“أهون الشرّين”!: التقدميون الأمريكيون وبايدن – جوزيف مسعد
منذ وصولي إلى الولايات المتحدة لبدء دراستي الجامعية في عام 1982، وأنا أصغي باستغراب للحجج التي يتداولها التقدميون واليساريون والاشتراكيون الأمريكيون البيض لتبرير تصويتهم لمرشحي الحزب الديمقراطي للرئاسة وللكونغرس. فبخلاف الأمريكيين الليبراليين والمحافظين، الذين يعتقدون أن بلادهم هي هبة الله للعالم أجمع، غالبا ما تركزت حجج التقدميين (وخاصة التقدميين البيض) على أن الديمقراطيين هم “أهون الشرّين” بين الحزبين المتنافسين.
يدرك الكثير من التقدميين أنه، على حد تعبير الكاتب والمثقف الأمريكي الراحل غور فيدال، “ثمة حزب واحد فقط في الولايات المتحدة، حزب المُلكية الخاصة، وله جناحان يمينيان: جمهوري وديمقراطي. الجمهوريون أكثر غباءً بقليل، وأكثر صرامة، وعقائدية في تبنيهم الرأسمالية الحرة من الديمقراطيين، الذين يبدون ألطف، وأكثر وسامة، وأكثر فسادا بعض الشيء، وأكثر استعدادا من الجمهوريين لإجراء تعديلات طفيفة عندما يخرج الفقراء، والسود، والمعادون للإمبريالية عن السيطرة. لكن، في الأساس، لا يوجد فرق بين الحزبين”. ومع ذلك، لا يحيد التقدميون أبدا عن اعتناق نظرية “أهون الشرَّين” في توصيف انحيازهم للحزب الديمقراطي.
كلما طرحتُ مسألة السياسة الإمبريالية الأمريكية، المسماة “السياسة الخارجية،” في وسائل الإعلام الأمريكية الليبرالية السائدة، يخبرني التقدميون الأكثر ذكاء أن كلا الحزبين “إمبريالي بنفس المستوى”، ولكن يكمن مبرر تصويتهم للديمقراطيين، بحسبهم، في الفروق القائمة بين الحزبين في ما يخص سياساتهما “المحلية” داخل الولايات المتحدة. ولكن، ما يزيد من حيرتي في هذا الشأن هو: عن أي اختلاف يتحدث هؤلاء القوم؟ بما أن الرؤساء الديمقراطيين المنتخبين بعد رونالد ريغان، وبالتحديد بيل كلينتون وباراك أوباما، كانوا نيوليبراليين مثل ريغان، واعتمدوا أجندة ريغان لتفكيك دولة الرفاه الاجتماعي الأمريكية بلا رحمة، فما الذي يبرر إذا التصويت لصالح “أهون الشرين” من قبل أمريكيين يقرّون بأن كلا الطرفين “شرير”، وإن كان أحدهما أقل شرا من الآخر؟
يؤكد الاشتراكيون الأكثر وعيا أنهم لا تساورهم أية أوهام بأن أيا من الحزبين يدافع عن الفقراء البيض، ناهيك عن الأقليات العرقية الفقيرة المضطهدة من السود واللاتينيين والأمريكيين الهنود الأصليين؛ بل يصرون في الواقع، على أن كلا الحزبين يدافع عن الأغنياء، مع التزام الديمقراطيين بالدفاع عن الطبقات الوسطى إلى حد ما، على الرغم من أن التزامهم تجاه الأخيرة قد تراجع بشكل ملموس منذ عهد كلينتون. وعند سؤالي لهم عن الفوائد الأساسية المرجوة التي تعود على الطبقات الوسطى التي تدافعون عنها باعتباركم تقدميين واشتراكيين ويساريين؟ تنحصر ردودهم الرصينة بشكل أساسي في قضايا الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي والحقوق الإنجابية للمرأة، مع أن كل ما سبق قد أضعفه الديمقراطيون النيوليبراليون بقدر ما أضعفه الجمهوريون.
فقد تراجع مثلا دعم حق المرأة في الإجهاض بشكل كبير منذ أن أعلنت إدارة بيل كلينتون أن عمليات الإجهاض يجب أن تكون “آمنة وقانونية ونادرة“، وبعد ذلك أصبح ذلك شعارا تكرره هيلاري كلينتون. لقد كان أوباما أيضا قد اعترف بحجج المناهضين لحق المرأة بالإجهاض ودعا إلى تقليل الطلب على الإجهاض، بينما كان جوزيف بايدن، إلى حين حملته الانتخابية الأخيرة، مؤيدا منتظما للتعديل القانوني المسمى “قانون هايد” لعام 1976، الذي “يحظر برامج الرعاية الصحية الفيدرالية من تمويل عمليات الإجهاض بشكل مباشر“.
في ما يخصّ مسألة الضمان الاجتماعي، فقد اجتهد الحزبان في الكونغرس في شنّ الحرب عليه بدءا من عام 1983 عبر تعديلات الكونغرس القانونية، التي وقع عليها ريغان لتصبح قانونا. كما حاول كل من كلينتون وأوباما بدورهما قطع الدعم الحكومي للضمان الاجتماعي وللعناية الصحية الحكومية للمواطنين الأمريكيين خلال فترة إدارتهما، ولم يحل دون تنفيذ ذلك سوى فضيحة مونيكا لوينسكي في حالة كلينتون، والغضب الشعبي في حالة أوباما.
أما بالنسبة إلى مسألة الرعاية الصحية، فقد أعاق بيل كلينتون وبعد ذلك باراك أوباما محاولات تقديم رعاية صحية حكومية شاملة لجميع الأمريكيين – وكان الأخير قد تبنى خطة الحزب الجمهوري لدعم شركات التأمين الصحي الخاصة الربحية التي أعاد تسميتها “أوباما- كير” – وهو ما مهّد الطريق للرعب الذي وجد الأمريكيون أنفسهم فيه مع ظهور جائحة كورونا. وبينما كان ترامب قد اقترح أيضا خفض الخدمات الصحية، وهو ما لم يفعله، اتهمه الدعائيون الديمقراطيون المناهضون له بأنه اقترح قطع الدعم الحكومي للضمان الاجتماعي، وهو ما لم يفعله، بخلاف كلينتون وأوباما.
وماذا عن سياسات الجمهوريين لإثراء الأغنياء؟ هنا أيضا نجد أن التزام الديمقراطيين تجاه الأثرياء قد انكشف بوضوح من خلال الإعانات الكبيرة التي قدمها لهم كلينتون وأوباما، حيث دعمهم الأخير بما يصل إلى 350 مليار دولار في “خطة إنقاذ” البنوك على حساب أبناء الطبقة الوسطى، الذين خسروا منازلهم التي رُدت ملكيتها إلى البنوك، ناهيك عن دعم أوباما بالكامل للمزيد من الاحتكارات التجارية وتركيز رأس المال في أيدي القلة القليلة. كما لم يحاسب أوباما “وول ستريت” على الانهيار الاقتصادي الذي تسببت فيه في عام 2008، الذي كان نتيجة إلغاء بيل كلينتون في عام 1999 للقوانين التي حدت من حرية تعاملات المصارف الاستثمارية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، بل كافأه بالدعم المالي.
ما الذي يبرر إذا تصويت الأمريكيين التقدميين واليساريين والاشتراكيين للحزب الديمقراطي على أنه “أهون الشرين”؟ هل هو العمى الأيديولوجي والتعلق باللغة السياسية التجميلية للساسة الديمقراطيين، الذين كانت سياساتهم في الواقع أسوأ بكثير من سياسات ترامب، لكن أسلوبهم في الإفصاح عنها كان “ألطف وأنعم”؟
لماذا لم تلقَ سياسات كلينتون، الذي أطلق عليه الليبراليون لقب “أول رئيس أسود” نتيجة دعمه الكلامي للسود، الذي أدت إعادة هيكلة القوانين الجنائية التي اعتمدها في عام 1994 لتوسيع نطاق الاعتقال الجماعي للأمريكيين السود (حتى أكثر من سياسات ريغان)، صرخة مدوية من قبل الليبراليين البيض (أو السود)، وهم مَن يدعون أنهم يكرهون العنصرية الصريحة؟
وما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن بايدن هو من قام بالمشاركة في كتابة مشروع القانون الجنائي الظالم والعنصري هذا، وهو بايدن ذاته الذي كان قد عارض سياسة إنهاء نظام الفصل العنصري ودمج الأمريكيين من جميع الأعراق في المدارس في ولاية ديلاوير في السبعينيات.
وماذا عن كامالا هاريس “السجّانة” (وعن تاريخها في دعم سجن الأهالي إن حصل وتغيب أطفالهم عن المدرسة)، التي ستخلف بايدن في عام 2025 (على افتراض أنه لن يتنحى بسبب اعتلال صحته قبل ذلك الحين) إن لم يكن قبل ذلك؟
ولماذا لم يتسبب ترحيل أوباما لثلاثة ملايين مهاجر “غير شرعي” بنمط المعارضة الشعبية التي تسببت فيها سياسة ترامب بترحيلهم، التي كانت مجرد استمرار لفظائع أوباما لا أكثر؟ وفي حين تحدى “اتحاد الحريات المدنية الأمريكي” أوباما في المحاكم، لم تترجم هذه المعارضة القانونية أبدا إلى احتجاج عام ضد “رئيس أركان الترحيل” كما سماه البعض.
ولماذا لم تقاض وزارة العدل التابعة لأوباما سوى شرطي أبيض واحد لقتله أمريكيا من أصل أفريقي لأسباب عنصرية، وهو ما قامت به في الأشهر القليلة الأخيرة من ولايته الثانية، أي بعد ثماني سنوات في المنصب؟ صحيح أنه في السنوات الأربع التي قضاها ترامب في المنصب، شأنها شأن السنوات السبع والنصف الأولى من حكم أوباما، لم تحاكم وزارة العدل التابعة له أيضا شرطيا أبيض من قتلة السود، ولكن هذا أيضا كان استمرارا لممارسات أوباما! نعم، نعم، أجرت وزارة العدل التابعة لأوباما تحقيقات في مسألة “نمط الممارسة” ضد إدارات الشرطة في البلاد بينما أوقفها ترامب، لكن هذا ليس إنجازا كبيرا يستحق عليه أوباما ثناء مجلجلا. ونعم، ماذا عما يسمى بـ”حظر المسلمين”، أي سياسة ترامب العنصرية بمنع دخول مواطنين من بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة إلى الولايات المتحدة؟ يبدو أن البعض قد نسي أن قائمة الدول التي اعتمدها ترامب لحظر مواطنيها من الدخول لم تكن من إعداده، بل كانت من إعداد إدارة أوباما، ومن ثم قام ترامب باعتمادها.
في الآونة الأخيرة، أعرب أمريكيون تقدميون عن رعبهم من أن ترامب غير سوي ويعاني من أمراض نفسية؛ لأنه يرفض الاعتراف بخسارته في انتخابات عام 2020، غافلين على ما يبدو عن أن الديمقراطيين وهيلاري كلينتون ما زالوا يرفضون الاعتراف بخسارتهم في انتخابات عام 2016 لغاية الآن، وكانوا قد لفقوا مؤامرة خيالية كاملة حول تدخل روسي غير قانوني مزعوم، ادعوا بأنه أدى إلى هزيمة هيلاري. هذه الهلوسة المعادية لروسيا التي أعادتنا إلى عصر الحرب الباردة، والتي تم تقديمها دون أي دليل مادي، لا تزال تُسوَّق من قبل الصحافة الليبرالية الأمريكية دون توقف، بعد أربع سنوات من هزيمة هيلاري، وليس بعد مجرد شهرين كما هو الحال في حالة ترامب.
لقد تم التعبير أيضا عن إدانة شديدة لعمليات الإعدام الفيدرالية، التي نفذتها إدارة ترامب، بحق 13 مجرما محكوما بالإعدام، لكن ما أغفله هؤلاء المعارضون هو مقارنة هذه الإعدامات بقتل آلاف الأشخاص حول العالم بطائرات دون طيار، عبر اختيار أسمائهم من قائمة القتل الأسبوعية التي كان يعتمدها أوباما. ولا أعرف إن كان مهما بالنسبة إلى التقدميين واليساريين الأمريكيين أم لا، أن ترامب، بخلاف أسلافه الديمقراطيين، لم يشن حربا أمريكية شاملة واحدة جديدة على بلد سيئ الحظ، رغم مواصلته بعض الحروب التي بدأها أوباما، الذي انتدب بدوره بلادا حليفة لأمريكا لمواصلتها؟
هل يمكن لجميع هؤلاء الأشخاص الذين صوتوا لبايدن (وهم نصف الناخبين)، لا سيما المثقفين الليبراليين البيض الجهلة، ألا يعلموا أن كل الأمور التي اشتكوا منها خلال حكم ترامب كانت في الواقع من صنع رؤسائهم الليبراليين المحبوبين؟ بالطبع يعرف معظمهم ذلك، وحملتهم ضد ترامب لم تكن سوى نفاق من أجل الدعاية، كي يصدق الفقراء والمضطهدون أن ترامب “شرير”، بينما أوباما وكلينتون وبايدن وكامالا هاريس هم من الصالحين، أو على الأقل، “أهون الشرَّين“!
في محادثاتي مع الأمريكيين التقدميين واليساريين والاشتراكيين على مدى عقود، حاولت أن أوضح لهم أن الولايات المتحدة ليست مجرد “زعيم” العالم كما يتبجح عادة الأمريكيون الليبراليون والمحافظون، والديمقراطيون والجمهوريون، وكلهم ملتزمون بنفس القدر من الشوفينية الأمريكية، بل إنها (أي الولايات المتحدة) قد غدت منذ عام 1991 الحاكم الوحيد والفعلي للعالم. وشرحت لهم أنهم كمواطنين أمريكيين، هم الوحيدون على وجه الكرة الأرضية الذين يحق لهم التصويت لحكومة تحكم العالم بأسره، ومن ثم فهم متواطئون في الجرائم الإمبريالية الأمريكية عندما يقررون، بناء على أجندة محلية وهمية لنظرية “أهون الشرين”، بالتصويت لحكومة تشن الحروب وتقتل مئات الآلاف من الناس حول العالم، مقابل أن يحصلوا، في أفضل الأحوال، على بعض التغييرات التجميلية في السياسات المحلية. وأكرر على مسامعهم بأنه ليس ثمة أمر اسمه السياسة “الخارجية” الأمريكية في الواقع، إنما، عندما تسيطر القوة الأمريكية على العالم بأسره، تصبح السياسة الخارجية سياسة “محلية” وداخلية.
لا يتأثر الأمريكيون التقدميون والاشتراكيون، شأنهم شأن مواطنيهم الليبراليين والمحافظين “القوميين” والإمبرياليين، بمثل هذه الحجج. بل لا يتوانون عن مطالبة الأمريكيين البيض الفقراء (“المشينين” كما نعتتهم هيلاري كلينتون)، والسود والأمريكيين اللاتينيين والأمريكيين الأصليين المضطهدين، بالانضمام إليهم في الاحتفالات بنصر بايدن. ولكن لماذا يتوقعون أن هؤلاء الأمريكيين، ناهيك عن بقية شعوب العالم الثالث – الذين قُتل الملايين منهم بنيران الولايات المتحدة منذ عام 1945 في الحروب التي شن معظمها رؤساء ديمقراطيون، ومعهم ريغان وبوش الأب والابن – سوف يشاركونهم احتفالاتهم البهيجة، رغم علمهم أن هذه الحكومات ستشن المزيد من الحروب عليهم؟
السبب هو أن هؤلاء الأمريكيين “التقدميين” واليساريين، مثلهم مثل مواطنيهم الليبراليين والمحافظين، هم المستفيدون من النظام الإمبريالي العنصري والطبقي والإمبريالي، وهو ما جعلهم يمتنعون دائما عن السعي إلى أي تغيير جذري حقيقي في البلاد. وأكثر ما كانوا على استعداد للقيام به هو التصويت لصالح مرشح ديمقراطي إمبريالي يساري مثل بيرني ساندرز، الذي لم يلتزم، شأنه شأنهم، سوى بتغيير النزر اليسير، ومع ذلك، فلربما كان هو أيضا من فئة “أهون الشرين” بالنسبة إليهم.
المصدر: موقع “عربي 21”