أنا لبنانية… وهذا مخيم عين الحلوة – فاطمة حطيط
شباب يتخذون من سيجارات “الحشيش” زينة لهم، أسلحة منتشرة في كل مكان تنتظر غريباً لتنقضّ عليه، بؤر أمنية، أطفال حفاة عراة يختبئون خلف أبواب “الزينكو”، بؤساء ساقهم اليأس والحرمان إلى العنف والهمجية. تلك هي الصورة النمطية السيئة التي زرعها المجتمع في مخيلتي، إذ ترى اللبناني منّا يخشى الدخول إلى مخيم فلسطيني خوفاً من أناس لا يردّهم عن ارتكاب الجريمة شيء!
هذه الصورة النمطية كبرت معنا، بفعل تأثير الإعلام اللبناني الذي لا يفوّت فرصة لاستغلالها في مآرب شخصية وحزبية لا تمتّ لمصلحة الوطن بصلة!
وبعدما تعاظمت الحملة الدعائية التي تمارسها بعض القنوات اللبنانية ضد المخيمات، شعرت في حاجة إلى زيارة هذه “الغابات الوحشية” للحكم عليها عن قرب…
وقفت أمام “زاروبة” صغيرة تدخلني إلى مخيم برج البراجنة، وحدقت في تفاصيلها علّني أستنبط من ملامحها بعض الحقيقة. اقتربت أكثر، ثم أكثر، فأكثر.. لأجد نفسي في عمق المخيم، أتجول بين أزقته وأحاول استراق السمع إلى أحاديث المارة، الذين يبدون بكامل أناقتهم عكس ما خيّل إليّ…
ومع كل خطوة بدأت معتقداتي تصطدم بواقع آخر، إذ حاولت البحث عن مظاهر مسلحة عشوائية تختلف عن نظيرتها في بعض مناطقنا اللبنانية، حاولت إيجاد طفل متسوّل، أو سجائر حشيش تفترش الأرض، ربما هي موجودة، ولكن موجودة كما هي في المجتمع خارج المخيم.
حاولت إيجاد أي دليل يعزز اقتناعاتي، لكنني كنت أصطدم عند كل محاولة بطفل يحمل حقيبته المدرسية، وآخر يحمل آلة العود كان قد تعلم العزف عليها، وآخرون جمعوا أنفسهم كشباب ليتطوعوا في تقديم خدمات مجتمعية للمخيم…!
إلا أن ما غرس في الصغر، يصعب تغييره في الكبر… الأمر الذي دفعني إلى زيارة أكثر المخيمات “ضجة” على المستوى الأمني، مخيم عين الحلوة الكائن في صيدا الذي أطلق عليه الفلسطينيون تسمية “عاصمة الشتات”.
ذلك المخيم الذي يحتضن في كنفه آلاف التكفيريين الذين يدربون ويجهزون جيداً داخله لينفذوا عمليات إرهابية في حقنا كلبنانيين، ثم يعودون للاحتماء فيه، أو هكذا يقول إعلامنا.
دخلت إلى المخيم، ورغم لكنتي اللبنانية تجولت كما لو كنت واحدة من أهله، بل إن تلك اللهجة الغريبة دفعت أشخاصاً لدعوتي إلى سفرة الفطور ومشاركة عائلاتهم الخبز والملح والزعتر…
لا أخفيكم، حاولت التقرب منهم، لفهم خبايا المخيم الأمنية ومناهج التفكير التي تسوق هؤلاء الناس لمخالفة فطرتهم الإنسانية وحماية الإرهابيين…
تذكرت خلال جلستة إحصائية أجرتها الولايات المتحدة عام 2011، تقول إن عدد الجرائم في هندوراس (جمهورية في أميركا الوسطى) وصل إلى 90 حالة لكل مئة ألف شخص… وفي عملية حسابية بسيطة، نجد أن كفة تلك الجمهورية تثقل نسبة إلى عدد الجرائم وعدد المطلوبين مقارنة بالمخيم، رغم أن “هندوراس” يحكمها قانون عادل، لا فصائل ولا تنظيمات فلسطينية ولا أحزاب لبنانية تستخدمهم كأوراق في حملاتهم الانتخابية ومصالحهم السياسية.
شكا لي أحد الأهالي أن معرفته الشخصية بمطلوبين من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية قد تؤدي إلى التحقيق معه وإيذائه، رغم أن معرفته لا تتعدى الجغرافيا التي تجمعهما كجيران في الحي.
أحد الناشطين في المخيم أخبرني عن مبادرة قام بها الفلسطينيون لتسوية أوضاع المطلوبين، وقد لاقت إقبالاً غير متوقع، إذ تهافتوا لتسجيل أسمائهم وانتظار النشرة التي تحدد أحكامهم، بهدف إيجاد حل ينقذهم من المستنقع الذي لا يريدون الغرق فيه.
مبادرة قابلها الطرف اللبناني بالخداع، إذ تلاعبت الأجهزة الأمنية بالنشرة التي قدمتها للقائمين على العمل لحل هذه المشكلة، فأوردت خلالها أسماء بعض المطلوبين المدعى عليهم بأحكام كبيرة تتعلق بتأليف جماعات إرهابية والتجارة بالأسلحة، في نشرة اقتصرت على من هم “لا قيود لهم” (أي الذين يعتبرون نظيفين من الناحية القانونية وعليهم تسليم أنفسهم لحل ملفاتهم)! ما زعزع عامل الثقة عند الطرف الفلسطيني.
كل ذلك جاء في الوقت الذي استقال فيه رئيس لجنة الحوار اللبناني ــ الفلسطيني آنذاك خلدون الشريف، الذي كان له دور إيجابي منذ البداية… ما أدى في نهاية المطاف إلى فشل المشروع والمبادرة.
اليوم، يشعر الكثير من المطلوبين برغبة عارمة في تنظيف ملفاتهم ليرتشفوا بعض الحرية التي حرمتهم العمل خارج المخيم، أو اصطحاب أولادهم إلى البحر مثلا. لكنهم يحتاجون إلى بعض الصدقية التي تضمن لهم أحكاماً عادلة لا ترميهم في سجن رومية لسنوات دون محاكمة!
من هنا، تلقى مسؤولية انضمام هؤلاء المطلوبين إلى الجماعات المتطرفة على عاتق الطرف اللبناني الذي يجب عليه إيجاد حل سريع، يبرهن على أنه غير متورط مع أي طرف له مصلحة في انتشار وتعزيز قدرات التكفيريين في لبنان.
نعم، هي بعض التيارات السياسية اللبنانية بمعاونة بعض الفصائل الفلسطينية، مستعدة لافتعال أي خطر أمني يهدد الشعبين اللبناني والفلسطيني على السواء، في خدمة مصالحها الشخصية وطموحاتها النفوذ والسيطرة، وهو أمر يسهل استنتاجه في عرض وربط صغيرين للأحداث وطريقة استغلالها من قبل البعض.
وفي هذا السياق، تندرج قضية دخول بعض المتطرفين أمثال أحمد الأسير، وشادي المولوي وغيرهم إلى مخيم عين الحلوة المطوّق من كل الجهات، إذ لا يقبل أي منطق دخولهم بغير احتمالين، إما تهاون الأجهزة اللبنانية المعنية، وإما تعاون مدفوع أجره، ومحددة غايته!
زيارة جذبتني للمزيد من الزيارات إلى المخيم، وشباب ناشط في العمل الاجتماعي باتت تربطني بهم علاقات صداقة وطيدة، رأيت في عيونهم الأمل في التغيير والسعي إليه رغم كل الضغوط والعوائق.
اكتشفت في نهاية المطاف أن هذه المخيمات ليست مدينة أشباح، وأن هؤلاء الناس داخلها ليسوا أشخاصاً قرروا العيش على قارعة الطريق… بل إنهم أصحاب قوة فولاذية استطاعت رغم التضييق المعيشي وعدم وجود قانون يساهم في الاستقرار الأمني أن تخلق من هذا الحرمان إبداعاً أسس للعديد من الفرق الفنية والرياضية والفكرية التي تنافست وتفوقت على نظيراتها عالمياً.
في النتيجة، وقبل أن أكمل آخر قطعة من الخبز المغمّس بالزعتر العابق برائحة فلسطين، أدركت أن هذه الصورة النمطية التي تدفع اللبناني إلى الخوف من الفلسطيني ونبذه، مقابل ردة فعل طبيعية للأخير في خلق الحقد وممارسته ضده، هي مصلحة تمارس بأدوات محلية نعم، لكنها صناعة عدو واحد.. يقبع على أرضهم وعلى حدود أرضنا!
بقلم : فاطمة حطيط – جريدة الأخبار
* صحافية لبنانية