أيذبل الزعتر الفلسطيني وحيدا؟ – بقلم /ناردين دمون (نجاة دحمون)
ـ ما بعد رواية زهرة زعترـ
عندما نجحنا بعد صعوبات كثيرة في طباعة رواية “زهرة زعتر” عن المناضلة الفلسطينية المتميزة :وداد عاروري” ظننت لوهلة أني أعرف عن “نانا وداد ” كل شيء ،وأني قد أديت واجبي معها بشكل جيد عموما ،لأتلقى بعد ذلك صفعات كثيرة أظهرت جهلي وأعطت لي براهين كثيرة عن سذاجتي…
فبعد أكثر من سنة على طبع العمل أكتشف من جديد هذه السيدة السبعينية المريضة التي تمتلك عنفوان الشباب وحيوية الربيع في آن واحد ،وأكثر ما أدهشني أن مراسلاتي التي لم أعد أذكر عددها لم تساعدني على معرفة بعض التفاصيل الموجعة عن حياتها هناك في عمان ( الأردن)،فقد حرصت كل الحرص على وضع تفاصيل الوجع في حياتها جانبا وأذكر مرة سؤالي لها:
ـ نانا وداد لا تحبين أبدا التطرق إلى حياتك الخاصة وبالكاد ،وبصعوبة أجبتني على بعض الأسئلة الخاصة لمَ كل هذا التكتم؟
فأجابتني:
ـ أريد أن يعرفني الناس كمناضلة عن فلسطين ولا أريد أن يعرف الجميع ضعفي أو وجعي…
واحتراما لاختيارها لم أكتب عن بضعة تفاصيل أخبرتني بها ففي القضايا الكبرى يظل الأهم دوما مواصلة درب النضال وتجاوز عقبات الألم والضعف ،لكن اليوم أخرج عن صمتي ـ دون إذن نانا وداد ـ لأروي لكم حلقة صغيرة من حياة نانا وداد الخاصة وأتمنى أن تغفر لي جرأتي فنواياي حسنة !
كان من المفروض أن تطبع زهرة زعتر قبل ستة أشهر من التاريخ الذي طبعت فيه ،تأخرنا كثيرا والعمل الذي خططنا أن ننهيه خلال سنة استغرق أكثر من سنتين لأسباب متعددة لن أخوض اليوم إلا في الأسباب الرئيسة وهي الحالة الصحية للسيدة وداد عاروري وزوجها محمد عبد اللطيف كراجة (أبو هيثم )،هي قصة معاناة متعددة الأوجه بفصول لم تنته بعد وبقائمة أمراض فرضها العمر وتعب النضال.
مناضلين فلسطينيين خاضا بإيمان بحر النضال في الأردن ثم في فنزويلا واختارا بعد سنوات من التعب والشتات العودة للأردن مرة ثانية ليكونا قريبين من الوطن ،وخلال تلك الرحلة المضنية ،الطويلة ربحا الكثير ماديا ووصلا في بعض سنين حياتهما للثراء ،لكن الزوجين لم يحتفظا بشيء لشيخوختهما ،كل ما ربحاه كان يصرف من أجل قضية فلسطين ،لم يفكرا في شراء بيت صغير ولا وضع مبلغ مالي في بنك ما لمواجهة أعباء الشيخوخة التي لا ترحم فكل همهما كان فلسطين،ومن يعرف الزوجين يشهد على تفانيهما وكرمهما سواء في فنزويلا أو في الأردن من أجل القضية…
وللنضال اختارا اليسار المتمثل في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقدما لهذا التنظيم كل ما لديهما من وقت وجهد ومال ،كما لم يبخلا في المشاركة في أي نشاط خارج هذا الحزب لإيصال صوت القضية الفلسطينية فسافرا على حسابهما الخاص إلى بلدان قريبة وبعيدة ،واستقبلا وفودا فلسطينية وأنفقوا عليها من حر ما لهما،وقدما محاضرات وكتبوا مناشير وكانوا في الصفوف الأولى للمظاهرات وفي المؤتمرات ،فحيث احتاجتهما فلسطين كانا هناك…
أيريدان ثمنا لذلك؟ قطعا لا .
أيطلبان الآن ـ ومحمد كراجة ( أبو هيثم) ينتظر نتائج الفحوصات لتبتر ساقه التي حملته بعيدا من أجل فلسطين ،ووقفت كثيرا من أجل القدس ـ مساعدة؟
الإجابة هي :لا.
لن أخفي عنكم أمرا لقد عرضت عدة مرات على نانا وداد المساعدة ورفضتها بعنف أحيانا وبلطف أحيانا أخرى ،حتى أنها هددتني بأنها ستعيد لي أي مساعدة سأرسلها لها وثارت غاضبة لأني فكرت في الأمر وكانت ستقاطعني من أجل ذلك،وكانت تجيبيني دوما:
ـ أنا أفضفض معك فقط يما…
لماذا أكتب الآن إذن؟ عن أسرة ترفض العون والمساعدة؟
سؤال ممتاز، لنعكس السؤال إذن :
ـ ولمَ لا أكتب؟
ثم هما يرفضان مساعدتي أنا الغريبة عنهما والبعيدة عن تفاصيل حياتهما رغم أني أعرف الكثير ،ففي النهاية سأظل الكاتبة الجزائرية محبة والمساندة لفلسطين فقط ولن أحب فلسطين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم …أي سأظل غريبة ولن أكون قريبة قرب الفلسطيني الحقيقي من هذه الأسرة الرائعة.
أكتب الآن ـ ودون إذن ـ لأن رفض المساعدة المادية لا يعني ترك أبو هيثم وأم هيثم وحيدين يعانيان المرض في بيت صغير مستأجر في عمان ،وكل صباح تقريبا تحمل سيدة سبعينية مرضها وقلقها وخوفها لتزور الزوج المنهك في أحد المستشفيات الحكومية دون أن يلتفت أحد لمعاناتهما …فهناك دروب متعددة لكسر جدار وحدتهما وحزنهما.
أكتب الآن لأن آلاف الفلسطينيين ـ الأردنيين قادرين على زيارة أبو هيثم والتخفيف من معاناة نانا وداد بمساعدتها بأي شكل من الأشكال ولو بكلمة طيبة وباقة ورد صغيرة لمساعدتهما على تجاوز المرحلة الأسوأ من حياتهما …
أكتب الآن أملا في تحرك أصدقاءهما القدماء من كوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ،مثل صديقهما القديم نايف حواتمه وبعض معارفه وليلتف هؤلاء حول فلسطين بالتفافهما حول هذاين المناضلين العتيدين في هذا الحزب…
أكتب الآن لأن ما يحدث لهما من تهميش سيؤثر على قضية فلسطين كاملة ،لا داعي للاستغراب هكذا فأي شاب فلسطيني يعرف عن كثب تضحيات آل كراجة ويرى مصيرهما قد يتخلى عن فكرة النضال ويختار تأمين مستقبله وشيخوخته وعدم الزج بنفسه في حرب لن يجد أحد في نهايته ـ وليس في نهايتها ـ كي يعيش بكرامة…
أكتب الآن لأن بعض المناضلين الفلسطينيين من أي تنظيم كانوا قادرين على إحاطة آل كراجة بالاهتمام والحب لتعليم الأجيال القادمة أن من يضحي بفلسطين سيلقى الاحترام والحب ودوما وان فلسطين لا تدير ظهرها لمن أحبها من أبنائها …
أكتب الآن لأن الهيئات الفلسطينية قادرة على مد يد العون لآل كراجة بمساعدتهما على التكفل بمصاريف العمليات الجراحية التي يحتاجانها فأبو هيثم قد تبتر ساقه وأم هيثم أجلت عمليتها الجراحية لعجزها على توفير تكلفة العملية …
أكتب الآن لأن الخير إن زرع في حجر ـ كما نقول نحن الأمازيغ ـ سيثمر والزوجان زرعا في دربهما غابات خير دوما وفي أرض خصبة وليس على أحجار صوان…وأنا أكتب عن معاناة الزوجين ما زالت وداد عاروري موظفة لدى الاتحاد العام للنساء الأردنيات ،وما زال عطاؤها مستمرا من خلال الحملة التي أطلقتها من شهور لمساندة أهل غزة ـ حملة فرشة وحرام ـ وأرسلت أول دفعة للحملة منذ أيام فقط …ما زالت تخرج للتظاهر وتساعد غيرها وهي في أمس للحاجة للمساعدة وتأبى أن تطلب أو تقبل عونا …
أكتب الآن لأني أحب “نانا وداد” وأعتبرها مثل أمي وأعرف معنى أن يظل الواحد وحيدا في أرذل العمر وأمراض الشيخوخة تعصف بجسده ولا يستطيع مواجهة ذلك بدون إهدار كرامته…
أكتب الآن لأن لا أملك إلا قلمي لمساعدتها وإسماع صوتها كما أسمعت هذه السيدة وزوجها صوت فلسطين لأكثر من ثلاثة عقود وحان الوقت لأن يشعرا أن ما زرعاه من خير أينع وأثمر…
أكتب الآن لأني أؤمن بأن الفلسطيني الحر لن يتخلى عن فلسطيني ضحى بكل شيء من أجل وطنه وبأنه سيمد يد العون لمن أفنى عمره ليعيش هو ذات يوم تحت راية الحرية …
فأتمنى أن يصل صدى كلماتي حيث يسمع وأن تحاط السيدة وداد عاروري وزوجها محمد عبد اللطيف كراجة بالعناية المساعدة التي يجب أن يحظيا بها من أجل فلسطين ،من أجل الحرية ،من أجل زرع فسائل الإيمان في قلوب الأجيال القادمة.
بقلم /ناردين دمون (نجاة دحمون)
البريد الالكتروني: nanidjet2010@gmail.com
أيذبل الزعتر الفلسطيني وحيدا؟ – بقلم /ناردين دمون (نجاة دحمون)