أوروبا والتحول الاستراتيجي – منير شفيق
تعلن أمريكا بأنها مصممّة على إنزال الهزيمة العسكرية بروسيا، وعموماً تقوم بتصميم أشد بإمداد أوكرانيا بالسلاح الذي يؤدي إلى ذلك الهدف، ومثلها صمّمت وطبّقت عملياً أوروبا، ولا سيما بريطانيا وألمانيا.
ويردّ ديمتري ميدفيدف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، بأن روسيا سوف تردّ بالسلاح النووي، إذا وصلت الأمور إلى حد تهديدها بالهزيمة. ومع هذا، يستمر الردّ الأمريكي بالتصعيد.
فماذا يعني كل ذلك، أو قل كل ذلك مجتمعاً؟ الجواب، وبسرعة، وبلا تردّد، تعريض العالم لحرب نووية لا تبقي ولا تذر، ما لم تتراجع أمريكا عن “التصميمين”، قولاً وعملاً.
طبعاً هذا جنون مُطبق، وهذا خطر مدمّر للعالم، شبهُ مؤكد، إن لم يكن مؤكداً. فأمريكا تلعب بالنار حين تريد حرباً حاسمة مع روسيا، لا يبقى من بعدها شيء اسمه روسيا، الدولة الكبرى.
الحرب الأوكرانية هي عملياً مواجهة مباشرة، وإن بدت كأنها حرب بالوكالة، استُخدِمَت فيها أوكرانيا بوصفها الطرف المباشر ضد روسيا.. وقد أصبحت هذه “الوكالة” خلال سنة من اندلاع الحرب نوعاً “من الضحك على اللحى”. فأمريكا لا تستطيع، مع ما قدمته من دعم عسكري، أن تنكر بأنها الطرف الأساسي المحارب ضد روسيا
أين استراتيجية الحرب الباردة التي طبقتها أمريكا، في مواجهة الاتحاد السوفييتي؟ وأين استراتيجية الحروب بالوكالة من دون أن تكون روسيا (الاتحاد السوفييتي) طرفها المباشر المقابِل؟ فالحرب الأوكرانية هي عملياً مواجهة مباشرة، وإن بدت كأنها حرب بالوكالة، استُخدِمَت فيها أوكرانيا بوصفها الطرف المباشر ضد روسيا.. وقد أصبحت هذه “الوكالة” خلال سنة من اندلاع الحرب نوعاً “من الضحك على اللحى”. فأمريكا لا تستطيع، مع ما قدمته من دعم عسكري، أن تنكر بأنها الطرف الأساسي المحارب ضد روسيا، وإلا كانت مثل النعامة التي تضع رأسها في الرمل، بل تكون مستهترة في عقول الناس.
لهذا يجب أن تتوجّه كل أصابع الاتهام من قِبَل من يريدون وقف الحرب وعدم تطوّرها إلى تهديد عالمي خطر للغاية، إلى الضغط على أمريكا وتحميلها مسؤولية هذه الحرب، بداية واستمراراً.
هذا، ولا يظنّن أحد أن هذا الموقف ينطلق من دفاع عن روسيا مع كل الغزل بين بوتين ونتنياهو. ولكن للحق، وبالرغم من أن روسيا هي التي بدأت الحرب التي انطلقت في 24 شباط/ فبراير 2022، إلاّ أن أمريكا والناتو هما من سلّحا أوكرانيا، وراحا يسعيان لضمّها إلى حلف الناتو لتكون خنجراً في الخاصرة الروسية، يُهدّد أمنها القومي. لهذا فإن أمريكا، ومنذ الأيام الأولى للحرب، أعلنت أنها تستهدف إسقاط بوتين، وإنهاء روسيا كدولة كبرى، مما جعل الموقف الروسي من الحرب يتحوّل إلى مسألة “حياة أو موت” أو “وجود وتصفية”.
فمن هنا توجب أن تتوجه الضغوط العالمية على أمريكا لوقف هذه الحرب، وعدم وصولها إلى النهاية التي تسعى إليها: أي إنزال هزيمة حاسمة بروسيا.
ثم لا بد من وقفة أمام التطوّر الأوروبي الجديد إزاء إيران، فضلاً عن تصعيده للتدخل المباشر في الحرب ضد روسيا في اوكرانيا، وبحماسة لا تقل عن الحماسة الأمريكية.
يتمثل الجديد في الموقف الأوروبي، أولاً بانتقاله في موضوع الصراع الغربي مع إيران، من موقع الحريص على الوصول إلى اتفاق نووي، إلى فرض عقوبات جديدة على إيران بمثابة إعلان حرب. صحيح أن الموقف الأوروبي كان منحازاً عموماً إلى الجانب الأمريكي في موقفه المتعلق بشروط إحياء الاتفاق النووي 5+1، ولكنه ظهر في أكثر من جولة بأنه حريص جداً على عدم إضاعة الفرصة، التي كادت توصل “اللقمة إلى الفم”، كما يقولون
والسؤال: لماذا انتقل الموقف الأوروبي إلى هذا المستوى من العداء الذي تخطى العدائية الأمريكية ضد إيران، وذلك بالتوجه إلى إدراج الحرس الثوري وصولاً إلى إدراج الرئاسة، في قائمة الإرهاب، طبعاً مما يتعدّى أيضاً خطوات الحملات الإعلامية العدائية التي انطلقت حول موضوع الحجاب والمرأة، ومن إسلاموفوبيا حاقدة؟
إن محاولة الإجابة عن هذا السؤال تصل إلى البحث في استراتيجية جديدة أخذت أوروبا (أساساً ألمانيا وفرنسا وطبعاً بريطانيا) تتجه إليها، أي العودة إلى أوروبا التي أدخلت العالم في حربين عالميتين. وقد تركت أمور الحرب العالمية الثالثة لأمريكا، مع الابتعاد جزئياً عن المشاركة فيها، لتركز على تطوّرها الاقتصادي، وعدم مجاراة أمريكا في سياستها الحربية، وما تطلبته من إنفاق. وقد بدت هذه الاستراتيجية بأنها تميل إلى مستوى ما من الاستقلالية.
إن الدخول الأوروبي في الحرب الأوكرانية بلا هوادة، والآن الدخول بما يشبه الحرب ضد إيران، يعنيان ببساطة استراتيجية جديدة، تختلف نوعياً عما مضى من استراتيجيات بعد الحرب العالمية الثانية. ويعنيان بكلمات أخرى، أن أوروبا أصبحت طرفاً شريكاً مندفعاً في الحرب العالمية التي تخوضها أمريكا ضد روسيا والصين، الأمر الذي يزيد من الخطر النووي الذي أخذت تقترب منه الحرب الأوكرانية، والتأزيم مع الصين في تايوان
فبدلاً من أن تكون أوروبا أكثر حذراً وحرصاً، أو تكون عاملاً معتدلاً نسبياً، أخذت تتحوّل إلى أوروبا ما قبل 1917، وإلى أوروبا ما قبل 1939. ولكن هذا التحوّل يحتاج من القيادات الأوروبية إلى الدخول في صراع، مع رأي عام غير مستعد بعد لهذا التحوّل الاستراتيجي؛ لأن أكلافه الداخلية تتطلب إنهاء العيش في ظل دولة الرفاه، وفي ظل سلم مديد.
وجاءت مناسبة احتفال روسيا بذكرى الانتصار السوفييتي المدوّي في معركة ستالينغراد، في أواخر الحرب العالمية الثانية، ليذكّر بوتين ألمانيا بها. وذلك إشارة إلى القرار الألماني- الأوروبي- الأمريكي، إمداد أوكرانيا بدبابات ليوبارد الألمانية، ودبابات أبرامز الأمريكية، بما يرتفع بالاستراتيجية الألمانية إلى المستوى الذي ارتفعت إليه ستالينغراد، ومعركتها ونتائجها، وكان ذلك في حينه بداية بحسم الحرب ضد ألمانيا وحلفائها، الأمر الذي يؤكد بما لا يقبل الشك في أن أمريكا وألمانيا والناتو، بإرسال الدبابات المتطورّة وذخيرتها الأكثر تطورأً، ستصعد بالحرب إلى المستوى الأكثر خطورة، ولا سيما إذا لم تستطع روسيا تدميرها من خلال الأسلحة التقليدية، كما يتأكد بما لا يقبل الشك بأن الرد الروسي سيكون بلا هوادة. وبلا هوادة هنا، تعني الحسم بالسلاح التقليدي وإلاّ بالنووي.