عليه القلعة القديمة، إذ ظهرت بقايا الردم عميقة جدًّا، ولم يكد الحفّارون ينقّبون متعمّقين إلى نحو العشرين قدمًا، حتّى صَدموا صخرًا متعرّجًا على شكل درجات السلّم يلوح بأنّه مقاعد لجلوس الآدميّين عليها. ثمّ لم يلبث حتّى ظهرت أجنحة ومماشٍ وممرّات ومخارج ومقاعد حجريّة، وأقسام مجالس وحجارة ضخمة من الصخر الصلد على هيأة بناء ينمّ عن حقيقة لا شكّ فيها، بأنّه قد كان في ذلك المكان مسرح رومانيّ يرجع عهده إلى العصر المسيحيّ الأوّل، وهو أوّل المكتشفات الحديثة في ذات فلسطين.
تقع منصّة المسرح والصفّ الأدنى من المقاعد تحت أرض المحكومة المنقوبة الآن وحواليها، على أنّ ما يمكن تقديره ممّا ظهر الآن، يشير إلى بنيان مستدير يبلغ قُطْر دائرته مائتين واثنين وثلاثين قدمًا، يسع من الجلّاس نحو ثلاثة آلاف نسمة. أمّا أهمّيّة المسرح وشهرته فظاهرة من الفسحة المتّسعة المدهشة المخصّصة له من الأحدور، وقمّة القلعة تلك الفسحة البالغة إلى بعد أقدام قليلة من القمّة.
أمّا هندسة البناء، فمن الشكل الرومانيّ، حيث تتألّف المقاعد من صفوف سفليّة وصفوف علويّة، يفصل بينها حواجز صخريّة منحوتة، ناهيك عمّا هنالك من بديع فنّ البناء وصناعته، إذ هو مرتكز على صخر صلد طبيعيّ، فضلًا عمّا في جمال فنّه الظاهر في مخارج المسرح المتوّجة بقناطر بديعة الشكل، عرضها ستّة أقدام وعلوّها ثمانية، وهي توصل الخارج منها إلى ما ورائها من الأروقة الموصلة إلى السور الخارجيّ البالغة سماكته تسعة أقدام، وهو مبنيّ من أكوام الحجارة الضخمة المترابطة بأعمدة من الصخر متعاقدة.
يظهر أنّ بناة المسرح، قد كشفوا في موضع بنائه، كلّ ما كان على سطحه حتّى بلغوا إلى الصخر الأدنى الطبيعيّ. إلّا أنّ آثار بقايا صهاريج قديمة ومَعاصِر زيتون وأحواض حجريّة لا تزال حتّى الآن ظاهرة.
بعد أن توصّل المنقّبون إلى كشف ما تقدّم ذكره، تحوّلوا إلى حفر خندق ثانٍ في ناحية الزاوية الشماليّة الغربيّة من القلعة، فاكتشفوا آثار عدّة مستويات مسطّحة قائم فوقها بقايا جدران بيت وأحواض للماء، ورسم آدميّ منقوش بالموزاييك، فضلًا عمّا وجدوه هنالك من نقود مسكوكة من النحاس الأحمر، يتراوح تاريخها من عهد الآراميّين إلى عهد المكابيّين، ومنها وهو الأكثر نقود رومانيّة ترجع إلى العصرين الثالث والرابع للميلاد. وفيما سوى ذلك، آنية فخّاريّة ودواليب للغزل وموازين حجريّة وحديديّة حمراء، ونرد وحبوب مسابح وخواتم وحلق وأساور ودبابيس للشعر ومثاقب من العاج ومرآة من النحاس الأحمر وغير ذلك.
وردَ ذكر «سيغوريس» هذه، كوسط مركزيّ لليهود في تاريخهم، وكانت ذائعة الصيت منيعة الجانب كاملة التحصين، حتّى أنّ ألكسندر جنايوس المكابي، صمد فيها مقابل هجمات عدوّه «بطولومايس» ملك مصر. ومع كلّ هذا، فلم يرد لها ذكر في الكتاب المقدّس، وهي لا شكّ عبرانيّة الأصل، إن لم تكن تنتمي إلى أصل ساميّ أقدم من العبرانيّ.
وقد روى التاريخ، أنّه بعد قتل «جنايوس» وبسط سلطة روميّة على فلسطين، وتقسيمها إلى مقاطعات إداريّة جعلت «سيغوريس» عاصمة الجليل، وفيها لقي هيرودوس الكبير تعضيدًا ومناصرة في جهاده للقبض على زمام السلطة، فحصّنها وذخّرها بالمؤن، حتّى أنّه لما ظهر يهوذا المكابيّ ابن حِزقيا، وجد فيها وسطًا ملائمًا للثورة ضدّ روميّة، فضلًا عمّا وجده من الذخائر والأسلحة. إلّا أنّ ثورة يهوذا المكابيّ لم تفلح تجاه عظمة روميّة الّتي خضّبتها، وأحرقت المدينة غير مبقية عنها من أثر سوى الرماد والدمار، واستبعدت كلّ مَنْ سلم من أهليها.
ثمّ رغب «هيرودوس أنتيباس” فيما بعد، في إعادة بنائها في أوّل التاريخ المسيحيّ، فجدّدها كاملة البناء، بديعة الهندسة، إلى حدّ أنّها أصبحت تُدعى «زينة الجليل»، ولبثت مقرّ الملك إلى أن بُنيت طبريّا في العقد الثاني للميلاد.
سيكون لاكتشاف سيغوريس هذا، أهميّة في التاريخ قد يمكن أن يصدر عنه فصل جديد من فصول حياة يسوع المسيح، الّذي لم يمكن يطيب له المقام في مقاطعة، أكثر ممّا كان في الجليل، ولا شكّ في أنّ آثار المدينة الخربة المكتشفة، ستبرز بشهادات حوادث رقّمها معاصروه ممّن سمعوا أقواله، وتتبّعوا حركاته، ولا سيّما في عهد فتوّته، قبل أن يباشر تعليمه العلنيّ الّذي ردّدتْ شرحه الأناجيل الأربعة.
عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.