إحياء ذاكرة التاريخ في رواية “سافوي” للكاتب مهند الأخرس
الكاتب والناقـد/ ناهــض زقــوت
يتفق النقاد على أن الرواية التاريخية هي شكل من أشكال الرواية الحديثة التي تُعبّر بشكل مباشر عن الواقع التاريخي وعمليات التحول لدى المجتمع والإنسان من خلال إعادة سرد التاريخ وإعمال خيال الروائي في الأحداث، أي أنها الرواية التي يمتزج فيها التاريخ بالخيال، وتهدف إلى رسم أحداث واقعية بأسلوب روائي مبني على معطيات التاريخ، وقد تتخذ من الذاكرة طريقاً لاستعادة تاريخ الأحداث.
بهذه الرؤية نقرأ رواية “سافوي” وهي الرواية الثانية للكاتب الفلسطيني المقيم في الأردن مهند طلال الأخرس، والصادرة عن دار اليازوري بعمان عام 2022، وجاءت في 240 صفحة. تعيد إحياء ذاكرة حدث تاريخي في مسيرة الثورة الفلسطينية.
عتبة العنوان:
سافوي اسم علم مشهور لا تخطئه ذاكرة كل الذين عاشوا فصول الثورة الفلسطينية في بيروت والأراضي المحتلة في سبعينات القرن الماضي، وهذه الكلمة ليست مجردة بل تحمل العديد من الدلالات العميقة التي تضرب بجذورها في تاريخ الثورة الفلسطينية. ورغم سلسلة العمليات الفدائية الجريئة والنوعية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في سبعينات القرن الماضي، فقد كان لعملية سافوي تميزها الفريد في تخطيطها وتنفيذها ونتائجها أيضاً، ومثلت الخرق الأمني الأكبر في التاريخ العسكري “الإسرائيلي”.
التقط الكاتب هذا الفعل الثوري، وصاغ حوله روايته “سافوي” التي تحمل اسم الفندق الشهير في تل أبيب الذي تحصن فيه الفدائيون الفلسطينيون. إيمانا بفكرة أن التاريخ الفلسطيني يبدأ من الثورة، وإذا تخلينا عن الثورة والكفاح خسرنا وجودنا وأهدافنا كفلسطينيين. لقد آمن الكاتب/ السارد بفكرة المفوض السياسي حين قال: “إذا أردت أن تلغي شعباً ما، عليك أن تبدأ بشل ذاكرته التاريخية، ثم تشوه لغته وثقافته، ثم تلفق له تاريخاً غير تاريخه، وتعلمه إياه وتجعله يتبناه، بالتالي ينساه العالم ويصبح من الأمم المنقرضة”(ص29). فكتب هذه الرواية بهدف إحياء الذاكرة الفلسطينية للأجيال الجديدة، بتقديم تاريخهم النضالي والكفاحي الذي يفتخرون به.
في الخامس من آذار عام ١٩٧٥ انطلق ثمانية فدائيين لتحقيق هدف سام، وهو تنفيذ عملية فدائية كبرى في هذا الفندق وما جاوره من مؤسسات “اسرائيلية” رداً على اغتيال القادة الثلاثة كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار في بيروت ليلة العاشر من ابريل/ نيسان عام 1973. وقد تمكنوا من تنفيذ عمليتهم وتدمير الفندق وقتل الرهائن، والاشتباك مع قوات الجيش الاسرائيلي، بعد أن رفضت السلطات “الاسرائيلية” تنفيذ مطالبهم بالإفراج عن أسرى فلسطينيين في معتقلاتهم، واستشهد أفراد المجموعة ما عدا واحد منهم وتم اعتقاله وهم: خضر أحمد جرام (الملازم خضر)، قائد المجموعة، وعمر محمود محمد الشافعي (أبو الليل الهندي)، وأحمد حميد أحمد أبو قمر (أبو عبيدة الجراح)، وعبد الله خليل عبد الله كليب (مصالحة خليل الهزّاع)، ومحمد ضياء الدين الحلواني (عصام بهاء الدين السيوفي)، وموسى العبد أبو ثريا (موسى عزمي)، ونايف نجد إسماعيل الصغير (زياد طارق)، وموسى جمعة حسن (موسى أحمد)، وهو الناجي الوحيد. وقد تمكن الفدائيون من قتل وجرح العشرات من ضباط وجنود “اسرائيل”، وحسب المصادر الإعلامية يتراوح رقم القتلى ما بين (50 إلى 100) قتيل، والجرحى ما يزيد عن 150 جندياً وضابطاً، ومن ضمن القتلى العميد في الجيش “عوزي بائيري” أحد كبار ضباط الاستخبارات “الاسرائيلية” الذي قاد عملية الفردان وأدت إلى اغتيال القادة الثلاثة.
تأخذ عتبات السرد الداخلية تواصلاً مع العنوان الرئيسي لتأكد على مدى الارتباط الكلي بين عنوان الرواية وفصولها، فكل عنوان من عناوين فصول الرواية يأتي هكذا (سافوي1، سافوي2، سافوي3 …) وصولاً إلى (سافوي40) وهي تحديداً عدد السنوات التي مرت على تنفيذ العملية، وهذا يعني أن الرواية استغرقت من الكاتب سنوات طويلة في كتابتها حيث بدأ منذ عام 2015، وحتى نشرها في عام 2022. ومن لا يعرف الكاتب يشعر كأنه أحد المقاتلين في العملية، وهذا دلالة على العبقرية الابداعية التي يتمتع بها الكاتب، الذي كان عمره عام واحد حين نفذت العملية، فهو من مواليد مخيم البقعة في الأردن عام 1976، وتعود جذوره إلى قرية دير الذبان في الخليل. حاصل على بكالوريوس حقوق من جامعة جرش. يعمل محامياً ومستشاراً قانونياً في مخيم البقعة. يكتب الرواية والمقالة السياسية والثقافية، والمحرر المسؤول لعدد من المجلات الفلسطينية والعربية، وشارك في عدة لقاءات ومحافل ثقافية محلية ودولية. حازت روايته الأولى “الجرمق” (الصادرة عام 2017) على المركز الأول في مسابقة ملتقى فلسطين للرواية للمبدعين الشباب في رام الله.
الأحداث وبناء الرواية:
تعتمد الرواية في بناء سرد الأحداث على عدد من التقنيات الفنية، فنجد استخدام ضميري الأنا المتكلم والغائب من خلال التراوح بينهما، وهذه التقنية تعد من أهم مميزات الرواية الحديثة، فهي لا تسمح بتميز الشخصيات عن بعضها البعض فكلهم في مستوى واحد من الحدث. في المعسكر مكان انطلاق الأحداث وتداعياتها يقول: “لا فارق ولا طبقات، هنا هدف واحد هو فلسطين وخطاب واحد يا أخ”(ص16).
ونجد ضمير “الأنا” السارد يفرض على السارد العودة للماضي أو للوراء، لحكي معطيات الوقائع التاريخية، فتلجأ بذلك الشخصية لتقنية الارتداد أو الفلاش باك، لقص ما يرتبط بحياتها، وهذا ما كان إذ يستكمل الكاتب ابداعه في بناء الرواية بتقنية استرجاع الذاكرة (فلاش باك) لاستعادة الأحداث، وهذه التقنية هي الأكثر انسجاماً في سرد الأحداث ومتوافقة مع لعبة الضمائر، حيث أن هذا الحدث يتم استعادته بعد أربعين عاماً من وقوعه على لسان الفدائي الأسير الذي تم أسره. ويكون ذلك طبعاً بضمير المتكلم الذي يعبر عن حميمية وبساطة، وقدرة على تعرية النفس من داخلها عبر خارجها، وتواجد مثل هذا النمط السردي في هذا العمل الروائي، يجعل “الأنا” مجسدة لما يطلق عليه “الرؤية بالمصاحبة” في عرض الأحداث ونقلها للمتلقي، وذلك بحكم وجود السارد كشخصية في النص، أي أن كل معلومة سردية، أو كل سر من أسرار الشريط السردي، يغتدي متصاحباً مع “أنا” السارد.
وهنا تتضح المفارقة الزمنية بين زمن وقوع الحدث وزمن السرد الحكي، فثمة أربعون عاماً بين الزمنين، وبهذا يتضح أن السرد بهذا الضمير، ينطلق من الحاضر نحو الوراء، فالحدث من خلاله يصنف على أنه قد وقع بالفعل.
ومما يؤكد على هذه المفارقة استخدام ضمير الغائب الذي يمكن السارد من ابداء وجهة نظره في مسيرة الأحداث، دون أن يشعر القارئ بأنه يقحم نفسه في صناعة الحدث، بل يصبح شاهداً أو مجرد راو للأحداث، أي أنه يسوق الحكي إلى الأمام، ولكن انطلاقاً من الماضي، مؤكداً أن السرد الذي من أجله كانت الحكاية، ودارت عليه الرواية، وهذا يعني إن شئت: أنا وإن شئت أنت، فأنا هو، وهو أنت، إذ “هو” يعني الوجود في جملته ودمامته وسعادته وشقاوته وبدايته ونهايته، فكأن هو، هو الذي يجعل السرد رواية والرواية سرداً.
تميزت هذه الرواية بأسلوبها الدائري حيث تبدأ من حيث انتهت، لتدور دورتها في استعادة ذاكرة الفدائي الأسير من الزنزانة التي اعتقل فيها، ليروي حكاية عملية سافوي باسترجاع الذاكرة كما ذكرنا، نقرأ في صفحة (239) “في الزنزانة أفقت من جديد لأجد نفسي على السرير بعكس ما كنت أستلقي، كانت الدماء تقطر من كل أنحاء جسدي، لم أستطع تحريك أي قطعة من جسدي، وحده الأنين كان يملأ الزنزانة ويعود صداه لي مواسياً”، بهذه الجملة التي ينهى بها الرواية، يعود في صفحة (7) يكررها ليواصل بها أحداث الرواية، يقول: “لا أعرف ماذا جرى، لكني وجدت جسدي ممدداً على السرير الحديدي عكس ما استلقيت عليه، الرأس مكان القدمين، ويدي الاثنتين تغطيان بطني كأنها تتحسس مكان ضربة ما”.
وإلى جانب استرجاع الذاكرة كان الحلم مسانداً للسارد في روايته، هذا الحلم القائم على الإيمان بالفكرة وقوة الإيمان بتحرير الوطن بالكفاح المسلح، هذا الحلم الذي تركز على شخصية وحيدة وهي شخصية خليل الوزير أبو جهاد، ليؤكد قوة ارتباط الفدائيين بشخصيته، وايمانهم بدوره في حياة الثورة، فهو الذي أشرف على تجهيزهم وتدريبهم لتنفيذ العملية، وكان دائم الزيارة لهم في القواعد وميدان التدريب، وتعلق كل الفدائيين بشخصيته يقول السارد: “كان حين يزورنا طيفه في أحلامنا نستفيق باكرين ننتظر قدومه في أية لحظة، أصبح انتظار حضوره يطغى على أيامنا، كنا نرى تلك الابتسامة حاضرة معنا، وكذلك النور”(ص5). لقد سيطرت شخصية أبو جهاد على أحلام الشباب حتى ذابت كل الصور وتساقطت كحبات المطر وبقيت صورته حاضرة عندما ذابت كل الصور.
وانطلاقاً من البعد الثوري – التاريخي للرواية فقد غابت البطولة الفردية فيها، لأن الأحداث لا تحتمل البطولة الفردية، فالحدث عملية فدائية يتشارك فيها مجموعة من الأبطال (ثمانية أبطال)، كل واحد منهم له دور منذ بداية التدريب حتى تنفيذ العملية، وأحياناً يشعر القارئ أن الكل راو لأحداث الرواية. أما شخصية أبو جهاد باعتباره المحرك الرئيس للعمليات والمشرف على تنفيذها وتدريب عناصرها، فهو جزء من هذا المجموع في بطولة الأحداث. يقول السارد: فأصبحت أحلامنا مُلكاً لأبي جهاد، وكان هو مُلكاً للثورة، كانت أيامنا تتزين فرحاً بحضوره، كانت كل الأحلام متشابهة وكان بطلها الدائم أبو جهاد”(ص5).
ولم يحمل أبطال الرواية أسماءهم الحقيقية بل الأسماء الحركية أو ما يدل على شخصيتهم، وذلك بعد أن أمرهم القائد بالبحث لهم عن أسماء حركية، وقد أصيبوا بحيرة شديدة في عملية الاختيار، حيث كانوا يعتزون بأسمائهم، يقول السارد: “في أثناء التجوال بالمعسكر والتنقيب في صور البطولة وصفحات التاريخ بغية البحث عن الاسم الحركي اقترب مني أحدهم وطلب رأيي في اسم باجس الذي اختاره لنفسه، فابتسمت وقلت: نعم، هكذا يكون الوفاء. فأجابني: أنا لا أحب إلا اسمي الذي أسماني به أبي وأمي ومضى”(ص18). ولكن الدواعي الأمنية تفرض عليهم الالتزام هذا الأمر. فنجد السارد يختار اسماً حركياً “خليل هزاع” الذي يوازن فيه بين الاسم الحركي واسم والده وشخصية يعتز بها والده، يقول: “شجعني ذلك الحديث أن لا أبتعد كثيراً عن اسمي الحقيقي، كنت أحب اسمي واسم أبي أيضاً، نجحت بالتخلي عن اسمي، ولكني لم أستطع التخلي عن اسم أبي”. أما الاسم الأخر الذي اختاره هو “مصالحة” فقد كانت له ذكرى يستمدها من والده، فيعود بذاكرته إلى شخصية الفدائي “محمد توفيق مصالحة” المهندس الدكتور خريج جامعات ألمانيا، والذي قاد عملية ميونخ عام 1972، وكان والده فخوراً ومعتزاً بشخصيته، ودائم ترديد اسمه، فاختاره السارد اسماً له ليصبح مصالحة خليل هزاع(ص20).
أما السارد للأحداث فهو فرد من المجموعة يروي أحداث العملية، سواء ما سبقها أو يروي ما تم حين تنفيذها، مما يعني أنه مطلع على كل أحداثها. وهذا يعود بنا إلى الأسير الذي اعتقل ويحمل اسم حركي “الغضنفر” (حامد أحمد نديم درويش/ ضابط الاتصال مع القيادة) الذي بقي على ظهر السفينة يراقب العملية، وهي سفينة شحن لبنانية مملوكة باسم النائب اللبناني معروف سعد، ويقودها طاقم مصري، وهي التي حملت الفدائيين إلى المياه الاقليمية لتنفيذ العملية. وفي المعتقل يتعرض للتعذيب الشديد، ويحاول المحقق الاسرائيلي مواجهته بالأسير “موسى جمعة” الذي بقي تحت الركام حتى صباح اليوم التالي ليشتبك مرة أخرى مع قوات الاحتلال قبل أن تنفذ ذخيرته ويقع في الأسر، إلا أنه لم يستطع التعرف عليه لشدة التعذيب الوحشي الذي تعرض له يقول: “كنت قد هنت على نفسي بعد أن رأيت موسى برأسين!. لم أعد أحتمل كل تلك التفاصيل، فأغشي علي”(ص238). وحين وضع في الزنزانة بدأ في استعادة التفاصيل ورواية الأحداث.
وبعد سنوات، وفي صفقة تبادل للأسرى تم الافراج عن الأسيرين، وفيما نعتقد كانا المعين الحقيقي للكاتب في استرجاع أحداث العملية وتاريخها لصياغة هذه الرواية.
تذخر الرواية بالعديد من الأسماء ولكل منها دور في حياة المعسكر وتدريب الفدائيين الذين أحضرهم أبو جهاد، يقول: “عاد أبو جهاد مرة أخرى يزورنا في المعسكر، لكن هذه المرة كان برفقته أربعة عشر شاباً، طلب منا أن نعتني بهم جيداً وأن ندربهم على فنون الحرب وركوب البحر”. فنجد أبو نزار قائد المعسكر، المسؤول عن التدريب، وهو أمين سر حركة فتح في اللاذقية ومخيم الرمل، وهو الذي هيأ المكان لكي يصبح معسكراً للتدريب من جيبه الخاص، فقد كان هذا المكان مقهى صغير فقير، دفع لصاحبه الخلو البسيط، وحوله إلى معسكر وقاعدة بحرية(ص17).
وهناك شخصية المفوض السياسي محجوب عمر، المسؤول عن تنمية الوعي والتثقيف السياسي، والذي يزرع فيهم الفكر الثوري. كما يرصد السارد أسماء عديدة كان لها دور في التدريب وقيادة المعسكر(ص16). بالإضافة إلى أسماء زوار المعسكر من قادة المعسكرات المجاورة، أو من الوفود الأجنبية التي كان على رأسها الكاتب والمفكر الفرنسي جان جنينه الذي عاش بين الفدائيين مناضلاً من أجل القضية الفلسطينية، وكتب كتاباً بعنوان (أسير عاشق) يتحدث عن تجربته في الثورة الفلسطينية(ص34)، وكذلك الفدائي الزاهد وهو الأمير الكويتي أبو الفهود (الشيخ الأمير فهد الأحمد الجابر الصباح) الذي جاء زائراً للثورة فبقي مناضلاً بين صفوفها(ص36).
ومن الشخصيات المهمة والتي لعبت دوراً مركزياً في العملية ربان السفينة وطاقمها التي حملت الفدائيين الثمانية لتنفيذ عمليتهم، وهم الطاقم المصري الذي لم يتردد في المشاركة في العملية: محمد عباس قبطان السفينة، وشاليتا، وماهر ابراهيم، وعيسى الريدي من طاقم السفينة، كما ذكرت الرواية. أما التاريخ فقد حفظ أسمائهم: عيسى إبراهيم الريدي، وماهر إبراهيم الريدي، ومحمد عباس الحليلي، ومحمد عبد المنعم جودة، ومحمد حسن سعد. وهؤلاء تم اعتقالهم وقضوا سنوات طويلة في المعتقل الاسرائيلي.
إن كل ما نكتبه عن الرواية لا يغني عن قرأتها فهي المتعة الحقيقية، فالرواية غنية بالتفاصيل والأحداث والذكريات المزوجة بالألم والفقدان والاستشهاد، فهي لم ترو حكاية العملية انطلاقاً من عنوانها، ولكن الكاتب يأخذنا إلى مكان الأحداث ليخلق منه مكاناً لبناء الشخصية الثورية المؤمنة بالكفاح طريقاً للتحرير، فمن بناء المعسكر إلى عناصره وقادته يقدم السارد صورة متكاملة لمعسكرات الثورة الفلسطينية، ومدى رعايتها واهتمامها بالمقاتلين، ويشرح تدريبات المعسكر، وتدريبات البحر والزوارق المطاطية، وعلاقة العناصر بقادتهم، واختيار الأسماء الحركية ودلالات الاختيار، وأسماء الدورات البحرية، والاعتزاز بفدائيي العمليات الفدائية وتعليق صورهم بجوار أسرة نومهم، وارتباط الأغنية الثورية بحياة الفدائيين.
وقد حمل المكان إلى جانب البعد النضالي حكايات الوجع الفلسطيني المتمثل في النكبة الفلسطينية وتداعياتها على الشعب الفلسطيني. حيث تبدأ حكايتها من معسكر التدريب الذي اقامته الثورة الفلسطينية في منطقة جبلة على الساحل السوري، تلك المنطقة التي خلدها التاريخ فهي التي أنجبت قادة عظام أمثال عز الدين القسام قائد ثورة ال36 في فلسطين، والطيار جول جمال مفجر البارجة الفرنسية في عدوان 1956، وقد حمل تاريخ المكان بعداً قومياً يؤكد على مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للعرب، واحتضان الشعوب العربية للثورة الفلسطينية التي تجلت في حفل الزفاف الذي عقد في المعسكر وكان لحفيدة القسام على أحد المتدربين في المعسكر، وحضور خطيبة الطيار جول جمال (جاكلين بيطار) التي رفضت الارتباط بأحد بعد استشهاده، فقد امتلأ المعسكر بأهالي جبلة دلالة على شدة العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والسوري، وحضر احتفال العرس العديد من الوفود المتضامنة مع الثورة، فكانت نادية لطفي، والفنان عدلي فخري، ووفود أجنبية حتى لم يعد فيه مكاناً لأحد، وقامت عناصر المعسكر بخدمتهم(ص100-109). ومن هذه البلدة ومعسكرها الفلسطيني انطلقت نوارس العودة لتنفيذ عملية سافوي بعد الحفل مباشرة حيث التقطت صورة جماعية لهم، وبعدها توجهوا إلى بيروت، حيث أقاموا بأمر من القائد أبي جهاد في شقة الشهيد محمد يوسف النجار، لما يحمله هذا المكان من دلالة مقصودة أرادها القائد، وحثهم على الثأر لهم، وقد حققت رؤيته أهدافها فقد فجرت فيهم غضب لا ينتهي، وحفزتهم لتنفيذ العملية.
أخذ أبو جهاد يشرح لهم تفاصيل العملية على خريطة الأماكن، ويوزع عليهم المهام، ويتابع معهم تفاصيل استحضار المكان في أذهانهم، واجراءات تنفيذها، وكانت معنويات الشباب مرتفعة يقول السارد: “تصاعدت المعنويات وأخذت تتحفز، حتى أن بعضنا بدأ يغلي وبدا ذلك واضحاً على حركة الشباب، لم تكن تهدأ، كانت أقدام الجميع تتحفز للسير فوق موج البحر، لم يعد بالإمكان بعد الآن أن يقف في وجهنا أي شيء، لقد أصبحنا نرى أنفسنا منذ الآن نخترق شوارع تل أبيب ونطهر الأرض بخطواتنا، تلك السماء سماءنا لن تحميهم من رصاصنا”(ص140).
لم يكن معسكر التدريب مكاناً عادياً بل فضاء ممتداً يعبر عن الثورة الفلسطينية وتاريخها الكفاحي، وحكايات الأفراد داخل المعسكر تعبر عن المخزون الثوري الذي يحمله كل فدائي فلسطيني ومدى ارتباطهم بالثورة، وحنينهم الدائم للعودة للوطن. فنقرأ حكاية المرأة سرحانة وابنها الشهيد باجس الذي استشهد في انفجار المعسكر، هو شقيق الفدائي ذيب المتدرب في المعسكر، وحديث أبو جهاد عن دلالات الأسماء ذيب والسرحانة، وحكاية موسى وترك أهله بعد أيلول، وحكاية الشهيد عائد البجيرمي الذي قدم من العراق ليقاتل في صفوف الثورة، وهو ابن قرية اجزم، وحكاية اللجوء الفلسطيني إلى العراق، وكيفية استقبال محمد توفيق البجيرمي الممثل والاعلامي في التلفزيون السوري لجثمان أخيه، وانتقاد الموقف العربي الذي أغلق الحدود ورفض استقبال جثامين الشهداء، وحكاية حمزة يونس الذي جسد البطولة في فراره من سجن الرملة، وحكاية المناضل باجس أبو عطوان في جبال الخليل، وحكاية الفدائي عز الدين الذي أصيب بكسر في المعسكر فلم يجلس على سرير الراحة بل كلف بعمل متابعة الأخبار ورصدها، وكانت الأخبار التي يسجلها تعبر عن المرحلة وزمن سرد الأحداث، وتبرز هيمنة القضية الفلسطينية على الإعلام.
سافوي من أجل الحرية:
إذا لم تصل بالكفاح إلى أهدافك، يكفي أن يسمع العالم صوتك مطالباً بحريتك، لذا لم تكن هذه العملية هدفها القتل، بل البحث عن الحرية للآخرين الذين ناضلوا لكي تبقى الثورة مستمرة. قبل انطلاق المجموعة نحو هدفها سلم أبو جهاد قائد المجموعة “خضر” ورقة تحمل أسماء أسرى فلسطينيين يطالبون بالإفراج عنهم بعد احتجاز الرهائن(ص138)، وسلم “نايف” نائبه رسالة ثانية موجهة للعالم تقول: “نحن لا نقاتل لأجل الدم أو العبث، نحن مناضلون من أجل الحرية، … نحن لسنا وحدنا في هذا العالم، نحن جزء صغير منه قررنا أن لا نكون مغلوبين على أمرنا، قررنا العيش بحرية … يجب مخاطبة العالم ودق الأجراس إلى أن تستفيق ضمائرهم”(ص139).
ينطلق الفدائيون على ظهر السفينة متسلحين بوطنهم الذي تجلى أمامهم، وخطة أبو جهاد، وحين وصولهم واقتحام فندق “سافوي” بعد أن قتلوا موظف الاستقبال وشرعوا بتجميع الرهائن من بين نزلاء الفندق، حيث جمعوهم في غرفة قريبة من مكان تحصنهم، وفخخوا الغرفة والمكان بالمتفجرات والعبوات الناسفة وهددوا بقتلهم جميعاً إذا لم تطلق “اسرائيل” سراح عشرين فدائياً فلسطينياً من سجونها خلال أربع ساعات. وقد حاصرت قوات الجيش “الاسرائيلي” لهم، وما بين مراوغة الجيش “الاسرائيلي” كانت الاشتباكات والتحصينات قائمة، والمفاوضات مستمرة ولكنها لم تكن تبشر بالخير، كانوا يفاوضون وقواتهم تحتشد وتزداد، في محاولة لكسب الوقت، وقد تحقق ما قاله أبو جهاد لقائد المجموعة: “يا خضر كونوا حذرين في تلك اللحظات، فالاحتلال يراوغ النملة وينسل كالسارق برمش العين، إياكم وأن يغافلوكم، وإن شعرتم بشيء من هذا فاذهب إلى الجزء الأخير من الخطة”(ص140).
استبسل الفدائيون في القتال ضد جنود الاحتلال ورفضوا الاستسلام، لأكثر من خمس ساعات من القتال المتواصل، وكانت تعليمات وتوجيهات أبو جهاد حاضرة في كل خطوة يخطونها، خدعهم الاحتلال واقتحم الفندق، وانتهت العملية باستشهاد منفذيها بعد نفاذ ذخيرتهم، واعتقال أحدهم، كما أشرنا سابقاً.
تعد رواية “سافوي” من أجمل الروايات التي يمكن تحويلها إلى عمل سينمائي، لما تحمله من حبكة درامية متماسكة ومتقنة البناء الفني. فمن “سافوي24 إلى سافوي35” تشعر في هذه الفصول التي تتحدث عن تنفيذ العملية والاشتباك مع العدو، بعبقرية الكاتب وإبداعه إذ جعل القارئ يشعر كأنه في قلب الحدث ومع المقاتلين في الفندق، وذلك لشدة تركيزه على التفاصيل، ورسم خطوات المقاتلين في مواجهة العدو، والانتقال من مكان إلى آخر في قلب الفندق لإغلاق أية خروقات يمكن أن تحدث. استطاع أن يعيد ترتيب خيوط التاريخ مع المتخيل السردي ليعبر عن القيمة الإنسانية للعمل الثوري الفلسطيني.