أميركا أسقطت الاتحاد السوفياتي .. فماذا سيفعل إردوغان؟ – حسني محلي
هذا ما يسعى إليه الآن إردوغان الذي يؤمن بأفكار أوزال في مجمل تحركاته الإقليمية والدولية التي تحظى بتأييد الحليف التقليدي أميركا.
يعود تاريخ العلاقات الروسية-العثمانية إلى العام 1520، بعد وصول أول سفير روسي إلى اسطنبول ممثّلاً عن القيصر الروسي إيفان الثالث، ليشارك في حفل تنصيب سليمان القانوني سلطاناً على الدولة العثمانية.
وشهدت العلاقات بعد ذلك التاريخ الكثير من سنوات المدّ والجزر بين الطرفين، وتحاربا 14 مرة، وانتصر الروس في 11 منها. ويعني ذلك أن روسيا قضت 57 عاماً من أصل 398، وهو عمر علاقاتها مع الدولة العثمانية، في الحروب الطاحنة التي انتهت بالثورة الشيوعية عام 1917 وسقوط الدولة العثمانية بعدها بعام. وقدّم لينين أنواع الدعم كافة لمصطفى كمال أتاتورك في حربه ضد الدول الاستعمارية، وهي بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان التي احتلت الأناضول، ليكون هذا الدعم عاملاً أساسياً في انتصار الأتراك.
ولم يكن هذا الدعم كافياً حتى تضمن موسكو ودّ وصداقة الجمهورية التركية التي تأسست عام 1923، فانحازت بعد الحرب العالمية الثانية إلى جانب الغرب، ثم تحولت إلى مخفر متقدّم للحلف الأطلسي لمنع السوفيات والشيوعية من النزول إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط والمنطقة العربية، ودائماً باسم الإسلام!
ولعبت تركيا خلال تلك السنوات، بشكل مباشر أو غير مباشر، دوراً مهماً في الحملات السياسية والعسكرية والعقائدية التي شنّتها أميركا وحليفاتها ضد الاتحاد السوفياتي بهدف تمزيقه، في إطار نظرية الحزام الأخضر (الإسلامي) التي صاغها كيسنجر وبريجنسكي، وهو ما تحقق بعد توريط السوفيات في الحرب الأفغانية 1978-1988.
ويبدو أن الروس لم يستخلصوا الدروس من تجاربهم مع تركيا، ففتحوا أبواب بلادهم على مصاريعها للشركات التركية التي نفّذت، وما زالت، ما قيمته عشرات المليارات من الدولارات من المشاريع، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، في الوقت الذي كان فيه الرئيس الراحل تورغوت أوزال يتحدث عن “أمة تركية واحدة من الأدرياتيكي إلى حدود الصين”، فجمع زعماء الدول الإسلامية ذات الأصل التركي في آسيا الوسطى والقوقاز، حديقة روسيا الخلفية، في قمة مهمة في أنقرة، في تشرين الأول/أكتوبر 1992، واستهدفت روسيا، سراً كان أو علناً.
وهذا ما يسعى إليه الآن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي يؤمن بأفكار أوزال في مجمل تحركاته الإقليمية والدولية التي تحظى بتأييد مباشر أو غير مباشر من الحليف التقليدي أميركا. ويعرف الجميع أنها، أي أميركا، تريد من تركيا أن تساعدها في زعزعة الكيان الروسي من الخارج والداخل، تارة عبر التحالف مع الجمهوريات الإسلامية (كازاخستان وتركمانستان وقرغيزيا وأوزبكستان وآذربيجان)، وتارة أخرى عبر استفزاز المشاعر الدينية والقومية لدى الأقليات المسلمة داخل حدود روسيا الفدرالية، وقوامها نحو 20 مليون نسمة. ويفسّر ذلك دعم أنقرة لشعب القرم ذي الأصل التركي، وحديث إردوغان والمسؤولين الأتراك باستمرار عن عدم اعترافهم بضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، هذا إضافة إلى الدعم العسكري التركي لأوكرانيا، العدوّ اللدود لموسكو.
وتستمر أنقرة في إزعاجها عبر تحالفات مماثلة مع كل الدول المعادية لروسيا، تاريخياً كان أو قومياً أو استراتيجياً، ومن بينها دول البلطيق وهنغاريا وألبانيا وبلغاريا ورومانيا، وتسعى تركيا لبيعها طائراتها المسيّرة التي استخدمتها أوكرانيا للمرّة الأولى في الـ20 من الشهر الماضي، في شرق البلاد، ضد القوات الموالية لروسيا.
كما استخدمت آذربيجان هذه الطائرات العام الماضي في حربها ضد أرمينيا، متحدّية بذلك روسيا التي لم تعد تخفي انزعاجها وقلقها من الوجود العسكري التركي في أوكرانيا وآذربيجان، ناسية أنها هي السبب في كل ذلك. وهذه هي الحال في سوريا التي دخلها الجيش التركي اعتباراً من آب/أغسطس 2016 بضوء أخضر روسيّ، ليتحوّل هذا الجيش إلى مصدر قلق أكبر بالنسبة إلى الروس، الذين يتصدّى لهم إردوغان في أماكن عديدة، أهمها ليبيا، حيث تدعم موسكو خليفة حفتر الذي انتصر عليه أتباع إردوغان في طرابلس بفضل الطائرات المسيّرة والمرتزقة الذين تمّ نقلهم من سوريا. وتتحدث المعلومات عن تحركات تركية أخرى في الدول الأفريقية التي يوجد فيها الروس عسكرياً واقتصادياً، كالسودان وغينيا بيساو وموزمبيق وأفريقيا الوسطى ورواندا والكونغو الديمقراطية وغيرها.
ومن دون أن يهمل إردوغان حساباته في البحر الأسود، وهو يسيطر على مضيقي الدردنيل والبوسفور، ومن دونهما لا يمكن للسفن الروسية أن تصل إلى قواعدها في سوريا، كما إنه يضع العديد من الحسابات في بحر قزوين، وعبر وجوده في آذربيجان، ليمثّل بذلك مصدر قلق جديد، ليس فقط لروسيا بل أيضاً لإيران التي تطل على هذا البحر المذكور، حالها حال تركمانستان وكازاخستان.
وتسعى أنقرة لاستيراد الغاز الطبيعي منها ومن آذربيجان وقطر، ليساعدها ذلك على التخلص من تحكم الروس في السوق التركية التي تستورد نحو 40٪ من حاجاتها من الغاز من روسيا، بعد أن كانت هذه النسبة 56٪ عام 2019.
ومع رهان موسكو في البداية على احتمالات إبعاد تركيا عن الحليف التقليدي أميركا وخلق المشاكل للحلف الأطلسي، بدأت الأوساط الروسية تتحدث، ولو بشكل متأخر، عن خطر إردوغان على الأمن القومي لروسيا التي تحقق مكاسب مالية كبيرة من علاقاتها مع أنقرة. ويحمّل البعض من هذه الأوساط موسكو مسؤولية هذا الوضع، لأنها أتاحت الفرصة لإردوغان لتنفيذ أجندته في سوريا التي تحولت إلى ساحة انتصارات جعلت من أنقرة عنصراً مهماً في مجمل الحسابات الإقليمية والدولية بانعكاساتها الخطرة على مجمل حسابات الروس، داخلياً وخارجياً.
فروسيا التي تمتد على جغرافيا واسعة وتعيش العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وأهمها التراجع الخطير في عدد السكان، يعرف الجميع أنها، على المدى المتوسط والبعيد، قد تواجه المزيد من هذه المشاكل مع استمرار سياسات الحصار والمقاطعة والعقوبات الأميركية والأوروبية عليها، لأسباب عديدة، أهمها مشكلة أوكرانيا، وإردوغان أصبح طرفاً مباشراً فيها، كما هو طرف أساسي في الحرب النفسية، ولاحقاً العسكرية، بين الحلف الأطلسي وروسيا في البحر الأسود القريب من منطقة القوقاز، وفي شمالها العديد من جمهوريات الحكم الذاتي ذات الأغلبية التركية المسلمة، وتحظى باهتمام علني وسرّي من أنقرة.
وباستفزاز وتحريض المشاعر القومية والدينية لهؤلاء، قد تجد موسكو نفسها أمام مخاطر التقسيم، كما تمزّق الاتحاد السوفياتي، بعد أن عاشت روسيا تجربة الشيشان أواخر التسعينيات، مع التذكير بوجود الآلاف من المقاتلين الشيشانيين والأجانب الآن في إدلب، وبحماية الجيش التركي. وتحدّث الرئيس بوتين عن احتمالات ذهاب هؤلاء وأمثالهم إلى أفغانستان، ومنها إلى دول الجوار، ليكرّروا تجارب القاعدة في الشيشان والبوسنة. ويدفع مثل هذا الاحتمال السلطات الروسية إلى استنفار كل إمكانيّاتها لمواجهة هذه المخاطر في جمهوريات الحكم الذاتي المسلمة، فالوصول إليها مروراً بآذربيجان وجورجيا ليس صعباً عبر سلسلة الجبال الوعرة في المناطق الحدودية مع روسيا.
خلاصة الكلام، ان الرئيس إردوغان الذي يسعى للتخلص من إرث أتاتورك، بما في ذلك صداقته مع لينين، يبدو واضحاً أنه كان وسيبقى لسان حال ذكريات التاريخ العثماني بشقّيه القوميّ التركيّ والدينيّ الإسلاميّ الذي يتغنّى به بعدَ ما يسمّى “الربيع العربي“.
ويبقى الرهان الأخير، إن لم يكن المتأخر، على مدى سرعة المناورة الروسية وقوّتها في مواجهة المخاطر التركية في جميع الجبهات، وإردوغان يعتقد أنه المتفوّق فيها، وإلا لما استطاع التصدّي للضغوط الروسية في سوريا وهي قفل ومفتاح كلّ المعادلات الإردوغانية مع روسيا وغيرها.
على أن يكون الرهان الآخر على مدى ضمان إردوغان للدعم الأميركي الذي قيل إنه لم يحظَ به خلال لقائه الرئيس بايدن في روما، نهاية الشهر الماضي، وسط المعلومات التي تتحدث عن تنسيق روسي – أميركي في موضوع سوريا، “لمنع تركيا من أيّ مغامرة جديدة هناك”، ومن دون أن يمنع ذلك الرئيس إردوغان من الاستمرار في مساعيه لإقناع بايدن بأنه يستطيع أن يواجه الروس في كثير من الساحات، ما دام هو يملك الكثير من مقومات هذه المواجهة في القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان، بل حتى في سوريا، وفيها عشرات الآلاف من المسلحين الموالين لأنقرة التي لن تتردّد في الاستفادة منهم، في أي زمان ومكان، كما هي الحال في ليبيا وكاراباخ.
وجاء التفويض الأخير الذي منحه البرلمان للرئيس إردوغان لإرسال الجيش التركي إلى سوريا والعراق ليثير قلق أوساط المعارضة، لأنه فوّض إلى إردوغان “دعوة قوات مسلحة أجنبية إلى تركيا والاستفادة منها بالشكل المناسب”، ومن دون تحديد المكان والزمان والعدوّ. وتساءل زعيم حزب الشعب الجمهوري، كليجدار أوغلو: “يا ترى ما هي هذه القوات الأجنبية؟ وماذا ستفعل في تركيا، وضدّ مَن سيستخدمها إردوغان؟”، معبّراً عن قلقه من هذه المغامرات التي صادفت عودة إردوغان إلى الحديث من جديد عن “الحق التاريخي للأتراك العثمانيين في خريطة الميثاق الوطني”، التي كانت تضع شمال سوريا والعراق ضمن حدود تركيا الحالية، ويبدو أن إردوغان يحلم بالمزيد منها.
ويبقى القرار للرئيس بوتين الذي لا يُخفي قلقه من مقولات الرئيس إردوغان ومواقفه، التي ترى فيها موسكو خطراً على المصالح الروسية، داخلياً وخارجياً، ومن دون أن يكون واضحاً هل سيتصدّى الروس لهذا الخطر؟ وكيف؟ ومتى؟
خطر يسعى إردوغان لموازنته بمزيد من الإغراءات الاقتصادية والتجارية والمالية التي قد تؤخّر الردَ الروسي، ولكنها لن تؤجّله إلى الأبد!
* باحث علاقات دولية ومختصص بالشأن التركي
المصدر: الميادين نت
4 تشرين ثاني 2021