أيام حزيران الباقية فينا- معين الطاهر
قبل حرب يونيو/حزيران 1967، انقسمت الأنظمة العربية إلى رجعية وتقدّمية، وتوالت الانقلابات العسكرية في سورية والعراق واليمن، واختلط فيها الحابل بالنابل؛ فبعضها جاء ضد أنظمةٍ ما زالت تعيش في القرون الغابرة كما في اليمن، ولأنّ قوى التغيير المحلية لم تكن قادرة على تحقيق شيء وحدها، غرق الجيش المصري فيها وسط حربٍ استنزفت قوّته. وبعضها الآخر كان تعبيرًا عن صراعاتٍ حزبية في المعسكر القومي واليساري، بل وفي داخل ما يُفترض به أن يكون حزبًا واحدًا، كما في العراق وسورية. لم تعد الجيوش هي ذاتها، ومع كل انقلابٍ كانت تُسرّح دفعة جديدة من الضباط، وأصبح الولاء معيار التدرّج في الرتب العسكرية، أو سببًا للسجن والنفي. هكذا انقسم العرب عربين بل أكثر، فالمعسكر التقدّمي ذاته عانى من انقساماتٍ وانقلاباتٍ وصراعاتٍ لا تقل عن التي خاضها ضد ما عُرف بالمعسكر الرجعي. والقيادة العربية الموحدة التي كانت قد شُكّلت في القمة العربية الأولى توقف عملها قبل الحرب بسنة، ولم يبقَ منها غير تعليماتها التي كانت قد أصدرتها لدول الطوق المحيطة بفلسطين، باعتقال الخلايا الفدائية الأولى التي كانت قد بدأت بشكل خجولٍ عملياتها المسلحة، واتهمتها بأنّها تسعى إلى توريط الدول العربية في حربٍ قبل أوانها. فجأةً، بدأت طبول الحرب تُقرع، حُشدت الجيوش، وسُحبت قوات الطوارئ الدولية من سيناء، وعلا أثير الإذاعات العربية، قبل تذخير مدافعها، تحثّ الصهاينة على الرحيل، قبل أن تستعد أسماك البحر المتوسط لالتهام من سيبقى منهم في أرضنا المحتلة.
حشد العدو كل مواطنيه للقتال، بعد أن درّبهم وسلّحهم، أمّا الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج فقد كان سلاحها الأوحد المتاح راديو ترانزستور، التفّت حوله، وامتلأت أملًا ويقينًا بأنّ النصر قادمٌ في الساعات القليلة المقبلة، وأنّ الإجازة الصيفية سيقضيها الجمهور العربي على شواطئ يافا وحيفا. من يجرؤ أن يُشكّك أو يتساءل؟ “لم يكن للجماهير دور في حرب يونيو/ حزيران 1967 سوى التصفيق والانتظار والأسى والحزن. أمّا الأنظمة فقد أثبتت أنّ الزعيم والنظام والحزب أهم من الوطن” في السابع من يونيو/حزيران 1967، وفي مدينة نابلس في الضفة الفلسطينية لنهر الأردن، تعالت الأصوات، ها قد وصلت الدبابات العراقية إلى البوابة الشرقية للمدينة. ركضتُ كغيري من الفتية لمشاهدتها والترحيب بها. امتلأت صدورنا حماسةً وقلوبنا يقينًا بأنّ العودة إلى يافا ستتحقق في غضون ساعات أو أيام. كيف لا وقد تواترت أخبار الإذاعات العربية معلنةً سقوط الطائرات الصهيونية كالذباب، وتقدّم الجيوش على مختلف الجبهات، وها هو الجيش العراقي يلتحق بها، وطلائع دباباته قد وصلت إلى نابلس.
تقدّمتُ كغيري نحو مدخل المدينة الشرقي، فوجدتُ دباباتٍ ترابط في زوايا الشوارع، وكلما جاءت أخرى يصفّق لها الجمهور الواقف على الأرصفة، أكّد أحد الحاضرين أنّها دباباتٌ عراقيةٌ وصلت حالًا، كيف لا وقد جاءت من جهة الشرق؟ تشجّعَ بعضنا وحاول التحدّث مع الجنود، ثمّ عاد ليخبر الجمهور أنّها دبابات جزائرية، مستدلًا على صحة قوله بأنّ الجنود يتحدّثون عربيةً متعثرة، لذلك فهُم حتمًا جزائريون. علّق آخرون أنّ الأهم أنّها طليعة الجيوش العربية الزاحفة. وبينما الجمع منشغلٌ بهوية الدبابات؛ عراقية كانت أم جزائرية، إذ برجلٍ عجوزٍ يحمل بندقية إنكليزية من بقايا الحرب العالمية الأولى، كان الجيش الأردني قد وزّع منها قبل ساعات أعدادًا محدودة، ومع كل بندقية خمس طلقات فقط، يأتي مسرعًا للترحيب بما ظنّه مقدّمة الجيوش العربية المنتصرة. وما أن لمحه أحد الجنود حتى عاجله بصلية رشاشٍ ليسقط الشيخ صريعًا. ظهرت الحقيقة أي كابوس حل بِنَا؟
رويتُ هذه القصة في حفل إشهار كتابي “تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم”، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقف بعضهم وروى قصصًا مشابهة حدثت معه، أو معها، في مدنهم وقراهم في أرجاء الضفة الفلسطينية. قلتُ لعلّها الحكاية الوحيدة الموثقة والمجمع عليها من حكايات الحرب، ذلك أنّ العدو الصهيوني نشر آلاف الوثائق عن الحرب، أمّا نحن فلم ننشر شيئًا، باستثناء الوثائق التي أوردها سمير مطاوع عن مجرى العمليات على الجبهة الأردنية، في كتابه عن الحرب، والبرقيات المتداولة بين الملك حسين والفريق عبد المنعم رياض والرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر، والمحفوظة ضمن أوراق أكرم زعيتر في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
ففي جبهات الحرب السورية والأردنية والمصرية هنالك أسئلة لم يُجَب عليها بعد خمسين عامًا على الحرب، وعلى الرغم من تغيّر الوجوه والعهود والأنظمة، ما زالت وثائق غرف العمليات العسكرية عن تلك الحرب محجوبةً عن متناول الباحثين. في ندوة أكاديمية حضرتها، أخيرا، عن نكبة حزيران، روى لنا لواء سوري أنّ لجنة شُكّلت لبحث أسباب الهزيمة قد مُنعت من دخول رئاسة الأركان، والنظر في أوامر العمليات الموجودة فيها. لم يعرف أحد كيف انسحب الجيش من الجولان قبل أن يسقط، ولا لماذا لم يضرب الطيران السوري القواعد الجوية الصهيونية في صباح الخامس من يونيو/حزيران، بينما كان الطيران الصهيوني كله في الأجواء المصرية. أمّا الجبهة المصرية، فثمّة مصادفاتٌ لم تُفسّر بعد، إذ تزامن تغيير الشيفرة مع لحظات الهجوم، ما حرم الجيش المصري من فك برقية الرادار الأردني عن حركة الطيران الصهيوني، وتزامن ذلك مع تغيير ورديات الطيارين، ورحلة المشير عامر إلى سيناء، والتعليمات التي صدرت “في جبهات الحرب السورية والأردنية والمصرية هنالك أسئلة لم يُجَب عليها بعد خمسين عامًا على الحرب” بتقييد الرمي بسبب وجود طائرة المشير في الأجواء.
ناهيك عن قرار الانسحاب العشوائي من سيناء وحالة الإرباك أو فقدان السيطرة. على الجبهة الأردنية، عاد الملك حسين من القاهرة، بعد توقيعه اتفاق الدفاع المشترك مصطحبًا معه على طائرته الفريق عبد المنعم رياض الذي تولى قيادة الجبهة قبل الحرب بأيام. انعكس الإرباك في قرارات القيادة العسكرية المصرية على الفريق رياض، المشهود له بالكفاءة، فكان أن حرّك اللواء المدافع عن القدس إلى الخليل للتوجه إلى النقب، لملاقاة فرقةٍ مصريةٍ، قيل له إنّها توغلت في النقب، وعندما تبيّن عدم صحة ذلك أُلغي الأمر، وكانت النتيجة أنّ ألوية الجيش الأردني دمّرها الطيران الصهيوني على الطرق. بتوقيع اتفاق الدفاع المشترك بين الأردن ومصر، وتولية الفريق رياض قيادة الجبهة الأردنية، لم يتحمّل الملك حسين مسؤولية الهزيمة، لكنّه فقد نصف مملكته في الحرب. وربما لو لم يفعل ذلك لفقد المملكة كلها، وتحمّل وحده مسؤولية خذلان العرب، والتسبب في هزيمتهم. لم يكن للجماهير دور في حرب يونيو/حزيران 1967 سوى التصفيق والانتظار والأسى والحزن.
أمّا الأنظمة فقد أثبتت أنّ الزعيم والنظام والحزب أهم من الوطن، وراجت بعد الحرب مقولاتٌ إنّنا لم نُهزم ما دام بقي هؤلاء. ولعلّ خلاصة القول في ما قاله الفريق عبد المنعم رياض الذي أصبح رئيسًا لأركان الجيش المصري، واستشهد على جبهة القناة، في تقريريه عن سير الحرب على الجبهة الأردنية، حين قال: “لقد جنت السياسة العربية على العسكرية العربية”، وأظنّها ما زالت تفعل .