أم محمد السيد امرأة من فلسطين – نضال حمد
هي امرأة من مخيمنا عين الحلوة، عرفتها منذ الطفولة حتى وفاتها. وزرتها في منزلها في أكثر من مناسبة. شاءت الصدفة الحزينة يوم وفاتها في 22 نيسان 2019 أن أكون في لبنان لأشارك في جنازتها وتشييعها الى مثواها الأخير، حيث ووريت الثرى في مقبرة سبلين قرب وادي الزينة في لبنان. وحالها في ذلك كحال كل اللاجئين الفلسطينيين الذين توفيوا في لبنان وخارج فلسطين المحتلة.
ككل أم فلسطينية تشردت أم محمد في النكبة سنة 1948 وكان عمرها آنذاك 16 عاماً. أي أنها خرجت من بلدتها وهي تعرفها كما نفسها. تعرف البشر والحجر والشجر والأرض والانسان في سعسع.
حملت أم محمد قريتها “سعسع” في قلبها وترسخت صورها وحكاياتها وذكرياتها في عقلها. فنقلت هذا الحب العظيم الى أبنائها وبناتها. الذين أحبوا وطنهم فلسطين وقدموا لأجله الغالي والنفيس. فكان ابنها البكر صديقي محمد السيد – أبو ابراهيم – مقاتلا على جبهة القتال وفدائيا شاباً على خط المواجهات مع أعداء فلسطين وقضيتها، حيث أصيب بحراح بليغة في احدى المعارك أدت الى بتر ساقه وكان ذلك سنة 1976. ومحمد من أكثر أبناء مخيمنا عين الحلوة علماً وثقافة وتواضعاً. فهو رجل عصامي وانسان مثابر ومكافح اعتمد على نفسه وعلمه بالرغم مk اصابته وفقدانه لساقه في وقت مبكر من شبابه، وواصل مشوار الحياة من نجاح الى نجاح ولازال يقيم في مخيم عين الحلوة مع أهله وناسه الطيبين مثله.
عرفت أم محمد السيد أكثر وأكثر من خلال صداقة امتدت من الطفولة الى يومنا هذا. ومن خلال العلاقة الأخوية والرفاقية المتينة التي جمعتني ولازالت تجمعني بإبنها عبد القادر السيد، رفيقي وأخي وصديقي، رفيق النضال والحارة والمخيم .. رفيق الطفولة والصبا والمواجهات والمواقع والأمكنة التي عشنا فيها في مرحلة العمل النضالي في لبنان، في القرن الفائت. جمعتنا تجربة مميزة في “ج ب ه ة ال تح ر ير ال فل سط ين ية” ومع أمينها العام الشهيد القدوة طلعت يعقوب. الذي تعلمنا منه التواضع وحفط المبادئ وصيانة الأمانة ونكران الذات وقداسة الانتماء والفداء والكفاح. لا أذكر أنني خلال خمسين سنة من عمر صداقتنا رأيت عبد القادر باكياً، لكنني سمعت بكاؤه الحار والشديد، الذي أحزنني جداً وأثقل كاهلي وأوجع قلبي يوم هاتفني من تونس ليقول لي أن الوالدة توفيت. لقد أثرت وفاة العمة أم محمد كثيرا على صديقي ورفيقي عبد القادر. طبيعي أن يتأثر الانسان بوفاة أعز ما لديه وأكثر من يحبهم في هذه الحياة، فكيف لا تؤثر وفاة والدة على نجلها…
أم محمد التي ولدت سنة 1932في سعسع بفلسطين المحتلة مضت يوم 22 نيسان 2019. دفنت في لبنان كما عشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين وبالذات من جيل النكبة الفلسطينية. تاركة خلفها أبناءها وأحفادها ومفاتيح البيت في “سعسع” التي ستبقى محفوطة الى أن يأتي اليوم الذي يعود فيه أهل البيت الى بيتهم ويزول الاحتلال الصهيوني عن فلسطين.
منذ وفاة أم محمد وأنا بوارد الكتابة عنها لأنها مثال للأم الفلسطينية الصابرة الصامدة المكافحة، التي ربت أبناءها خير تربية، عِلماً وثقافة وانتماءا لفلسطين. هذا اليوم بالصدفة عثرت في فيسبوك على بروفيل ابنها الصديق عبد الناصر السيد، الذي أوصلته حالتنا الفلسطينية كما آلاف الفلسطينيين الآخرين الى السويد. عثرت على كلمات جميلة صادمة ومؤثرة تحفر مكانتها في الذاكرة الفلسطينية، كتبتها ابنة شقيقتها عبير حيدر التي رافقت أم محمد في أول زيارة لها الى “سعسع” منذ النكبة، لا أعرف تاريخ تلك الزيارة، لكن تاريخ كتابة كلمات عبير حيدر يعود الى سنة 2016.
أرفق أدناه النص الذي كتبته عبير كما هو.
02-12-2020
سلسلة المفاتيح – بقلم عبير حيدر
حدث معنا قبل عدة سنوات في مدينة صفد المحتلة
جاءت خالتي الغالية ام محمد من لبنان الى فلسطين بتصريح زيارة من الاحتلال لترى بيت جدي في صفد في بلدة سعسع القريه الجبليه الجميلة المحاذية للحدود اللبنانية ونحن في الطريق همست لي: (شفتي يا تغريد يا ريت جبنا مفتاح البيت معنا) ضحكت وقلت لها :(مش تنلاقي البيت بالأول) او مازلتي تحتفظين بالمفتاح؟؟
قالت لي نعم اعطاني اياه جدك رحمه الله توفي ودفن في لبنان.
وبعد أن وصلنا الى سعسع ذهلت لما رأيت من طبيعة خلابة جنة الله على الأرض وكانت خالتي تمشي في القريه وكأنها لم تغادر من 60 سنة مع والدها الى لبنان وعمرها 16 عاما بعد نكبة .1948
وكأن شيئا لم يكن كل شيء على حاله البيوت الجميلة وبئر الماء ومدرسة القرية، أما لنبات الصبار فهناك حكاية أخرى مع الخالة المثقلة بالحنين والذكريات، فهذه القريه لم تهدمها “اسرائيل” لجمال بيوتها ومناظرها فجعلت منها معلم سياحي.
وبعد عدة أمتار عثرنا على بيت جدي وكانت صدمتي عندما وجدت تطور عمراني لبيوت بنيت من حجر صلب قبل 70 سنة، وكانت وقتها بيوت الدول العربية من الطين. اقتربنا من منزل جدي المبني من حجر لا أبالغ اذا قلت أنه يشبه حجر أهرامات مصر العظيمة، فكيف لا وجدي رحمه الله كان سيد قومه ونقش على الحجر بعض الآيات القرآنية التي تثبت هويه وديانة صاحب المنزل، فلم تستطيع العوامل الجويه والعوامل اليهوديه من طمس هذه الهويه الدينية.
اقتربنا أكثر والفرحه تغمرنا فكل شىء على حاله…
قالت خالتي الحمد لله بيت أبي لم يهدم وبعد أن دخلنا إليه ورأينا غرباء يصولون ويجولون شعرت بعدها بغصتين في القلب، واحدة تدميني وواحدة تشربني على مهل، وقد حوله الاحتلال الى متحف لبيع بعض التحف اليهوديه والمشعوذات التلموديه محاولة منهم لطمس هويه المكان، وكانت رائحة التهويد تملأ أرجاء البيت.
رحبوا بنا باللغة العبرية ظنا منهم أننا سياح وسألونا من أنتم ؟؟ ومن أين؟؟
قلت لهم لا نتكلم العبرية فإذا هم يتكلمون الانكليزية، فقلت لهم نحن من نسأل من أنتم ؟؟ ومن أين أتيتم ؟؟
قالوا لنا أنهم يهود مغاربة من أوروبا وحاولوا استعطافنا الى أن قلت لهم نحن أصحاب المكان وهذا منزل جدي فقالوا لي ما دليلك؟
قلت لهم النقوش الإسلامية على الحجر وبعض الآيات القرآنية… وهذه خالتي أخبرتنا عنها قبل أن نصل لكم فبدت عليهم علامة الدهشه… وطبعا قالوا لنا أنهم هم الأصليين وطلبوا منا المغادرة فوراً.
فقالت لهم خالتي باللغة العربية (طخوني هون) والدموع تنهمر من عينيها، عندها فقط علمت معنى احتلال واغتصاب الحجر والشجر دون حق. ومنعونا من التصوير..
قلت لهم وهم مدججين بالسلاح سنغادر الآن لكن اعلموا أنها مغادرة مؤقتة وسنعود يوما لأن الله لا يخلف وعده وأنتم الى زوال مهما طال احتلالكم …
وغادرنا وكانت خالتي تبكي وتترحم على والدها طول الطريق وقالت يمكن أموت قبل ما نرجع لكني سأعطي سلسلة المفاتيح لأبنائي وأحفادي ليرجعوا الى هنا يوما ما.