أمريكا والاغتيال الفردي.. أمريكا والصين – منير شفيق
أعجب ما في السياسة أن تجد بعضاً من الناس ما زالوا يعتقدون بأن أمريكا دولة تمثل قِيَم القانون الدولي، والمواثيق المتفق عليها عالمياً، ويميزونها عن الدول “الشمولية” أو الدول التي تسمّيها “مستبدة”، وتتهمها بعدم الالتزام بالقانون الدولي، أو التقيّد بدستور أو عُرف.
طبعاً هكذا تقدم أمريكا نفسها للعالم. علماً أن ميزتها الوحيدة تتمثل بانتخاب رئيسها من بين متنافسين، يقدمهما الحزبان الجمهوري والديمقراطي، منذ مئات السنين. وذلك بالرغم مما في هذه الميزة من معايب استئثار بالسلطة بين حزبين متفقين على النظام الداخلي والاستراتيجية الدولية. وقد سبق لمرشح ثالث حشر نفسه منافساً هامشياً في معركتين انتخابيتين، أو ربما، ثلاث معارك واسمه رالف نادر، وصف الفرق بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري في أمريكا، كالفرق بين الكوكاكولا، والبيبسي كولا.
أما ما يجري في الداخل الأمريكي من ممارسة لميز عنصري، أُلغي قانونياً، واستمر عملياً، فحدّث ولا حرج. وأما ما يجري داخلياً من فساد، وارتكاب جرائم قتل، وضربات تحت الحزام، فحدّث ولا حرج أيضاً. وأما ما يجري من غبن فاحش بالنسبة إلى العدالة الاجتماعية، من قِبَل نظام رأسمالي أمبريالي عالمي، فحدّث ولا حرج، أيضاً وأيضاً.
على أن ما تفعله أمريكا في الميدان الدولي أسوأ، بما لا يُقاس، بالمقارنة بما تفعله بالداخل. ولنأخذ بداية مثلاً سريعاً، ما قامت به 2/8/2022، وهو اغتيال أيمن الظواهري في كابول، عبر مُسيّرة شديدة الإتقان في تنفيذ الاغتيال. وبالمناسبة افتخر الرئيس الأمريكي جو بايدن بمستوى تطوّرها، وما وصلته من إتقان تقني في “فن الاغتيال”. وذلك من دون أن تطرف له عين، خجلاً من ممارسة الاغتيال السياسي الفردي المحرّم بالقانون الدولي، والمُدان أخلاقياً، بغض النظر عن الحالة الموجّه ضدها.
صحيح أن عدداً من الدول في العالم تمارس الاغتيال ضد معارضيها أو أعدائها. ولكنها لا تجرؤ على الاعتراف به، لا علناً، ولا بصورة غير مباشرة. وهنا الاستثناء الأمريكي، كما فعل دونالد ترامب، وكما فعل جو بايدن. مما يؤكد مرة أخرى، مدى اتساع الفرق بين الكوكاكولا والبيبسي كولا بين رئيسين أمريكيين.
تتهم أمريكا أيمن الظواهري بقتل أمريكيين من خلال عمليات عسكرية أشرف عليها أو دبّرها. ولكنه لم يقدّم إلى محاكمة لإثبات التهمة، لا حضورياً ولا غيابياً. لا في أمريكا ولا خارجها. الأمر الذي لم يمنع أمريكا من ممارسة الاغتيال جهاراً نهاراً، وبإعلان يحمل الكثير من الفخر والتفاخر. كما لو أنها قامت بعمل قانوني مشرّف يستدعي الافتخار به.
إعطاء أمريكا نفسها حق ممارسة الاغتيال الفردي عالمياً، ومتى شاءت، وضدّ من تشاء، من دون حاجة إلى محاكمة، أو تحقيق، أو دليل، يمثل فضيحة دولية، ويشكل ارتكاباً لجرمٍ مشهود. وهذا بالضبط ما تدينه مبدئياً، القوانين والأعراف الأمريكية، كما الدولية. ويكفي أن نتصوّر حال العالم، لو اعتبر حق الاغتيال الفردي من حق كل دول العالم، كما تفعل أمريكا، أو اعتبر أن من حق كل الدول أن تعتدي على سيادة غيرها، وتمارس فيها اغتيالاً، كما فعلت مع أفغانستان.
من هنا يجب اعتبار أعجب ما في السياسة، أن تجد بعضاً من الناس، ما زالوا يعتقدون بأن أمريكا، تمثل قِيَم القانون الدولي والمواثيق، المتفق عليها عالمياً.
أما الفعل الأمريكي الثاني الذي حدث بعد يومين من اغتيال الظواهري، فجاء بتاريخ 3/8/2022، من خلال زيارة نانسي بيلوسي لتايبي عاصمة تايوان الصينية. وذلك بتحدٍ استفزازي لحكومة بيجين التي وضعت حظراً على هذه الزيارة. واعتبرتها اعتداءً على السيادة الصينية من جهة، ومدعاة لتدهور العلاقات الأمريكية-الصينية من جهة أخرى.
صحيح أن زيارة بيلوسي لتايبي تعدّ اعتداءً غير مباشر على سيادة الصين، وذلك بسبب الوضع الخاص لتايوان، وفقاً لما تمّ من توافق أمريكي-صيني حوله. بل بسبب هذا التوافق، اعتبرت الصين الزيارة تحرشاً عسكرياً، والدليل ما جرى من تحريك لحاملة الطائرات دونالد ريغان، بحجة حمايتها. طبعاً ردّت الصين في عدّة مجالات ومواقع، اعتبرتها أمريكا ردوداً مبالغاً فيها، بحجة أن الزيارة لا تستحق ذلك.
حقاً الزيارة بحدّ ذاتها، وفي ظروف أخرى، لا تستحق كل الإجراءات التي ردّت بها الصين عليها، بما في ذلك ما أنزلته من عقوبات، ووقفها لعدد من الحوارات وقضايا تفاوض، وتعاون بين الطرفين (مثلاً محادثات المناخ). الأمر الذي يدل على أن المشكلة ليست الزيارة. وإنما وراء الأكمة، تصعيد أمريكي لمواجهة عسكرية، أو تهديد بها. فأمريكا لم تكن بحاجة إلى زيارة استفزازية توتر علاقاتها بالصين، لولا أنها تهيء لمواجهة شاملة ضد الصين، تخرّب ما كان عليه الوضع بينهما سابقاً.
هذا وتدل الزيارة، وما نجم عنها من توتير، على أن الحرب ضد روسيا في أوكرانيا، موجهة ضد الصين أيضاً، إن لم يكن أولاً, وذلك بسبب ما قام ويقوم من “صداقة بلا حدود” بين الصين وروسيا، كما أُعلِن في القمة الروسية الصينية في 4 شباط/فبراير 2022.
إن أمريكا، كما أعلنت مراراً.. تعتبر أن الصين هي الخطر الأول الذي يواجهها. وذلك بسبب ما وصلته الصين من قدرات اقتصادية ومالية، وتطوّر علمي وتقني، وقوّة عسكرية، وعلاقات اقتصادية وسياسية دولية. الأمر الذي راح يهدّد بإنزال أمريكا من موقع الدولة الكبرى رقم 1 في العالم، مما سيجر بالضرورة، إلى النزول عن موقع السيادة الحضارية الغربية على العالم.
وإذا كانت الصين تريد تحقيق ذلك من خلال منافسة سلمية عالمية وعولمية. وذلك على مدى عشرين أو ثلاثين سنة قادمة، فإن أمريكا في المقابل، اختارت استراتيجية اللجوء إلى التوتير العسكري والاقتصادي والسياسي، بما في ذلك إلى تحريك الناتو ضد روسيا في أوكرانيا، واللعب بورقة تايوان، والصراعات في بحر الصين، وتكتل دول المحيط الهادئ، وتحريضها ضد الصين.
من هنا يجب أن تُقرأ زيارة بيلوسي إلى تايوان، وتحرّك اليابان في الأثناء ضدّ الصين، وأن تقرأ ردود الفعل الصينية على الزيارة. وأن تفهم حرب أوكرانيا جيداً. والأهم، أن نبدأ جميعاً بالاستعداد لمواجهة حرب عالمية دون سقف النووي، ولكن بملامسته.
المقالات المنشورة تعبر عن آراء أصخحابها وليس بالضرورة عن رأي موقع الصفصا