إدوارد سعيد بين ديالكتيك النص والطبقة – د. عادل سمارة
إدوارد سعيد بين ديالكتيك النص والطبقة يغطيه النقد وتحرجه السياسة ويحاصره الاقتصاد السياسي
د. عادل سمارة
نُشرت في مجلة كنعان العدد 140 كانون ثانٍ 2010
-1 مدخـــل
توحي العقلانية للوهلة الأولى أنها في نظر فئة من الناس، لنقل النخبة بل القشرة، مسألة في الإنتاج الفكري المجرد، والمحرَّ ر من تواصل الحواس وغبار التراب والارتطام بحجارة الواقع بصراعاته الاجتماعية، تجريد خالص، ﹼمحرر من اتخاذ الموقف ومن عبء التطبيق، الذي يفترض قيام الآخرين به. الآخرون الذين يفكَّر لهم “المثقف”، لا يفكرون لأنفسهم. لا خيار سوى أن يفكر لهم (أفراداﹰ وأمماﹰ وجغرافيا وزمناﹰ كذلك).
ومن جانب آخر، فالعقلانية لا معنى لها إن لم تكن من أجل الواقع، بل هي نتاج لوجوده، أسبقيته وحضوره. فالعقلانية، كفكر، نتاج لضرورات الواقع الذي يقدم المغاليق ومفاتيحها معاﹰ. ولكي لا يكون الأمر مجرداﹰ، فالعقلانية لا حضور ولا معنى لها ما لم تكن إنسانية/ مجتمعية/طبقية في التحليل الأخير، كنتاج. “ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل العكس، إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم”.
إذا كانت العقلانية بمعنى ما هي الإيمان بالتقدم، ناهيك عن العمل من أجل ذلك، فهذه الورقة محاولة لاختبار أو تجليس فكر سعيد من حيث مساهمته في هذا الشأن على الصعد المحلية والقومية والعالمية (كتاريخ لجغرافيا وليس لأعراق)، بما أن أطروحاته تتناول هذه المستويات.
وهذا يطرح سؤالاﹰ: ما هو معيار تقييم عمل ما بأنه عقلاني أم لا؟
هل توظيف النتاج الفكري لخدمة ﹼأمة ما ﹲعمل ٌّ عقلاني، بالمعنى الإنساني، لمجرد الانتماء إليها؟ وهل الخطاب الثقافي المحايد قومياﹰ و/أو طبقياﹰ هو عمل عقلاني إنساني؟ أم أن الخطاب العقلاني هو الخطاب النقدي بما هو خطاب موقف ومنهج حيث تفرض نقديته موقفاﹰ ما من السلطة السيطرة/القمع/الهيمنة ﹰسواء كانت محلية أم خارجية؟
لنا الحق في الكتابة ﹼبحرية تماماﹰ كما نفكر قبل أن نسكب على الورق. وحين نكتب يصبح نتاجنا في يد الناس، بما فيه حقهم في التداخل والتدخل والنقد وتحديد الموقف. ليس القارىء مجرد ٍّ متلق سلبي، بل هو الطرف الضروري الآخر للمعادلة. لذا، بقدر حق الكاتب في اختيار ما يكتب والاصطفاف أينما يرى، بقدر حق القارىء تحديد موقف من هذا الكاتب ومن نتاجه.
إدوارد سعيد ﹲمفكر يستدعي النقد والاختلاف معه على الأرضية الإنسانية الحقيقية (الاقتصاد السياسي والصراع الطبقي) رغم إصراره على أن يبقى مثقفاﹰ إنسانياﹰ بعمومية هذا المصطلح؛ وربما بسبب هذه العمومية هو محط نقد الإنسانيين الحقيقيين اللذين أقاموا حياتهم ونضالهم ومنهجهم على مهمة مساهمتهم في التحرر القومي والتحرر الاجتماعي الطبقي…اللذين حملوا عبء مواجهة الاستعمار والاستغلال واثقين بأن تصفيتهما لا تأتي قط بالمحايدة ولا بتعدد المناهج ولا بالانتقائية ولا بالاقتراب من السلطان، حتى لو بالنصح والإرشاد، والنقد العذري، بل تأتي من التناقض الذي يتخلل الحياة اليومية للناس في العمل والإنتاج، وبما يترافق معهما من علاقات إنتاج إجتماعية هي التي تحدد مواقف الطبقات من بعضها، سواء بالكمون أم بالوعي والممارسة.
أول ما يتبادر للذهن، في قراءة إدوارد سعيد، السؤال الكبير نفسه: هل يمكن إعفاء المفكر من منهج محدد ومن ثم من مشروع محدد فكرياﹰ وسياسياﹰ؟ بل، هل يمكن لمفكر أن يكون فوق التناقضات في الدولة القومية وعلى صعيد عالمي؟
دعونا ﹰابتداء، رغم مشاعرنا العروبية، أن نتجاوز العاطفة الإقطاعية التي تضفي على الميت قداسة تنزيهه عن النقد بمدحه إلى حد التنزيه، أو تكفينه بغفران … فقد رحل. وفي الحالين هذا تفكير لا تاريخي، لأن الأعمال والأقوال لا تموت، مما يﹸبقي كل من قضوا أحياء وإن بدرجات، هذا هو التاريخ. فالخير والشر بمعانيهما الإنسانية والنضالية والفكرية نتاجات تاريخية. في الفكر كما في النضال السياسي، يﹸ ﹼعامل الراحلون والأحياء كما لو كانوا جميعاﹰ أحياء يشتبكون بالقلم أو بالسيف. لا كرامة لمفكر بدفن أفكاره. لذا : فالتقديس هو مسلك لا تاريخي.
نحن إزاء ظاهرة ثقافية على الصعيدين العربي/الفلسطيني والعالمي، وصلت بها تربيتها وثقافتها الغربية/اللبرالية إلى حالة من الحيرة، وإن بدت على خطابه ملامح الثقة العالية بالنفس، بين الانتماء الفلسطيني والتخارج، وهو ﹲموقف في الحالتين. لكنها ليست بالظاهرة السهلة. فلديها قوة المنطق الشكلي، وتماسك اللغة، وتعدد المستويات الثقافية والفكرية وقدرة الاستعارة والغرﹾف المشاع من النظريات الأخرى بل، وحتى القدرة على امتطاء العديد من أطروحات الماركسية مما ﹼمكنها من الظهور بحلل مهيبة تكاد تدفع عنها كل نقد، بينما هي تنتقد كل شيء. كما لم تعد تهمها الشبهات في مرحلة من الأفضل لوصفها أن لا توصف.
نحن إزاء مفكر يشكل نموذجاﹰ ٍّ لتحد يستوجب منا فهمه وتجليسه في موضعه الطبيعي ومعارضته من موقف ومدخل يقوم على التفهم والنقد والاشتباك، متجاوزين عن تحويل الرجل إلى أيقونة، والتباكي عليه.
رغم تعدد محاور هذه الورقة إلا أنها في والمجموع تنقسم إلى جزئين:
سعيد المفكر الفرد أين تفاعل ووقف، وسعيد الكاتب السياسي أين وقف وتفاعل أيضا. وهل الشخصيتان منفصمتان أم متكاملتان. هذا ناهيك عن أنه في كل من الشخصيتين مجموعة شخصيات تتقاطع مع عدد من الخطابات بدرجات عالية أو جزئية.
هناك أهمية للتحديد التاريخي لما نعالج، لأن للمرحلة أثرها على المفكر، حتى لو زعم هو أنه إنما ينطق عن الهوى الخاص، وأن منطوقه وصفة لا أساس ﹼمادياﹰ ﹼتاريخياﹰ لها، بل هي أساس الوجود والفعل الماديين. يمكن لضباب اللغة أن يخفي جبل الاقتصاد السياسي، لكن الضباب يتبخر ويبقى الجبل راسياﹰ لا يميد. هل هذا درس الأزمة الممولنة الحالية!؟
وكل مفكر يزعم أن هواه من ثقافته، وأن الثقافة محرك التاريخ، إنما يخلط الأسس بالنتائج أو ينتمي إلى الجدل المقلوب. فاختيار زمن المعالجة ضروري، لأن إدوارد سعيد هو ابن حقبة انتصارﹴ مؤقت للعمل على رأس المال، وهيمنة العولمة، وتكيف أنظمة حركات التحرر الوطني، الكمبرادور الرأسمالي والثقافي(موجة القومية الثانية ومن ثم الثالثة). لذا، يظل ما هو حاسم: ضرورة التحديد: هل معركة الإنسانية فكرية في المبتدأ، أم أن المعارك الفكرية هي ﹼتجليات مجردة، ﹼنصية، معارك خطاب للصراع الاجتماعي قومياﹰ وفي التحليل الأخير طبقياﹰ.
نضج سعيد وأنتج في حقبة أشهرت تُرس الثقافة والهوية، ومن ضمنها نظريات ما بعد الاستعمار، كي تواجه حضور وتحديات المادية التاريخية، وتحديداﹰ الاقتصاد السياسي، ووجد فيها، أي الثقافة والهوية ما ﹼتخيله إبراهيم (هذا ربي). لكن التاريخ حرمه من لحظة عادت فيها البشرية اليوم لتضع قدمها من جديد على عتبة الاشتراكية منذ لحظات (هي حتى الآن عام ونيِّف).
أعطى إدوارد سعيد الأولوية والأسبقية للثقافي على مختلف العوامل الأخرى في بحثه الرئيس “الاستشراق”1978. كان ذلك في لحظة هيمن فيها اتجاه لبرالي عالمي معاصر واسع ويحوي على تفرعات مدرسية عديدة تجمعها المابعديات. ورغم دورانه أحياناﹰ حول المستوى الاقتصادي/الاجتماعي وانتقائه ﹺقطعاﹰ من أطروحات ماركس وغرامشي ،شأنه في هذا شأن كثير من الكتاب الذين لا يعتمدون المنهج المادي التاريخي، بدءاﹰ من هوبسن 1895، مرورا بجوزيف شومبيتر في الخمسينيات وصولا إلى ميشيل فوكو وجاك ديريدا وغيرهم، حيث نلاحظ اهتمام سعيد بالاستشراق وبالإمبريالية كهيمنة، لكنه يتماهى مع تصوير المستشرقين للشرق وبالتالي لا يركز على دور الشرق كالشق الآخر من الصراع. هنا كأن الشرق كتيماﹰ وساكناﹰ. من هنا نبع عدم انتحابه على تبعية العرب لأميركا.
حتى وإن أوضح سعيداﹰ أنه قارﹶب غرامشي، إلا أن فهمه للمرحلة وموقفه منها كان لصالح الاستراتيجية الأميركية »حل المشاكل Problem Solving Theory «، وليس لصالح
الهيمنة التي تعتبر أهم مساهمات غرامشي. نظرية حل المشاكل هي إقرار بهيمنة النظام العالمي، َّ مجسداﹰ في الاقتصادي السياسي، وهي قراءة لا تتعاطى مع التناقض، مع الدياكتيك، مما ﹼيفرغ نظرية غرامشي من محتواها الثوري. (أنظر لاحقا ﹼتوسطه بين أميركا و م.ت). عبر التقاطع مع نظرية حل المشاكل رأى سعيد مشكلة العرب مع أميركا في عدم احترامها لهم رغم أن الوطن العربي، بسبب الطبيعة الطبقية لأنظمته الحاكمة، يحقق للإمبريالية المطالب الثلاثة:
· اندماج في النظام العالمي بما فيه تحرير التجارة الدولية مما حفظ قوة الدولار
· فتح الأسواق وإزالة الحمايات
· التحكم بالنفط “كسلعة عالمية”
يمكننا الزعم أن اعتماد أولوية الثقافي مسألة يمكن تجليسها في فكر المثقف الفرد، الذي يمكنه بدوره التحليق بها في الفضاء الإنساني، متحاشياﹰ التعامل مع صلابته وحَدِّيته التي تشترط الالتزام. فالثقافوية (في نظرنا) تساعد أكثر على المحايدة، أي لا تشترط موقفاﹰ اصطفافياﹰ وصدامياﹰ مباشراﹰ. لكن ﹶخلل ﹶمن يعتمد العامل الثقافي كامن في أن هذا العامل لا يقدم الإجابات الصحيحة ولا يوفر الذخيرة الكافية لتغيير العالم. جدل الثقافة ليس مكلفاﹰ، ما يكلف هو جدل الصراع الطبقي.
هل كانت مشكلة سعيد في تحديد الهوية؟ هل مشكلة العالم في تحديد الهويات على أسس قومية /عرقية/إثنية/دينية؟ أم مشكلة العالم هي مع الموقف ضد السيطرة والقوة والاستغلال القومي في البلد والعالم الذي هو في التحليل الأخير طبقي. وكذلك مع مثقفي السلطة المسيطرة أو المهيمنة؟ أنت إنسان بقدر ما تختار موقفك من الظلم.
سيكون في هذه الورقة بعض القول عن حدود نجاح سعيد في تحديد هويته، أو هويَّتيه، وهل نجح في الجمع ما بين ”الأختين“؟ أم أن ماَ حدد شخصية ونتاج سعيد هو هويته الطبقية، دون أن يقرَّ بذلك!
انتقد سعيد ثقافة الغرب (داغماﹰ كل الغرب في الغرب) لكن نقده ظل من مدخل ثقافي، أي نقد لم يتسلَّح بوجوب نقد ونسف الواقع المادي الذي قام عليه العامل المثالي ولم يقمه. فظل سعيد ضمن ﹴدائرة وصفية َّ قوت نفسها بالبلاغة ورصف الأمثلة التي تلقي ﹼبمحب اللغة في حالة تطريب والأقل قدرة في حالة اللافهم. إن دفع الادعاء بالتفوق الثقافي أو القومي إلى مداه الاجتماعي الطبقي لا بد أن يقود إلى تجاوز الثقافي نحو السياسي ومن ثم الطبقي، وهو الأمر الذي يتجنب إدوارد سعيد دوما الانتهاء إليه. ومن هنا خطورة من يقرؤون سعيداﹰ وفوكو وديريدا وغيرهم من نفس المدرسة عبر الخطاب البحت وعبر النقد الأدبي، عبر اللغة بلا محاميلها. وهنا نشير بالطبع إلى تأثر سعيد، الذي لا يخفيه، بميشيل فوكو. الذي وضع الخطاب كمجموع ممارسات وعلاقات هي التي تخلق الوجود الاجتماعي والنتاج الاجتماعي وتحدد مناخات تخليق التجارب والهويات.
هل هو الحظ العاثر لسعيد أنه أتى ونضج لقراءة الماركسية في حقبة صعبة كانت صورتها دول الاشتراكية المحققة، ولم تكن صورة الرأسمالية الأميركية قد بدت للكثيرين من حيث جشعها، وفاشية سياساتها؟ ولكن فترة اليباس والانهيار في تربة الأنظمة أمر واخضرار النظرية أمر آخر.
الفترة التي ﹼامتد خلالها التنظير للهيمنة من الصعيد القومي إلى العالمي (كوكس 1987)، ولكنه ﹲتنظير ﹴلهيمنة سلبية ﹼتقزمت إلى مستوى »الإجماع« مما سحب من الهيمنة، بمفهومها الغرامشي، جوهر التناقض الطبقي بين هيمنة السلطة البرجوازية والهيمنة البروليتارية ومعها التابعين الآخرين. يشير هذا إلى تراجع الثورة العالمية إلى وضع انتقل معه المركز من احتواء الطبقة العاملة الغربية إلى احتواء المجتمع المدني والأكاديميا؟ ثم عالمياﹰ إلى احتواء أنظمة المحيط، بعد أن كانت تلك الأنظمة نتاجاﹰ لتحرر وطني، ولتفكيك دول الاشتراكية المحققة، أي إلى (الهيمنة على صعيد عالمي). إلا أن تطورات العامين الأخيرين تشير إلى احتمال ﹴتفعيل أشد للصراع الذي لا يغيب بين الهيمنتين.
لسنا أمام حالة شاعر، بل مفكر اختار المراوحة على الحواف بين اللبرالية والماركسية، فبات كأهل الأعراف.
سيكون نقاشنا الرئيسي مع سعيد حول موقفه الفكري والطبقي. صحيح أن هذا الموقف هو في التحليل الأخير قرار المفكر نفسه، لكنه يعزى أيضاﹰ للمؤثرات التربوية والثقافية والاجتماعية السياسية،
ﹸولد سعيد في بلد ﹸاقتلع ﹸأهله بمصالح المركز وبمدافع المستوطنين البيض، وليس بنصوص التوراة، وعاش في مجتمع الولايات المتحدة الذي خلقته البندقية والقوة والسوق ولم يخلق بتطور طبيعي ولا حتى بتراث برجوازي-نموذج أوروبا الغربية مثلاﹰ، رغم تضخيم –الثورة الاستيطانية الأميركية البيضاء.
هناك أﹸناس ﹸخلقوا تقدميين، وهناك العكس. لكن الواقع لا بد أن يحسم، فنضطر للتساؤل:
لماذا ﹼأصر سعيد على عقد مساواة بين حق الشعب الفلسطيني في العودة وما يسمى ”قانون العودة الصهيوني“ لمستوطنين من مئة أمة على الأقل؟ وهذا موقف يدان على اتخاذه ُّ أي إنسان دون شرط أن يكون فلسطينياﹰ/عربياﹰ أو من أي مكان في العالم، إذا أردنا للقضية، التي عولمتها الأنظمة الرسمية، أن نعولمها شعبياﹰ. وإذا أردنا قراءة العالم بالمعنى الحقيقي كما يراه غرامشي، أي التناقض والصراع الطبقي في نطاق الاقتصاد السياسي وليس في نطاق الإجماع،ليست الهوية العربية والإسلامية هي الفيصل هنا، فما أكثر الصهاينة الفلسطينيين العرب والعرب، بل هم يتناسلون اليوم حتى من المقابر. إن عقد المساواة بين حقنا و “قانونهم” هو انتماء واضح للهيمنة الأميركية ٍّ وتبن لنظرية “حل الخلافات”، وهي نظرية تقوم على العلاقات الرسمية للنخب السياسية، دون أن تنظر قط إلى القوى الاجتماعية التي تعيش التناقض والتي ليست الخلافات إلا نتاج تناقضاتها مع الطبقات المستغلة. فالتناقضات على الأرض هي التي تقود للصراع، ويصبح المطلوب اجتثاث المسببات الاجتماعية للتناقضات وليس إطفاءها بحلول من الأعلى.
موقع إدوارد سعيد
هل يجوز التساؤل أي إدوارد سعيد نقصد؟
ليس مقصدي إثبات أو نفي هوية ماركسية لسعيد، كما يحاول البعض الإدانة عبر لصق دمغة أم لا! فما يحدد الهوية الفكرية/الإنسانية بالمعنى الثوري هو المنهج ومن َّ ثم المواقف وليس اعتماد النص. يمكن للمفكر أن يعالج قضايا عديدة، وهذه المعالجات المتنوعة ليست هي التي تحدد هويته الفكرية، التي تنتهي شئنا أم أبينا طبقية، بل ما يحدد هو منهجه في التحليل ومواقفه من القضايا، وليس في تجريدها بل في علاقته بها عملياﹰ. بكلمة أخرى، لا يمكن عقد طلاق بين النظرية والممارسة ، لأن هذا الطلاق ينكر التناقض والصراع، ويعظ بعدم التغيير والثورة، وهذا يفقد الإنسانية معناها.
ما قصدته، هل نقرأ سعيداﹰ عبر مثقفه، عبر الاستشراق.. تماثله كأحد ﹸكتاب ﹼتحريفيي ما بعد الاستعمار.. ﹶموقفه بل ﹶعلاقته بالنظام السياسي الأميركي.. ﹶعلاقته بمنظمة التحرير.. ﹶعلاقته باللبراليين، عبر موقفه من القومية وخاصة العربية؟ تتشكل شخصية سعيد من كل هذه المواقف والعلاقات المتشابكة/المشتبكة مع بعضها بالطبيعة! وهنا الإشكالية التي لم ينجح سعيداﹰ في إخفاء هويته بسببها، رغم محاولاته المشهود له بها، والتي وصلت حد التلاعب بمستويين في قضايا عدة. مثلاﹰ: على مستوى إثبات فلسطينيته، وعلى مستوى إثبات ﹼتفهمه لوجود الكيان الصهيوني. فبدل أن يفكك القضايا التي علق فيها، لامس سطحها بقدر ما تسمح به الهيمنة الأميركية، التي تتخذ شكل الإجماع لمنع الخروج عليه والتي استخدمته لمحاولات إطفاء أساس التناقض، واستخدم نظرية التسامح ليتجاوز عن حق العودة، ومضى.
مهما علا الخطاب النقدي للولايات المتحدة، سياسياﹰ، فإن عدم اتخاذ موقف محدد من الصراع على صعيد عالمي، عربي وفلسطيني، قد أبقى سعيد ضمن دائرة الضياع في ما يسمى المجتمع المدني المهيمَن عليه، حيث يتمتع الناس بالحديث ضد الإمبريالية، بينما تمارس البرجوازية الاستغلال والمذابح مما يجعل المجتمع المدني في المركز إما متواطئاﹰ أو غارقاﹰ في هيمنة تمكنت من سحب فتيل التناقض والصراع منه.
ﹼيذكرنا هذا ب ”روبرت كوكس“. مقابل الكتلة التاريخية عند غرامشي، طرح روبرت كوكس مفهوم الكتلة التاريخية ما فوق القومية. واللاعبون فيها هم الشركات متعددة القومية،المصارف، الأسواق المالية، الكتل التجارية متعددة الجنسية، الحكومات والطبقات الاجتماعية.
جميعها تشكل الكتلة التي تتشارك، مصلحياﹰ وأيديولوجياﹰ، في فهم النظام العالمي الذي يتعايشون فيه، مما يغيب التناقض، الأمر الذي يناقض جوهر نظرية غرامشي في الهيمنة( كوكس1978). من هنا يكون لنا سؤال أين وقف الرجل، في الرمادية المثالية، أم في النور/الفضاء المادي؛ في جانب أطروحات الثقافة والهوية، بما هي الوليد المعولم للِّبرالية في مواجهة المادية التاريخية والاقتصاد السياسي؛ في المستوى الإنساني الفضفاض والمتسامح في النهاية، أم في معترك الصراع الطبقي حيث لا مجال من قبل ولا من بعد أن تتخلى البرجوازية في المركز عن ملكيتها المفروضة بالقوة والمبررة بالهيمنة الإجماع بين العمل ورأس المال وهذه من ألغام المجتمع المدني إلى حد ما، وكذلك في المحيط حيث الملكية ﹼمحمية بحراب القمع المفتوح..فما أجمل الوطن العربي اليوم!.
لا تقود مناظرة(معارضي)استبدال الاقتصاد السياسي بالثقافة إلى مجرد مقارعة النص بالنص أو الخطاب بالخطاب، ولا تنتهي عند هذا الحد. بل الهدف منها هو اختيار وتحديد موقف من الصراع الطبقي. بل عدم تحديد موقف من الصراع مما يبقي على الوضع القائم وسيطرة التيار السائد. ومن هنا تحديداﹰ تبرز أهمية الموقف الفكري لإدوارد سعيد، ذلك الموقف الذي يبتعد بفراسخ، مستسعفاﹰ بالثقافة ضد النمط المهيمن للعلاقات الاجتماعية للانتاج وتناول الطبقة الحاكمة/المالكة في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية. وهو الابتعاد الذي دفعه ليخلق مثقفه »الإنساني« الذي لا تشغله جرائم الاستعمار الاستيطاني الأبيض في بلده هو، رغم بلاغة وصفه لها في غير مكان؛ لنقل، كي لا نظلمه، لم يؤخذ بها رغم هولها، فأصر على أن الوطن مجرد ﹶمكان، وليكن أينما كان. فوصل به ﹼتخيله “الإنساني” إلى أن المكان ممكن لأي كان في أي زمان، مما يبهت مأساة الطرد الفلسطيني. لا شك أن مستوى الافتراض لدى المفكر يفوق خيال الشاعر. هذا الافتراض سمح لسعيد أن يرى وطن الفلسطينيين قد ﹸحول إلى وطن لمن ﹸطردوا من أوطانهم، ربما من مئة وطن! وهكذا ليؤكد اعتقادنا بأن المثقف الإنساني في عصر رأس المال والعولمة لا يمكن إلا أن يكون ثقافوياﹰ ونخبوياﹰ، وهذا ما يغريه بالابتعاد عن تحديد موقف من الاستغلال الطبقي ، الاستعمار، الإمبريالية وبالطبع الصراع الطبقي.
ليس هناك ما هو أكثر لغطاﹰ من مشروع العولمة الأميركي في الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان وغير هذا. ولكن لا ﹸيمكن أن يغتفر لمثقف، مهما علا كعبه وأنىَّ كان مكانه الجغرافي، أن يوفر أسساﹰ نظرية لمساندة هذا المشروع. أليست مجاملة سعيد لبشاعة النظامين، السعودي والكويتي، هو توفير ذخيرة ﹴنظرية لمشروع العولمة الأميركية، ولو في ذيل ذلك المشروع؟ أليس تسهيله لدخول م.ت.ف إلى المطهر الأميركي الذي مداه الأقصى هو الاعتراف بالكيان الصهيوني (ثم نقده لضعف قدرتها َّ الفنية على التفاوض ولكن في نفس مربع 1967، مربع البرجوازيات العربية -المبادرة العربية- وليس فضاء نضال الطبقات الشعبية لتحرير فلسطين). أليس هذا التسهيل مساهمة في تقوية أسس الهيمنة/المشروع الأميركي في الوطن العربي؟هل يليق بمفكر أن يكون “رسول غرام” بين الإمبريالية وحركة تحرر وطني مسلَّحة؟ أليس عدم انتحابه –في كتاب الاستشراق- على التبعية العربية لهذا المشروع (أي للهيمنة الأميركية) هو دعمه بأعمدة من نار؟ وأخيراﹰ، أليس ُّ التشبه/التماثل أو التطابق (كما يسميه أحمد حسين) هو تسليح إضافي لهذا المشروع؟ إن عدم الانتحاب هو انتماء للتبعية وحذف لعنصر التناقض مع الإمبريالية، وهذا ما يرفضه ديالكتيك الهيمنة لدى غرامشي. إن الإقرار بالتبعية هو الموقف النقيض للاقتصاد السياسي. فموقف وهجمة الولايات المتحدة على الوطن العربي ليست ثقافية بل نفطية، للنفط والسوق والقواعد وخاصة القاعدة الصهيونية. كيف يمكن لمفكر من قامة إدوارد سعيد أن يقرأ الرأسمالية بعيداﹰ عن التراكم. فالرأسمالية، كما شخصها ماركس، متغيرة دائماﹰ بهدف تحقيق أعلى تراكم ممكن؛ ألا نقرأ هنا أهمية شفط النفط العربي وإغراق الأسواق؟ وأبعد من هذا، فحين لا تتبع وتخنع أية أمة للولايات المتحدة بمصالح الطبقات الحاكمة فيها، لا يعيق الإمبريالية اللجوء للعدوان؟
رغم أن المابعديين عامة قد ارتكزوا على رفض ” ﹼالكلوية“، المتهمة بها الماركسية ومختلف السرديات الكبرى وانطلقوا في تعداد الهويات والثقافات لينتهوا، بسبب انحصارهم الثقافوي، إلى وضع العالم في إسار هوية السوق والاستهلاك التي ولدتها اللبرالية الغربية من تحت إبطها. لكن المفارقة، أن هوية السوق تصر على البقاء بمرتبتين: نعم هوية سوق، ولكن المركز منتج ومستهلك والمحيط مستهلك، ينتج الناس Mass Production , (Nass ( Production “ناس برودكشن” ليستهلكوا ويستهلَكوا، بالمرض والفقر وعندما يتكاثرون جداﹰ ”كالذباب“ يقتلون كما صرَّ ح مكنامارا. هل هناك كلوية أوسع من كلوية السوق؟
وإدوراد سعيد من بينهم، أي الذين أقاموا مبناهم الفكري على رفض الكليات، نزولاﹰ إلى الفرد المتوحد، ولكن المتعالي ثقافياﹰ. لكن الدفع باتجاه التماثل مع ثقافة الغرب هو بحد ذاته خلق صنمية كلوية جديدة، إنما هذه المرة، بمراتبيات طبقية على مستوى الأمة وعلى مستوى الأمم مع بعضها البعض. فرفض الكلويات يعني تخليد التفكك والفردانية، تخليد ما هو قائم، وإخضاع العالم لكلوية رأس المال، التي تقوم على الاستغلال الطبقي وتزعم السلم الطبقي. هي الهيمنة على صعيد عالمي، ولكن بالطبع ليست الهيمنة التي شخصها غرامشي وصاغ مقابلها هيمنة نقيضة.
استعار سعيد من ديريدا أداة تفكيك الثقافي وبها مارس تفكيك الاستشراق، تفكيك أدبيات الاستشراق، لكنه، وقد حاصر نفسه في التعالي الثقافي/ الطبقي، لم ينفعل بتفكيك الشرق نفسه، الشرق العربي خاصة، ولا بتفكيك الإمبريالية، الولايات المتحدة خاصة، فأنجز نصف المهمة. ولأنه توقف عندها بقي له مكان في الأكاديميا الامبريالية. ولو قاده التفكيك من المجرد إلى الملموس لأدى به ذلك إلى قراءة المرحلة من مدخل مركز/محيط، ولتحول في الموقف من الكيان الصهيوني إلى وجوب تفكيك/تحطيم هذا الكيان كمبنى اقتصادي عسكري سياسي إيديولوجي لإعادة بناء فلسطين ضمن الوطن العربي الاشتراكي. لكنه ظل مشدوداﹰ إلى مثقفه الإنساني الذي لا يطيق العنف، بمعنى المقاومة لعدوانية رأس المال. مثقفه الذي لا يطيق نفي أحد، بينما الكيان يواصل النفي والإمبريالية تواصل إبادة الأمم.
هل الاستشراق مجرد مشروع إيديولوجي ثقافي بحت، ماكينة أنتجت هوية غربية (بكل هذا العموم والتعميم، وأنتجت َّ عنا، بل ربما عن كل ما ليس غربياﹰ، هوية َّ متخيلة، ومن خلال هذا وذاك استقوى الغرب على الشرق وفرض سيطرته؟ هل يمكن اختصار ذلك الحضور الصراعي المادي بكل َّ الحدة والدمار والاستغلال في قدرة الاستشراق المعرفية؟
هل انحصر الاستشراق في خلق صورة نمطية للعرب والمسلمين، صورة متخلِّفة شريرة ليسهل رفضها والتعالي الثقافي والمعرفي عليها، أم أن الاستشراق كان طابوراﹰ ثقافياﹰ/ بعثة ثقافية لخدمة رأس المال لاستعمار الشرق ونهبه. بين تصدير الثقافة وتصدير رأس المال وحتى رأس المال العامل الإنتاجي، يقف الفارق بين الماركسية والثقافوية. لقد ساهم سعيد في فضح النص الاستشراقي، لكنه لم ينسبه إلى أبيه الحقيقي ألا وهو رأس المال، ولم يحسم موقفه، لا من رأس المال ولا من نظام التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية نفسها، فجاء نقده الأدبي متأدباﹰ.
سمح المدخل الثقافي، والمآل الثقافي لإدوراد سعيد أن يحاصر المستشرقين بنقد الشرق الافتراضي الذي خلقوه، وكانت هذه مساهمته الكبرى. ولكنهم كانوا أداة النظام الرأسمالي العالمي، وقد أنجزوا المهمة التي أﹸنيطت بهم في توضيح خريطة الشرق كي يحاصرها ويسيطر عليها المركز كجغرافيا وموارد وحاضر وحتى كثقافة. ما من شك في أن سعيد قد فكك أرشيف الاستشراق ضمن الأدب المقارن، لكنه لم يفكك المبنى الاستعماري/ الإمبريالي/المعولم الذي قام الاستشراق لخدمته، فأنتج نصاﹰ أدبيا عالياﹰ تكمن قوته في غموضه وحمله لأوجه َّ عدة، ولم يقدم مفاتيح الخروج عليه.
لقد أنتج سعيد قطعاﹰ معرفية عديدة، لكنها لم تكن موحدة، بل متقافزة بين اللبرالية والمادية التاريخية، والتشبه بثقافة الاستعمار، والتوسط بين النقيضين المقاومة والإمبريالية…الخ.
ولكن ماذا غير المنهج والانتماء الطبقي الذي يغري مثقفي ما بعد الاستعمار على إنتاج ﹴخطاب هو مثابة صدى للخطاب الأبيض، وهل َّ تجنى فانون حين قارب القول بأن طموح مثقف ﹶالمستعمرة في التماهي مع النخب الفكرية في المركز حوله إلى كمبرادور ثقافي؟ كان سعيد مجموعة من المناهج، كان عدة مثقفين في واحد، وفي هذا لم أتمكن من العثور على منهج واحد محدد له.
كان يطمح أن يرتفع فرديا إلى ﹼالمصاف المفترضة بمعنى تفوق الغرب في الفكر، ليرتق الفجوة َّ المدعاة بين The west and the rest، ولكن في مستوى الثقافة وليس حتى اللحاق الرأسمالي. فكانت له مكانة، ولكن في الأكاديميا الغربية. وحين حاول استرجاع فلسطينيته وبعض عروبته، من مدخل الهوية اللاطبقية، انتهى إلى التسامح، ورغم تهاونه مع الصهاينة، اعتبروه في أمريكا قومياﹰ متطرفاﹰ وفي الكيان شتموه (آرييه شافيت، وميرون بنفنستي أنظر لاحقاﹰ). هل هذا المآل الطبيعي لقبول الهيمنة، أو الانحناء أمام قوتها؟أما عربياﹰ فظل يحاذر هذا الأصل قدر المستطاع كما يرى أحمد حسين:
» …فالعرب لم يكونوا حتى ممثَّلين بحثيا في “الثقافة والإمبريالية” سوى في حالات نادرة… قيد المنافقة المؤسفة والمستهجنة حتى على مستوى النفاق ذاته… أما الإشارات التضمينية إلى بعض الأشخاص كالجابري، ومنيف… فقد كانت عابرة كالبرق… كانت هناك بعض المجاملات الشخصية الرقيقة لمحمود درويش وأدونيس، لا يعيبها سوى أنها حاولت أن تبدو أكثر من مجرد مجاملة. ولكن ما يعيب حقا، ذلك النفاق المقرف ـ لم تسمح لي الموضوعية باستعمال وصف آخر ـ للكويت والسعودية. ..مثل “أن السعودية بلد مهم لديه ما يسهم به ” أو “أن الكويت تحررية وليبرالية في بعض الجوانب. .. أما صدام حسين ومعه العراق غير قابل للتفكيك”
كان هذا ما كتبه أحمد حسين عام 2000، أما عام 2003، فأبان النظام الأميركي للعالم أن العراق بالنسبة للمركز المعولم ليس قابلا إلا للتدمير والإبادة. فهل اقتنع سعيد أن مرحلة ما بعد الاستعمار لم ﹶتحِل إلا بمنظور فرانز فانون؟
سؤال إضافي وأنتم أعرف مني: ” ماذا عن المرأة، في حدود اطلاَّعي المحصور في الأرض المحتلة بين دولة ونصف، لم أعثرعلى ﹴأثر لها في نتاج سعيد، مع أن الحركة النسوية شاركت ونشطت في ثورة 1968، إلى جانب الطبقة العاملة والطلبة والطبقات الأخرى، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن غزوات الاستشراق النسوي للأرض المحتلة تكاد تسحب النساء من أي دور وطني أو طبقي.
-2 المابعديات…أشكلة لبرالية مع المادية التاريخية:
في الفترة التي كانت الاشتراكية المحققة تخلي المسرح لإعادة الروح إلى الماركسية، ولا سيما تهمة الشمولية/الكلوية، كانت مابعد الحداثة تندغم أكثر في وحدانية السوق التي تحاول دمج العالم في كلانية واحدة أيضا. وفي خضم هذا المعترك كان ما أسمي بالطريق الثالث وهو المدخل اللبرالي للترويج للسوق. أما مفكرو ما بعد الحداثة بتنوعاتهم وكثير من الحركات النسوية (الراديكالية واللبرالية خاصة)، والخضر الذين كانوا يستمدون مبرر وجودهم من نقدهم للماركسية، فقد طووا الأشرعة باتجاه التسامح والرسملة. هذا وكأنهم هم أيضا يؤكدون ما قاله ماركس وردده كثيرون بعده، : “إما الاشتراكية أو البربرية” لا ﹶطريق ثالث.
لقد وجدت المابعديات في تجربة الاشتراكية المحققة، ومن ثم تفككها، مدخلا واسعاﹰ ليس لنقد الماركسية بل لتبرير انتقالها لصالح اللبرالية، ومن هنا نلتقط تراجع دور هؤلاء في حقبة العولمة. وبالتالي فإن نقد هذه المدارس للمدخل الطبقي في السياسة، التي طبعا يعتبرها سعيد بعيدة عن الحقيقة، واتهام الماركسية باللاجنسوية، وعدم الاهتمام بالبيئة والاضطهاد العرقي متهمة النظرة الطبقية بالضيق المبتعد عن كل هذه؛ إن نقد هذه المدارس انتهى إلى الاستسلام للتصالح والتسامح في الحقبة التي اقتربت فيها الإمبريالية من التصالح البيْني المؤقت(أطروحة كارل كاوتسكي) لتشن هجومها الوحشي على بلدان العالم الثالث، فالحرب بالنسبة لرأس المال صناعة. ولذا، لم نلحظ لدى هؤلاء مواقف ذات قيمة ضد هذه الهجمة.
فنظريات ما بعد الحداثة هي سرديات (ليوتارد)، والفرد هنا في حالة اختيار شخصي مريح مما يعفيه من أي التزام بموقف معين في التصدي للقمع والوحشية ،خاصة التصدي ضمن مشروع على صعيد البلد القومي ولا على الصعيد العالمي. ومن هنا يمكن التقاط الجذر الأساسي لهجوم هؤلاء على الماركسية بتهمة الكلانية.
يتطلب القمع والنهب عالماﹰ مفككاﹰ إلى ذرات فردية، تفكيك كل التزام، بحيث تصبح كل ذرة عاجزة عن الفعل طالما هي حالة فردية . بكلمة أخرى…لا مقاومة.
لعل كعب أخيل يتجسد في ما بعد الحداثة بموقفها الأنطولوجي المضاد للواقع طالما تحصر كل شيء في الذات العارفة التي تحدد خياراتها على هذا الأساس، وهو ما يبقيها خارج دائرة أي اشتباك وخارج نطاق التحريض على ذلك، وهذا ما يعطي نظام السوق بكل ما يحمل من استعمار واستغلال واحتلال وحروب ضارية مناخاﹰ معدوم المقاومة. هذا بالتحديد ما يفصل الواقع، أي البنى والمصالح الطبقية، الاقتصاد السياسي عن الهذيان الثقافي الذي لا ينغمس في الواقع قط. إن مناظرة تهمة ﹼالكلوية الماركسية بالاختلاف المفتوح يقود إلى نتيجة محددة هي اللاتضامن وانتهاء القلق ما فوق الفردي والوصول إلى أن اختلاف الهويات يخلق تدرجية خاصة في اختلاف حقوقها والتضامن معها! فيصبح الرفق بالحيوان وحقوق المثليين في حي كاسترو في سان فرانسيسكو، أعلى من حقوق نساء المحيط بأجمعهن.
وفي تخارج هؤلاء على العمل الجماعي ينتهون إلى الحكم بالفشل مسبقاﹰ(ديريدا) على قدرةالممارسة العملية في تجسيد ديمقراطية حقيقية، وخاصة لدى اليسار مما يلقي بهم في النهاية إلى جانب النظام القائم حيث لم يحاولوا خلق اشتباك بين مفاهيمهم المثالية عن الديمقراطية والعدالة (الضمير السليم، عدالة العطاء –ديريدا، والمثقف الإنساني – سعيد) وبين الواقع السياسي القائم. هذه الأمور التي لا تتحقق إلا بوجود المؤسسات السياسية التي يتعالون عليها.
تركز نظريات ما بعد الاستعمار على تحول الثقافات كنتيجة لتأثير الولايات المتحدة، ولكنها ليست مدرسة واحدة في الكثير من القضايا:
سبيفاك لا ترى مكانا للماركسية في ما بعد الاستعمار نظراﹰ لسيطرة المستوى الاقتصادي في الفكر الماركسي. هي اذن ترفض الماركسية والتناقض. أما هومي بابا فيرى أن الماركسية يجب أن تكون مركزية لأنها تركز على الممارسة التحررية. في حين أن سعيد متأرجح بينهما يرى ضرورة ماركس ولكن القسم الثقافوي منه.(الاستشراق والثقافة والإمبريالية ). هذه النظريات جزء من الدراسات الثقافية من جهة ومن جهة أخرى هي تنظر إلى الثقافات، وليس إلى تحولات البنى التاريخية وتحديداﹰ كيف تقوم الشعوب بهذه كلها ضمن صراع طبقي حاد أو أقل ﹺحدة.
يعتقد البعض أن ديريدا وسعيد وكثيرين من المابعديين ينأون عن الماركسية بحجة أنها لم تقدم بديلا عملياﹰ للرأسمالية. ولكن حتى لو كان هذا صحيحاﹰ، فيجب ألا يشترط الاستسلام للرأسمالية بل مواصلة العمل السياسي لإسقاطها، وهذا جوهر الهيمنة كما صاغها غرامشي. إن هذا اليأس دليل على عدم الثقة بقدرة الإنسان على التغيير. وهو في الأساس نظرة نهائية إلى العالم بالمعنى الذي سقط فيه فوكوياما. ومن الواضح أن هؤلاء لم ينظروا للصراع بين الرأسمالية والاشتراكية على أنه صراع تاريخي، وأن انحراف الاشتراكية المحققة هو مجرد خسارة معركة ليس أكثر.
لقد نضج سعيد كمفكر مع دخول الثورة العالمية أزمتها، ورحل قبل تأزم الثورة المضادة فظل في برزخ بين الإمبريالية والعولمة وهو البرزخ الأكثر وحشية في عصر رأس المال، منذ الميركنتيلية وحتى لحظة انفجار فقاعة الممولنة ) Financializationوهي أزمة في الاقتصاد الحقيقي) في المركز ووصول رشقاتها إلى المحيط. وقد يكون لهذا تأثيره على إنتاجه المتأرجح بين رغبة في النقد الحارق ضد المادية التاريخية ومعلمها، وارتباك من الاصطفاف في معسكر الثورة المضادة مثالياﹰ وسياسياﹰ. ولا أرى أن لأصوله العربية وحياته في الغرب دور رئيس في ذلك.
لا شك أن شخصية سعيد الفكرية قد صيغت في مناخات أكاديمية صقلتها باتجاه معين. وعليه، فإن مناقشة ونقد أطروحات سعيد، ليس مقصوداﹰ بها منافحة عن المادية التاريخية، فالتاريخ لا يحتاج لمن يدافع عنه؛ نحن نحتاج فهمه، فهم قوانينه، فهذا القول تذكير بأن الواقع هو الذي يصقل الأفكار. إن المواقف التقدمية، أو أية مواقف لا علاقة لها بالقوم ولا بالنوع بل هي اختيار، وهنا يكمن ضعف الهويات.
هنا قد نلمس بعض ملامح سعيد التي تصطف، وللحقيقة بطريقتها، إلى جانب كثرة من الكتابات التي تغطي ﹰمدى يمور ما بين أقصَدة (من اقتصاد) يابسة للماركسية، وأﹶوﹾرﹶبتها مركزانياﹰ، وكلها قائمة على دفاع اللبرالية، أو دفاعهم عن اللبرالية، أمام جدل التاريخ. هذا ناهيك عن الكتابات التي استعارت من الماركسية (القوة والسيطرة والسلطة والهيمنة والقمع-فوكو) أكثر مما أبدعت، فوقفت في برزخ آخر بين إعلان نقض الماركسية وإعلان التمركس أحياناﹰ أو حين الطلب (سعيد وديريدا) وربما تم توظيف هذا الضخ الفكري الهائل أساسا لإحلال الفرد محل الطبقة، والثقافة محل الواقع المادي وتأثيره وميدانياﹰ محل الاقتصاد السياسي.
وعليه فإن عمل سعيد، كخطاب هو تحول من ماركس إلى فوكو، بعكس دراسات الاحتجاج والمقاومة المسلحة ضد الاستعمار الغربي (فانون) التي ارتكزت كثيرا على الماركسية، وبهذا فإن سعيد قد ﹼشكل انعطافا وصل اعتبار ماركس مستشرقا. هل هذا سبب الاهتمام الأكاديمي الغربي به، وهل هذا سبب اهتمام الثقافويين به هذه الأيام ومنهم العرب؟ وعلى أية حال فقد ظل سعيد خارج نطاق الماركسية لينتهي ضمن الإجماع تحت مظلة الهيمنة الأميركية. من هنا رأى سعيد أن كلفة النضال القومي عالية. والنضال لا يقاس بالعرض والطلب إلا في كلانية السوق.
وحتى سبيفاك التي حاولت تبرئة ما للماركسية من علاقة تشاركها بالامبريالية ، فقد عاينت الماركسية من خلال رضاها هي نفسها عن تعاط ما للماركسية مع الثقافة وليس من باب قراءة الماركسية في جوهرها المادي والاقتصادي.
مشكلتنا مع هؤلاء، أنهم وفروا حماية، يصعب فكها، للمثقفين الفردانيين المتخارجين العرب، بمن فيهم الفلسطينيين، طبعاﹰ وأساساﹰ، رغم اختلاف الواقع والمرحلة ودور البلد وموقعه في النظام العالمي، وأنظمة الحكم وحاجات الأمم ومهامها الملحة. فكثيراﹰ ما يقود الرفاه المعيشي الطبقي إلى ترف فكري، ويغري بالميل إلى التجريد الفلسفي. صحيح أنها افتراضات مشروعة ومنها ما يصل أحيانا حد التهويمات… لكن حين يتم حملها لتطبيقها ميدانياﹰ والوعظ بها ليحمل فقراء الأمم ﹶمهمة تنفيذها فينفذونها على حساب جلودهم، وهنا تكون الإشكالية.
لم يكن لينين عديم الخبرة والفطنة حين أصر على أن النظرية مطلوبة دوماﹰ للتطبيق؛ ﹾأن ﹶتمثُل أمام التاريخ! أما حين يصبح المفكر مروِّ جاﹰ لنظريته، وهذا أمر طبيعي، يصبح الشخص نفسه مسؤولاﹰ أمام ضحاياه في حال نتجت عنها كارثة. هل وعظ سعيد لنا، بنسيان الوطن واستبداله بمكان كلاجئين هو عمل إنساني، كما يصف نفسه، عمل عقلاني؟ وهل القبول ببقاء الكيان الصهيوني حتى لو ﹶقبل الصهاينة بدولة ثنائية القومية، هو تجاوب مع التاريخ أم قراءة فردية طبقية لصالح المركز الرأسمالي! هل الوعظ بالخنوع وحتى الاعتذار لكيان عنصري استيطاني وقاتل هو الموقف العقلاني؟ وهل هذه العقلانية ”الخاصة“ من قبل سعيد لها ما يبررها ولو نسبياﹰ أو بدرجات ضئيلة؟ وماذا كان سيحصل لمبناه الفكري، لم لو يكتب عن فلسطين أساسا؟ هل كان سعيد حاكماﹰ عربياﹰ يخشى على عرشه إن دخل حرباﹰ مع الكيان الصهيوني، فلاذ للحديث عن العقل والتعقل، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه…الخ. في حالة كهذه،تكون المصلحة الطبقية لنظام الحكم هي ”الأعلى“، وبالتالي من مصلحته ادعاء العقلانية.
أول عمل بشري كان دفاع الإنسان عن وجوده الفيزيائي، توفير الغذاء والمأوى/المكان بما هي محاولة البقاء في المأوى. البقاء في الزمن والمأوى في المكان. وبهذا اكتملت لديه، ليس بوعي بالطبع، مقولة ترابط المكان والزمان ومن ثم نشأ فهمه لهما، ذلك الفهم المتوسع والممتد من الإنسان الأول حتى الحالي. صحيح أن التاريخ الإنساني ٌّ سجل للصراعات الطبقية، لكن مقدمته الطويلة في الأساس سفر الصراع مع الطبيعة.
لا بأس، فتطور البشرية، أو عدم تطورها، لست أدري، أو انحراف قطار الطبيعة عن سكته باتجاه الملكية الخاصة أنتج الطبقات والدول بالطبع، وبالتالي صار لابد من تحويل المكان ، نظرا للصراع على الحيز، إلى وطن. وصار من ليس له وطن، ليس له مكان. صارت هذه مسألة حتمية.
وصار تاريخ الأمم صراعاﹰ اجتماعياﹰ يتم على خشبة الوطن، ومن وطن لآخر. فهل تجريد شعب من وطنه وتعويمه، حال الشعب الفلسطيني، هي حالة متقدمة (ما بعد-الأوطان) على ما وصلت إليه البشرية حتى يفاخر إدوارد سعيد برفض حق العودة بعبارات تقارب التقزز؟ أم أن ما يقبل به المثقف المستريح ماليا، يجب أن يسحب قسراﹰ على الطبقات الشعبية، على أكثرية البشر ما لم يتم تحطيم تاريخ الطبقات؟ وإذا كان أدورنو ومدرسة فرانكفورت ومختلف المثقفين الفرديين مستريحين معيشياﹰ هل يمكن إلغاء الوطن لكل الناس بالتوازي في عالم الملكية الخاصة وصراع الأمم والطبقات. هل يمكن سحب دفء أعشاش الأكاديميا على مخيمات الصفيح؟ أين العقلانية هنا؟
هل يحتاج المفكر الكثير لقراءة المادية التاريخية والاقتصاد السياسي، ليعلم أن طرد الشعب الفلسطيني من وطنه يقوم على أرضية مادية في الأساس، ناهيك عن الأرضية الإستراتيجية الإمبريالية التي تترجم مادياﹰ بالضرورة؟ هل الوطن هو عقد لؤلؤ لتزيين الأعناق؟
جزء 2 عن سعيد
-3 الاستشراق:
يؤكد سعيد أن موقفه استطرادياﹰ لما طرحه فوكو:« وجدت من المفيد هنا استخدام مفهوم فوكو عن الخطاب، كما وصفه هو في أركيولوجيا المعرفة، ونظام العقوبة Archaeologyof Knowledge and in Discipline and Punichلتعريف الاستشراق. بدون اختبار الاستشراق كخطاب فإن المرء يمكن ألا يفهم النظام، المنضبط بشكل هائل، الذي بموجبه تمكنت الثقافة الأوروبية من أن تدير وحتى تنتج- الشرق سياسياﹰ سوسيولوجياﹰ عسكرياﹰ عقيديا علميا وتخيليا خلال فترة ما بعد الاستعمار ”(الاستشراق ص 3)
مع أن كتاب الاستشراق هو دراسة مرجعية في الاستشراق إلا أنه يعاني من الكثير من عدم التماسك. ويعود هذا إلى غياب منهج محدد عند سعيد نفسه. لقد استعار سعيد نظرية الخطاب عن فوكو مؤكدا أن الاستشراق مثال على الطريقة التي بها يُعرِّف نظام نظاما آخر، حيث تصبح هي الغاية والأداة للسلطة الاجتماعية للسيطرة. وأن خطاب الاستشراق ﹼتضمن تمثيلاﹰ زائفا للعالم ﹶالمستعمر لكنه كشف الكثير عن الغرب.
وعليه، ليس ”الاستشراق“ دراسة من سعيد للشرق بقدر ما هو دراسة إشكالية الاستشراق الثقافي (برأيه) الغربي في خلقه ﹴلشرق على مخياله عن الشرق؛ إنها أشكلة الشرق وليست مشكلته ولا واقعه من جهة، كما أنها ليست إخراج الاستشراق ومعه الشرق الذي خلقه هو نفسه من شرنقة الثقافة إلى مادية التاريخ، ومسرح الصراع الطبقي المفتوح للاقتصاد السياسي. وهذه المباعدة بين الثقافي والمادي كمن يقرأ التجزئة العربية عبر وهابية الحكم السعودي وليس عبر نمط الإنتاج المهيمن وطبيعة التبعية بمستوياتها المتعددة للمركز الرأسمالي الغربي.
كان رأس المال دراسة ماركس للرأسمالية بهدف الإشارة إلى شبح الشيوعية والعمل على تجسيد الاشتراكية واقعياﹰ دون أن يخوض في تفصيل الاشتراكية. كان في مثابة فتح باب الاشتباك مع الرأسمالية وليس بالضرورة وصول النهاية، فما من فرد يوصل البشرية إلى مكان ما، بل هي تصل.
الاستشراق هو خلق شرق صنمي ينتهي إلى ما لا ﹸيمسك به وهذا شكل غطاء للمستشرقين يخفي مهمتهم الرئيسية كبعثات/غزوات فكرية ثقافية يلحق بها الجيش ومن ثم رأس المال في التحليل الأخير. وبدوره ركز سعيد على الثقافي ليعفيه ذلك من اعتماد المادية التاريخية.
ﹰوهكذا، تم اقتلاع الشرق وتغريبه وتصنيمه ثم التعاطي معه ثقافيا كما ﹸصنع. هذا ما يتعلق بدور الفرد المثقف، أما طبقياﹰ ورسمياﹰ ودولانياﹰ، فتم التعاطي مع الشرق كما يجري في العراق اليوم.
لقد أورد سعيد ضخاًّ من العبارات التي شكلت بالنسبة له باراشوت الهبوط المريح في ملعب قراءة الاستشراق. ”الشرق بوصفه تجريدا مثالياﹰ ولا متغيراﹰ“ ص 34.
”…المعرفة الحقيقية هي جوهرياﹰ لا سياسية، وإن المعرفة السياسية صراحة ليست معرفة
”حقيقية“. ص 54.
ولكن حين يُعوَّق ارتفاع المعرفة إلى مستواها السياسي، يقصد بذلك عدم لمس مستواها الاقتصادي وبالتالي الطبقي، فتظل المعرفة مخزونا ثقافياﹰ للفرد مما يعفيه من تفعيلها. تكون المعرفة السياسية غير حقيقية، إذا لم تكن موظفة من قبل العامل المادي الطبقي، الاقتصادالسياسي. وهنا أهمية قراءة الاستقلال/الانفلات النسبي للمستويات الأخرى، ثقافية سياسية…الخ عن العامل الاقتصادي المقرر في التحليل الأخير.
ما علاقة هذا بطروحات إدوارد سعيد الذي يقول:” إن فكرتي أن الاهتمام الأوروبي ثم الأميركي بالشرق كان سياسيا،ﹰ تبعا لبعض المصادر التاريخية الواضحة التي أوردتها هنا، لكن الثقافةكانت هي التي خلقت ذلك الاهتمام والتي ﹼفعلت بحيوية ديناميكية جنبا إلى جنب مع المعقلنات السياسية والعسكرية والاقتصادية العارية من أجل أن تجعل من الشرق المكان المعقد الذي كان بوضوح في الميدان الذي أسميه الاستشراق“ ( ص (46).
بين الثقافة، الفكر المجرد وإلى درجة عالية الافتراض الفردي، وبين العامل المادي الطبقي، المصالح الاقتصادية في توظيفها للسياسة والقوة العسكرية، أي دور دولة الطبقة، مدى من الاختلاف يصل التناقض. فالمستشرق والاستشراق وليد، وليس مولِّداﹰ لمناخ اقتصادي اجتماعي طبقي؛ هو أحد نتاجات ﹴتاريخ من الجوار المتصارع، حتى لو لم يكن أداة ﹰمباشرة للنظام الحاكم.
لذا يقول سعيد، “…فإن منظومتي الحقيقية هي أن الاستشراق لا يمثل ببساطة بعدا هاما من أبعاد الثقافة السياسية –الفكرية الحديثة، بل إنه هو هذا البعد، وهو بهذه الصورة أقل ارتباطاﹰ بالشرق منه بعالم (نا) (نحن). (ص 47)
نلاحظ هنا الدوران حول الثقافة من جهة، وتخليق السياسة من الثقافة وليس العكس. أما أل (نا) وأل (نحن) هنا فهي أحد نماذج غموضية سعيد المقصودة في أحيان كثيرة. ومع ذلك يظل لسعيد الفضل في حل نصف المسألة، فقد انتقد الاستشراق بما هو ثقافي، وأوضح أن الاستشراق هو رؤية الاستشراق الثقافي للشرق. أما نصف المعادلة الآخر، أي تخليق وظيفة وتوظيف الاستشراق بما هو ثقافي من قبل الغرب كطبقات حاكمة وتشكيلات اجتماعية اقتصادية، فلم يوفق في الوصول إليها، ليست مهمته.
ظل إدوارد سعيد، وحتى رحيله، في حاجة إلى قراءة أعمق في التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية لأوروبا في عصر رأس المال، منذ حقبته الميركنتيلية، ولاحقاﹰ الرأسمالية بمراحلها(تجاه الخارج) الاستعمارية فالإمبريالية فالعولمة، ليقتنع أن هذه التشكيلات بما هي طبقية، وبما هي المحتوى والشكل لنمط الإنتاج الرأسمالي المتوسع بما يتجاوز الحدود القومية، لا بد له أن يفرز موجات وبعثات إلى الشرق، منها الثقافية ومنها العسكرية، وفي النهاية لتحمل معها منتجات رأس المال ورأس المال المالي نفسه. وبعدم التقاط التحليل الاقتصادي السياسي،انتهى سعيد إلى “تنزيه” ﹸموارب للاستشراق عن انغماسه في حضيض المصالح والاستغلال …الخ.
»… إن الدراسة الإنسانية، إذ تتحكم بها اهتمامات كهذه، يمكن أن تتجه بمسؤولية كاملة إلى دراسة السياسة والثقافة. بيد أن هذا لا يعني القول إن دراسة كهذه يمكن أن تؤسس قاعدة صلبة دائمة للعلاقات بين المعرفة والسياسة. ان منظومتي هي أن كل اكتناه في الدراسات الإنسانية ينبغي أن يصوغ طبيعة تلك العلاقة ضمن السياق الخاص للدراسة وللموضوع،ولظروفه التاريخية” (ص 49)
سوف يعثر القارئ على كثير من هذه الترددات التي حين يصل سعيد في تحليله إلى حافة الواقع المادي، العمل السياسي، لا يلبث أن يقفل راجعاﹰ إلى الحضن الرمادي للثقافي، كي لايتخذ موقفاﹰ(أنظر لاحقاﹰ حول المثقف). ومع ذلك يكسب في نظر كثيرين، ممن لا يعملون النظر بدرجة كافية، الانطباع بأنه صاحب منهج تاريخي، وهو في الحقيقة يحاول إقناعنا بمنهج
مركب ثقافياﹰ ومادياﹰ، أو ثقافيا في النهاية.
ولا يخفي سعيد منهجه التهجيني، فيتابع »…المستشرق قائم خارج الشرق، بكلا الوجهين:
” كحقيقة وجودية وكحقيقة أخلاقية« (ص 54)…. وبكلمات أخرى، فإن منظوري لهجين هو بشكل عريض تاريخي وعلم إنساني (انثروبولوجي) في ضوء إيماني بأن جميع النصوص دنيوية وظروفية بطرق تختلف (طبعا) من جنس إلى آخر، ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى” « ص56).
التهجين ممكن، ولكن من حق القارئ قراءة أي منهج هو الذي يعيش من تهجينات متواصلة بين مكونات متناقضة وأحياناﹰ تناحرياﹰ؟ ولا يكفي أن يعيش النهج، فقد يظل على قارعة التاريخ.
المنهج وكيف يوظفه صاحبه في حركة التاريخ وصناعته؟ أين يقف هو: أي منهج الذي يقصد الاشتباك والتغيير! ثم، كيف يولد النص؟ هل يولد من ذهن الناص الكاتب، أم من الواقع، وعليه، ليس شرطاﹰ أن تختلف النصوص من جنس لآخر، بل هي لا تختلف. فالنصوص تختلف طبقاﹰ للمنهج/المناهج للوعي الطبقي للموقع الطبقي للموقف من الصراع المحتدم.
“….لو كان الشرق قادراﹰ على تمثيل نفسه لفعل ذلك، وما دام غير قادر فإن التمثيل يقوم بالمهمة من أجل الغرب، ولأعيننا نحن، نيابة عن الشرق المسكين. :إنهم عاجزون علن تمثيل أنفسهم ، ينبغي أن َّ يمثلوا” (ماركس الثامن عشر من برومير للويس بونابرت« ص54).
يمكن للمرء هنا أن يفهم من هذا أنه قول ماركس، اعتقاد ماركس، ولكن يمكن أن يفهم كذلك أنه قراءة ماركس للواقع، فمن لا يمثل نفسه، لعجزه بالطبع، ينبري الأقوى لاقتحامه، هذا ما قصده ماركس، وذلك لتمثيله، أي لامتطائه واستخدامه. فالقضية هنا صراع قوة، بمعنى أن من لا يمثل نفسه في مرحلة ما، ﹶمن يعجز عن تمثيل نفسه، يمكنه في مرحلة أخرى أن يفعل، هكذا التطور، ما لم ﹼيتم اغتصاب حاضره. لكن الصراع كقانون قوة يحكم البشرية، لا سيما في التشكيلات الرأسمالية لا ﹸيمهل الضعفاء. هذه هي القراءة الحقيقية لماركس. فهل كان قصد ماركس تبرير الاستعمار؟ لنبق هذا السؤال مفتوحاﹰ.. الاستشراق استعمار والاستعمار »تمثيل ما للآخر العاجزعن تمثيل نفسه. حتى منذ زمن ماركس لم يكن للنظام العالمي أن يسمح لأحد أن يغلق الباب على نفسه. فالنظام العالمي يخلع الباب ويدخل. هذه صنعته. لا اوتاركية، ولا حتى فك ارتباط! هذا معنى قول ماركس، وجوب قراءة الواقع بكل ثقله وعنفه.
يجمع مفكروا الاقتصاد السياسي على مقولة: “لا يابان بعد اليابان”. لكنني أعتقد بضرورة توسيع هذه المقولة لتكون: ” لا أوروبا بعد أوروبا”، هذا المشروع المركزاني الاستقطابي الأوروبي هو الذي لم يسمح لغيرها بتمثيل نفسه، فتستعمره لتمثله هي. هذا هو المآل الطبيعي الذي رآه ماركس، والذي لا يعني بالضرورة قبوله به أخلاقياﹰ، لكنه رأى “حتمية” حصوله. هذا يفتح على أمور أوسع من الثقافة. هنا يجد الاقتصاد السياسي موضعه. في هذا السياق تمت صياغة أو افتراض النمط الآسيوي في الإنتاج وعدم قدرة كتكوت المحيط على اختراق قشرة شرنقته، فكان لا بد من الاستعمار الإيجابي ليفعلها. أما الهدف فهو أن يظل الكتكوت عاجزاﹰ إلى الأبد، هذا إذا كان عاجزاﹰ.
ويواصل سعيد: “وأحد أغراض الكتاب الحاضر هو أن يمثل على الاستشراق ، ويوضحه، ويحلله ويتأمله من حيث هو ممارسة للقوة الثقافية” (ص71 ). هذا بعد أن قال: ” إن منظومتي هي أن كل اكتناه في الدراسات الإنسانية ينبغي أن يصوغ طبيعة تلك العلاقة ضمن السياق الخاص للدراسة وللموضوع، ولظروفه التاريخية« (ص49). أين يقف سعيد هنا؟ أم هو هنا وهناك؟ ومن جهة ثانية، هل الشرق بلا قوة ثقافية يمثل نفسه بها؟ هل يفتح هذا على تبرير تسويد الثقافة الأميركية عالميا؟
” .. وما أطرحه هنا هو أننا ما لم نكتنه الاستشراق بوصفه إنشاء فلن يكون في وسعنا أبدا أن نفهم الفرع المنظم تنظيما عالياﹰ الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبر الشرق –بل حتى إن تنتجه- سياسياﹰ، واجتماعياﹰ وعسكريا، وعقائديا، وعلمياﹰ، وتخيلياﹰ في مرحلة ما بعد (عصر) التنوير«(ص 39)
هل الثقافة الغربية هي التي أنتجت الشرق، أم أنها أنتجت شرقا خياليا مخيالياﹰ، في حين أن البنية الغربية هي التي حولت الشرق ماديا لما هو عليه؟ هل يمكن لمفكر أن يرى الشرق ويحصره في خطاب الاستشراق ولا يرى الصراع المحتدم عبر قرون وما آل إليه من احتجاز التطور (الاستشراق ص39) نحن إذن أمام قراءة للاستشراق وليس الشرق. ترى لو كان قراءة للشرق هل كان سيختلف الأمر.
”…غير أن ظاهرة الاستشراق كما أدرسها الآن، لا تعالج ، بشكل رئيسي، التطابق بين الاستشراق والشرق ، بل ِّ الاطراد والاتِّساق الداخليين للاستشراق وأفكاره عن الشرق (الشرق كصنعة) على الرغم من، وبما يتجاوز، أي تطابق أو غياب للتطابق مع شرق حقيقي“.
الاستشراق ص 41
رغم محاولات التفلت من تطبيق تطابقه، تماثله كما-بعد كولونيالي، إلا أنه لا يستطيع تماماﹰ. يبقى بحث سعيد في نطاق تحليل ونقد الاستشراق. ومخاطر هذا أنه يعفي الغرب كغرب من تبعات مشروعه الاستشراقي، ولا يعفي سعيد محاولة التملص من عدم تطابق أو عدم تطابق الاستشراق مع شرق حقيقي. وهذا يعيد للذهن مجدداﹰ، مدرسة التعالي النظري المابعد حداثي على السياسة والمقاومة!
” بل إنه من الممكن أن يطرح المرء منظومة تقول أن المكون الرئيسي للثقافة الأوروبية هو بالضبط ما جعل الثقافة متسلطة داخل أوروبا وخارجها على حد سواء: فكرة كون الهوية الأوروبية متفوقة بالمقارنة مع جميع الشعوب والثقافات غير الأوروبية. وثمن، بالإضافة إلى ذلك، تسلط الأفكار الأوروبية عن الشرق، التي تعيد بدورها تأكيد التفوق الأوروبي على التخلف الشرقي، ملغية عادة احتمال أن مفكرا أكثر استقلالية وأكثر شكا قد يشكل وجهة نظر مغايرة حول (هذه) المسألة“ (الاستشراق ص 42)
لا ينحصر الاعتقاد بالتفوق القومي والهوياتي والثقافي في أمة محددة، ولا في قارة محددة، هذا مع العلم أن الحديث عن أوروبا قد ينطبق على الجزء الغربي منها. فمختلف الأمم تعتقد بأفضليتها، ولا أعتقد أن الاهتمام بالمركزانية الأوروبية قد حصل لأن أوروبيين زعموا ذلك، بل فعلوا ذلك ومارسوه. فهذه النزعة العلوية ناجمة، بمعزل عن إشكالية أين تصنف اليونان، عن استعمار أوروبا للعالم وقهره. لذا، فثقافة أوروبا المتسلطة هي نتاج قوة أوروبا الغازية ﹺوالمستغلة. وعليه، فالانحصار في قراءة الاستشراق كخطاب هو اندغام في معتقد التفوقية الأوروبية بمعنى القوة والسيطرة/الاستعمار فالإمبريالية فالعولمة، هنا معنى التطابق. أما المفكر فهو سعيد الذي قد يغاير الإستشراق ولا يغاير الغرب. بل في مواقع معينة هو ﹲمستشرق. وهكذا، يظل لدى سعيد حضور الثقافة كبديل لحضور المادية التاريخية كمدخل والاقتصاد السياسي كواقع:
” ليست القوة الثقافية شيئا يمكن أن نناقشه بسهولة – وأحد أغراض الكتاب الحاضر هو أن يمثل على الاستشراق، ويوضحه، ويحلله ويتأمله من حيث هو ممارسة للقوة الثقافية“ (الاستشراق ص 17). ولكن، ماذا عن الشرق، هل جرى تقويضه بالقوة الثقافية؟ وهل القوة الثقافية هي التي خلقت القوة العسكرية والثورة الصناعية؟ إن كان الأمر على هذا النحو، فإن سعيداﹰ إنما يضع القوة الثقافية في موضع روحي آت ﹴ من السماء، وهذه كلانية الكلانيات!. لعل في هذا التضخيم والانحصار في القوة الثقافية مهرب مناسب للمباعدة ما بين تعالي الكاتب وغبار أرض واقع الصراع مع الطبقة ودولتها.
” إلا أن الشرق العربي والإسلامي، بشكل عام، كانا الوحيدين اللذين واجها أوروبا بتحد لم تجد حلا له على الأصعدة السياسية، والفكرية، ولزمن قصير الاقتصادية أيضا. (الاستشراق ص 101). هل اقترب سعيد هنا من التحليل المادي للتاريخ؟ ليس مؤكداﹰ.
”“…ومنذ نهاية القرن السابع حتى معركة ليبانتو عام 1571 كان الإسلام، في شكلهالعربي، والعثماني، أو شمال –الأفريقي والاسباني، قد طغى على المسيحية الأوروبية أو هددها تهديدا فعالا. (الاستشراق ص 101). نعم ليس مؤكداﹰ، ها هو يرد الصراع الدولاني الاقتصادي السياسي إلى تفسيرات دينية.
”أما نفسيا، فان الاستشراق شكل من أشكال العصاب التوهمي، (بارانويا) ومعرفة من النتائج التي تؤدي إليها الجغرافيا التخيلية والحدود الاحتدامية التي تقوم برسمها(الاستشراق ص 100).
ليس شرطاﹰ إلا على المستوى الفردي حتى لو للقادة. فقراءة حقيقية للاستشراق تكشف أنه مشروع، أو الجزء الثقافي من مشروع استعماري، جزء لا يعمل لوحده ولا ينفك عن خدمة العامل المادي.
”غير أن الهند نفسها لم تشكل مرة واحدة تهديدا محليا لأوروبا. (ص201). هذا المثال كان كافياﹰ لقراءة الشرق والغرب وليس فقط الاستشراق. هذا التنقل أو السماح للنفس بطرح متناقضات كما لو كانت من لون واحد هو مدخل فرداني للتحليل وليس مدخل من يفكر من أجل التغيير.
يقدم استشهاد سعيد بالمقتطفين التاليين ﹰصورة عن منهج إدوارد سعيد المتهرِّ ب من رؤية الواقع، المنهج الذي يربط أحداث التاريخ بمُثل يزعمها الساسة نفاقاﹰ، وتخيلات يلقيها الشعراء جزافاﹰ. سيكون التاريخ جنة اﷲ على الأرض إذا كان ما أراده نابليون إسعاد الشرق. ولم ﹶيبق لسعيد إلا أن يوافق على أن جورج بوش أرسل جيوشه لأن المحافظية الجديدة تأكلها الحسرة على حقن الشرق بالديمقراطية،وكذلك العراق ومناطق الحكم الذاتي!
فيكتور هوغو
“بجانب النيل أجده مرة أخرى
ومصر تتألق بنيران فجره اوصولجانه الإمبراطوري
يبزغ في الشرق ظافرا مليئا بالحماسة،
متفجراﹰ بالإنجازات ابن المعجزة أذهل ارض المعجزات
والشيوخ المسنون ُّ أجلوا الأمير الفتي الحكيم وملأ الناس خوفا جيوشه التي لم يكن لها سابق
ونبيلاﹰ، جليلاﹰ ظهر للقبائل المذهولة
مثل ماهومت غربي” (109)
جان فورييه:
” وأراد نابليون أن يقدم مثلا أوروبيا نافعاﹰ للشرق، وأن يجعل حياة السكان ،
في نهاية المطاف، أكثر سعادة، وأن يستحضر إليهم أيضا جميع المزايا الكامنة في حضارة أمة وصلت درجة من الكمال. (ص 111).
ما الذي يحدد غزو نابليون لمصر: خيال فورييه أم أطماع الثورة البرجوازية الفرنسية؟ هل تم القياس على علاقة الثورة الفرنسية بأوروبا؟ وهل كانت الثورة الفرنسية ثورية على مستوى الطبقات الشعبية في فرنسا، ناهيك عن بقية العالم؟
ماركس: ” لقد كانت بريطانيا دون شك ﹰمدفوعة في تسببها لحدوث ثورة اجتماعية في الهندستان بأكثر المصالح قذارة، كما كانت حمقاء في الطريقة التي بها فرضت هذه المصالح، لكن هذا ليس السؤال الحق. بل السؤال هو هل يستطيع الإنسان أن يحقق مصيره دون ثورة جذرية في الوضع الاجتماعي لآسيا؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فمهما تكن الجرائم التي ارتكبتها انكلترة ، فإنها الأداة غير الواعية للتاريخ في إنجاز هذه الثورة.
وإذن، فأياﹰ كانت المرارة التي يتركها مشهد عالم قديم يتهاوى في مشاعرنا الشخصية، فإن لنا الحق، في منظور التاريخ، أن نهتف بتعجب مع غوتة:
” أينبغي إذن لهذا التعذيب أن يعذبنا ما دام يهبنا متعة أعظم؟أو لم تفترس أرواح لا تحصى”
السؤال لماذا نحاكم ماركس وليس هوغو؟ ثم هل نحاكم سعيداﹰ؟
»…إن على انكلترة أن تحقق في الهند رسالة مزدوجة :الأولى تدميرية، والثانية إحيائية تجديدية –إفناء المجتمع الأسيوي، وإرساء الأسس المادية للمجتمع الغربي في آسيا”
نعم، حصل الأول وليس الثاني. هنا أعجز ﹰالتحليل ماركس، ولكن هذا لا يعني أن ماركس كان استشراقياﹰ، على الأقل بالمنهج.
يتناول صادق العظم نقد سعيد للاستشراق من باب تمترس سعيد نفسه خلف تأكيد طبائع ثابتة للثقافات، ويسميها ”ميتافيزيقا الاستشراق“. أي كأن ثقافة الأمم أعطيت لها على شكل ديني من الأعلى، لذا لم تكن نتاجاﹰ تاريخياﹰ. فالنتاج التاريخي هو نتاج إنساني في المبتدأ وفي التحليل الأخير.
وقد تكمن مشكلة سعيد أنه يحاول نقد هذه الإطلاقية الثقافية الاستشراقية من خلال فضح ارتباطها بمؤسسة الاستشراق وعبر تفنيد مزاعمه التقليدية حول تحليه بالموضوعية والاستقلال الفكري والحياد العلمي..الخ.
ويواصل العظم بأن سعيد يرى: ” أن الخصائص التي تميز المجتمعات الغربية ولغاتها وثقافاتهاالخ، هي على ما هي عليه، في التحليل الأخير، لأنها تنساب من طبيعة ” غربية ” معينة متفوقة على باقي الطبائع وبخاصة الطبيعة ” الشرقية ”. لذلك يؤكد ادوارد بأن ” جوهرالاستشراق هو التمييز الذي لا يمحى بين التفوق الغربي والدونية الشرقية (الاستشراق، ص42)
فهل حقاﹰ، هناك غرب واحد مقابل شرق واحد، آخر واحد أو أغيار؟ مرة أخرى The West and the Restأو The uniqueness of the West؟ وهل نجح سعيد في تفكيك هذا الغرب المتعالي على الشرق؟ لا هذه ولا تلك. فالغرب هو نتاج التطور التاريخي، والصراع الطبقي، ولذا، لا يوجد غرب واحد على أساس خطي، ولا شرق كذلك. ومن جهة أخرى، لم يفكك سعيد هذا ”التناغم“ الغربي الموحد، طالما لم يدخل في تناقضاته الطبقية والفكرية. وما حصل هو أنه بقي في نطاق الغرب اللبرالي.
إن تثبيت أن أوروبا ذات عقلية لا تتغير عن بقية العالم، بمعنى قناعتها بتفوقها وحدها وتعصبها، هو أمر يجب وضعه في سياقه التاريخي بمعنى أنه في كل لحظة تاريخية محددة تكون هناك بنى ثقافية وإيديولوجية. هذا من جهة ومن جهة ثانية، فإن سواد هذه القناعة لا يعني اكتناف مطلق لكافة الناس هناك. بكلمة أخرى، لا ثبات لثقافات و شعارات أو علاقات معينة كما أنه لا تسود كل الناس حينما تهيمن في مجتمع معين. ذلك لأن ما يحدد ويخلق ويقود الثقافات هي علاقات الإنتاج الاجتماعية القائمة والمرتكزة على نمط الإنتاج المهيمن. كما أن تغيرات الأنماط تقود إلى تغيرات الثقافات. وبما أن الأنماط في خدمة طبقات، فالثقافات في التحليل الأخير طبقية أكثر مما هي قومية.
قد يسعف سعيد في حجته بزعم واحدية الغرب تلك المركزانية القائمة على Theuniqueness of the west، لكن التطور التاريخي للبشرية بعامة يعمل بغيرهذا الاتجاه. فلم تكن هناك ذات يوم أوتاركية للغرب عن الشرق أو العكس.
بمجانبة التحليل المادي التاريخي، ﹼبرر سعيد نقده للاستشراق الثقافي/الأكاديمي (كما يقول العظم) ”على أنه مفرِّ خة مؤسسة الاستشراق الذي تجلى في اهتمام أوروبا بالشرق ارتكازا على ما ذهب إليه هوميروس، وكذلك الاهتمام الأميركي المتأخر بالشرق“.
هنا يزعم سعيد أن الثقافي يسبق المادي والفردي يحرك التاريخ والمؤسسة.
ﹰنتيجة لهذا الفهم المثالي، المقلوب لعلاقة الاستشراق الثقافي-الأكاديمي بمؤسسة الاستشراق( بما هي حركة توسعية وقوة مادية متجهة شرقا )، لا غرابة في أن نجد آراء وأحكاما وتحليلات في صلب كتاب إدوارد تؤدي إلى تعليلات من النوع التالي:
“الاستشراق الثقافي- الأكاديمي هو المسؤول الأساسي عن ظاهرة بروز شخصيات شهيرة في الغرب من أمثال نابليون بونابرت واللورد كرومر وآرثر بلفور ولورنس العرب أشرفت على عمليات غزو الشرق وحكمه ومراقبته ودراسته واستغلاله، وكأن عوالم الخطاب، والحقائق المبالغ في صفاتها وترفعها، والمعارف اللامتناهية في مستويات التوسط التي بلغتها، بالإضافة إلى عناصر مثل العبارات والاستعارات والانطباعات والصور والتصورات والحساسيات والأجواء قد حلت كلها محل الواقع الخام بكثافته وفظاظته وعينيته فأضحت هي موضع الاهتمام الأول ومحط دراسته المستفيضة. وإذا كان ادوارد يتهم الاستشراق الثقافي-الأكاديمي بتحويل الواقع المعاش للشرق إلى مادة للنصوص فإن إدوارد بدوره يقوم بتصعيد الوقائع الصلبة التي حكمت تفاعل الغرب مع الشرق إلى مستوى متاع الروح اللطيف. لذلك لا يخلو الكتاب من مواقف مناهضة للعلم والتفكير العلمي المنظم«.
وقياساﹰ على نسب غزو الشرق لشخوص مثل نابليون وبلفور وتأثرهم بالاستشراق، يمكن القول أن حملات المغول كانت متيمة بإسالة الدماء وتلوين مياه دجلة بحبر الكتب، وأن قادة حملات الفرنجة كانوا مدفوعين بالدين، وليس بالبحث عن إمارات لهم! هل قصد سعيد خدمة المثقف الشرقي المتخارج بأنه وحده الذي يقربه الغرب منه، فريق الأكاديميا. هنا تجنيد النخب واستقطابها.
لكن العظم أﹸخذ هنا بالتحليل السوسيولوجي الفلسفي، ولم يدفع تحليله أعمق في أنماط الإنتاج والاقتصاد السياسي والتشكيلة وأثرها في وعي وثقافة كل مجتمع.إن ما يحدد تقدم وتخلف وخرافية مجتمع ما هو طبيعة التشكيلة ومحركها، وإذا لم نعمد إلى هذا يبقى موقف صادق وصفيا نقديا وليس موقفا يلتقط آليات الانتقال والتغيير والتحول ووجوب ذلك.
هذا وإن كان العظم قد تطرق لهذا عموما في حديثه عن ماركس لكن دون وضع النقاط على الحروف.
ولكن، هل حقاﹰ، كان الاستشراق هو دافع ماركس إلى هذا الموقف؟ وهل كان سيتلوث بالاستشراق إلى هذا الحد، أم تاريخية ماركس واقتصادويته، وهنا معنى الاقتصادوية، هي التي أثرت فيه بمعنى، أن لا بد للقوة العسكرية والصناعية أن تجب ما قبلها، رغب بذلك أم لا!. ترى لو كان ماركس على إطلاع بمستوى التطور في الهند والصين، هل كان سيقول غير ما قال؟.
لا بد من قراءة ماركس في الاقتصاد السياسي وليس في تصورات الاستشراق عن الشرق منحيث ثباته الأبدي. كما أن نمط الإنتاج الأسيوي هو افتراضي وتعميمي، ومن هنا تشابهه معالاستشراق وليس استشراقيته.
هي تشكيلات زائلة حتماﹰ، دون اختراقها من قبل المركز، ولكن علينا التنبه إلى أن ماركس قد بالغ أو تخيل دور المركز في المحيط، أو لم يلتقط المرحلة الانتقالية فيوسع الحديث عنها وهي أن المركز سوف يحتجز تطور المحيط، إلى أن يستسلم لذلك أمام قوة الثورة، هنا وجوب التفريق بين نفي النفي الطبيعي كمآل طبيعي للجدل وبين نفي النفي بوعي وقرار وبالتالي التحكم فيه.
-4 ثقافوية ما بعد الاستعمار: ما بعد الاستعمار…كثقافوية
تهتم نظريات ما بعد الاستعمار باختبار الآثار الثقافية للاستعمار على المستعمر ﹶوالمتسعمر.
لقد طرحت دراسات ما بعد الاستعمار، بما هي في حقل النقد الأدبي في دوائر اللغة والأدب، ﹼلتحل محل نظريات التبعية Dependencyونظرية النظام العالمي World System ، التي اعتبرت أن الاستعمار بقي بأشكال عدة…نعم بدأ التحول من الاقتصادي إلى الثقافي والتأثير الثقافي للاستعمار. واهتمت المابعد بإدخال أدبيات من غير البلدان الاستعمارية في دوائر الأدب المقارن. وبهذا، فإنه بقدر ما كان ِّ منظرو التبعية أقل ﹰحزبية، فإن ﹼمنظري ما بعد الاستعمار هم أكثر ﹰأكاديمية، أي منطلقين بل منحصرين في مقاعد الجامعات.
ومع أن نظريات ما بعد الاستعمار تأثرت جزئيا بمدرسة التبعية من حيث انجاز التحديث والتصنيع باللحاق معبرة عن شكها في التقليد السياسي والثقافي، إلا أنها شكلت تحولا حادا في الطريقة التي أجريت بها دراستها الأكاديمية للخصم الاستعماري في الجامعات الأميركية.
ورغم إسهام ﹶمدرستَي التبعية والنظام العالمي في تأكيد حضور وليس رحيل الاستعمار، وهذا يفترض تواصل النضال في المحيط بما يخلق مناخاﹰ يساهم في تفكيك المركز (أي مسألة مركز الثورة العالمية أو مبتداها، إلا أن مشكلتهما ظلَّت في الاعتقاد أو التعويل على الدولة في إنجاز الاشتراكية، وهو الأمر الذي كانت بلدان الاشتراكية المحققة نموذج فشله
قد تنفرد نظريات ما بعد الاستعمار عن كثير من المابعديات في الانحراف الحاد للآخرين عن موقف مؤسسها (لنستعيد مصطلح التحريف) فرانز فانون إذا اعتبرنا فرانز فانون هو مؤسس هذه النظريات.
فرانز فانون أسود من المارتينيك حارب مع فرنسا في الحرب الثانية، وضدها في الجزائر، وهو طبيب/عالم نفس ومن ثم ﹼمنظر لوعي الأقليات، كما َّ تمكن برشاقة من تشكيل نفسه كقومي وطني جزائري ومن َّ ثم أممي. وهو في معظم هذه المراحل/المواقف متناقض مع ﹼمنظري ما بعد الاستعمار،وبشكل واضح مع إدوارد سعيد الذي انتقى منه كما انتقى من غيره (أنظر لاحقاﹰ)
ما بعد الاستعمار تنوع متناقض في ما يخص القومية والماركسية والتبعية. أما إدوارد سعيد،فممتلئ بهذه التنوعات. فبعكس فانون، ذهب بالاتجاه الإنساني، بدل الماركسي، وباتجاه مثقف أكاديمي بدل مثقف عضوي (غرامشي) وبمثقف لا عنفي مقابل مثقف سعيد (أنظر لاحقا)، أي لم يكن ولم يتحول إلى مثقف مشتبك.
»كان المساهمون الراديكاليون في المابعديات، ما بعد الاستعمار، بعيدين على الأغلب عن المنظمات الاشتراكية والنضالات العادية للشعب العامل. ولكن بدرجة من التلاعب حشرﹶ كثيرون تحت عباءة نظرية ما بعد الاستعمار مناضلين وثوريين، أمثال فرانز فانون، في “معذبو الأرض” (1963)، وأميلكار كابرال في”العودة إلى المنبع” (1973)، وتم هذا في نطاق مقالات ومقابلات جمعت مؤخرا، كما فعلت جاياتري شاكرافورتي سبيفاك في كتابها “نقد ما بعد الاستعمار” (1990) وهومي. ك. بابا في كتابه “موقع الثقافة” (1994)، ولخدمة وتمرير هذه المزاوجة/التهجين والتمطيط أن أخذ طلاب نظرية ما بعد الاستعمار يرطنون بلغة خفية لا يسهل فهمها، إلا على علية القوم ذوي الامتيازات، وهذا ما يخرج فانون وأميلكار كابرال من هذه الحلقة، وليس السبب محصور في كتاباتهم ذات الطبيعة المختلفة بمعنى الارتباط بالأرض تماماﹰ، بل لدورهم الميداني” (سان خوان )
بتوضيح أشد، هذا التوجه(المابعد استعماري) خبيث ومتلاعب، فقد دمج سفاحاﹰ بين الثوريين الذي خلعوا الاستعمار نضالياﹰ (فانون وكابرال) وبين ثقافويي ما بعد الاستعمار المنغمسين في التماثل مع الاستعمار نفسه من مدخل الخطاب. وهذا ضمن قدرة لغوية ِّ ونصية على التلاعب والنفاق.
الفارق بين هذه النظريات وفانون أن هذه تكشف وتشرح الاستعمار وحالة ما بعده لكنها لا تتحول إلى مشروع تغيير. هي تفكك لكنها تترك المفككات وراءها ولا تحاول تغيير التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية وثقافتها. فهي تقسم المهمة بينها وبين غيرها: نعم بينها وبين الاقتصاد السياسي! ليقوم هو بالتغيير.
وبعيداﹰ عن أطروحات فانون، المؤسس المفترض لها قبل التحريفيين، هذه النظريات هي إحدى تمفصلات الأكاديميا الغربية، الدراسات الثقافية خاصة، وهي امتداد لطبعات متعددة من المابعديات. والمابعديات هي في الأساس نتاجات ومديات ليبرالية/برجوازية تهدف إلى وتتكاتف ضمن ما بعدية واحدة، هي ما بعدية الماركسية. وما بعد الماركسية هنا ليس مقصوداﹰ بها محاورات ومناظرات َّ نصية بحتة، ليست مقارعة الخطاب بالخطاب، ليست مبارزة شعرية أومعلقات على جدار الكعبة، بل مقصود بها ما بعد الثورة الاشتراكية. فالمعنى الحقيقي والمبررالعملي للماركسية هو تغيير العالم. أي عالم؟ عالم النظام الرأسمالي العالمي. على هذه الأرضية يجدر التعاطي مع هذه النظريات.
هي ما بعدية المدخل المادي التاريخي لقراءة العالم وتغييره، أي الثورة. هي حلول الفرد محل الطبقة. وهو المدخل الأسهل للعبث واللاجدوى واللاإلتزام، بمعنى أنه في وسع الفرد أن يكتب وينتقد، أن ينشىء خطاباﹰ ما بعد راديكالي، ولكن ليس بالضرورة واجبه أن يعمل ويشتبك.
والأخطر أن يحرض الطبقة على الاشتباك. في حين أن الطبقة والطبقية هما مشروع نضال بالضرورة، فالطبقة لا توجد إلا في وضعية الصراع الطبقي ولا سيما الطبقة العاملة التي تكون بدون الصراع الطبقي كماﹰ هائلا وهلامياﹰ يسهل استخدامه بالاستغلال والصوت الانتخابي معاﹰ، بما يفترض أن يكونا نقيضين.
من هنا وصل المابعديون (مثلاﹰ فوكو) إلى أن من يحاولون التصدي للقوة والسيطرة سوف ينتهون إلى العجز عن هزيمة الدولة التي أسست القمع الذي يعترضون عليه. هل هذه الاستحالة عقلانية؟ إلا إذا كان المعترضون أفراداﹰ مغامرين، فكريا في الأساس. وهذا الاختلاف مع الاعتراض الطبقي. لذا انتهت مابعدية (فوكو، دريدا وسعيد) إلى الوعظ بالتسامح. والتسامح هو ارتداد مثالي يقف على النقيض من التناقض الطبقي، والأهم النضال الطبقي لوجوب إزالة الواقع الطبقي.
هنا يحضرنا قيام سعيد ِّ بزج غرامشي ضمن ما بعد الحداثة، ربما لأن غرامشي ركز على المجتمع المدني، وهو الأمر الذي يراه كورش من مدخل آخر، بأن تشريحه الدقيق يكمن في الاقتصاد السياسي، والاقتصاد السياسي طريق يفتح على الصراع الطبقي وليس على عبثيات ما بعد الحداثة.
يسمح لنا هذا التهجين المقصود بكلمة عن “احتلال المصطلح”. ففي حقبة العولمة، الثورة المضادة شاهدنا كيف تمكن المصرف الدولي من استخدام مصطلحات مثل التنمية والتنمية المستدامة . وبالطريقة نفسها يتم الخلط بين النقابات العمالية والاتحادات الشعبية وبين منظمات الأنجزة لتسمى جميعاﹰ “المنظمات الأهلية” في تعريفات خبيثة ِّ تسهل لها العمل في الأوساط الشعبية هادفة إلى نشر الثقافة الاستهلاكية الواحدة، ثقافة السوق، وتجنيد نشطاء اليسار ليتحولوا إلى شريحة َّ تتعيش على العائدات غير المنظورة مقابل مسح تاريخهاُ والتجند في خدمة منظمات الأنجزة التي تمثل طبعة الاستشراق الجديدة، استشراق حقبة العولمة، بما هو رسمي ومباشر، وهذا ربما يشكل الرد أو التفسير الحقيقي لما لم ينجحفيه إدوارد سعيد.
» وفي الوقت نفسه، فإن الكثير من نظرية ما بعد الاستعمار، حتى عندما تستخدم مصطلحات ماركسية، “مرة ثانية تحتل المصطلح” … فإنها بشكل واضح أو ملتبس إنماتستثير الجناح الأكثر غموضاﹰ من -حركة ما بعد الحداثة- التي هي، رغم أنها تتورط أحيانا في أقوال مزدوجة كي تتحاشى الظهور بمظهر مزر، فإنها تنكر إمكانية أن تقوم اللغة كوسيلة لنقل الحقيقة الموضوعية وذلك بناء على نظرتها إلى اللغة باعتبارها نظاما للمرجعية الذاتية.
من القول الخبيث الزعم بأن نظريات ما بعد الاستعمار سمحت لآداب وثقافات المقموعين بالظهور والتداول. والسؤال هو، كم من هذه مثلت الروايات الحقيقية للمستعمرات؟ وكم منها التي كانت نقضاﹰ لثقافة الاستعمار وليس تشبها بها وتطابقاﹰ معها؟. وهل المطلوب هو فقط إشهار ثقافات المستعمرات أم محاسبة الاستعمار نفسه، ومواصلة النضال ليخرج الاستعمار بشكل حقيقي، هل المسألة في كرسي الجامعة أم في ميدان الصراع. أم أن هذا دور الآخرين؟ وإذا كان خروج الاستعمار أو عدم انتهائه مسألة خلاف، وأن هناك مبالغة في الاستقلالات الشكلية، فإن الاستعمار يرفض حتى الاعتذار عن تاريخه الدموي. هذا ما اتضح بجلاء في مؤتمر ديربن قبل يضع سنوات وفي سويسرا هذا العام.
وهذا يؤكد السؤال الجوهري: هل هناك حقا ما يسمى بما بعد الاستعمار؟ ربما هنا يكمن الفارق بين مدخل الثقافة ومدخل الاقتصاد السياسي. فكما أشرنا، مدرسة التبعية ،وبشكل خاص مدرسة النظام العالمي The World System، لم تتجاوز على حقيقة بقاء الاستعمار. ليست لديها ما بعدية إلا إذا حصلت على الأرض حقاﹰ. لذا، ظلت في معركتها مع الاستعمار وتجلياته في حقبة ما يسمى ما بعد الاستعمار.
أشار إعجاز أحمد (1996) إلى الغموض في المراجع التاريخية لخطاب ما بعد الاستعمار.
مثلا، التنقل من ﹼنص إلى آخر مما ﹼيعوم الأمور الهامة، وأشار إلى البلاغة اللغوية، وعدم التماثل الموضوعي في السلطة والموارد بين الكتل المهيمنة والجماعات الخاضعة(الأقليات التي تمارس ضدها العنصرية في المتروبولات “والعالم الثالث”، كل هذه يخفيها خطاب ما بعد الاستعمار كما يخفي أيضا الصراعات التي تنجم عنها وتصاحبها. ربما في حالة إدوارد سعيد، حتى الترجمات العربية لكتبه أﹸخذت بنفس التوجه فزادت الأمر غموضاﹰ.
ويواصل إعجاز أحمد، من الواضح أن التركيز على تمظهرات “اللاتكافؤ” قد أخضع لحالة فيتيشية، حيث فصل تماما عن محدداته الاجتماعية المحددة. أن نظرية ما بعد الاستعمار التي (يمارسها هومي بابا هي إعادة لأعمال جياتري شاكرافورتي ، سبيفاك، و ترينه مين-ها وآخرين).
التي تهتم وتنسب المقاومة إلى حالات فردانية والى تأثيرات عارضة وفورية بسبب الاستعمارمتخذة أشكالا متعددة من “الاستشراقات” واستراتيجيات ﹼالتكيف والانحباس- دون ارتباط بالمؤسسات والأدوات التي تقابلها.
لا يقف هذا النقد المابعد استعماري عند حدود خلع أسس الهوية هذه من أرضيتها ومناخها،من سياقاتها التاريخية، بل إنه يعاملها كذلك كظاهرات منفصلة ﹼمنفكة عن بنيات الإنتاج الثقافي والمشروعية السياسية في المجتمعات ذات التطور المتأخر. وبالتالي لم تتمكن هذه من التحول إلى قوة دفع فكري لنقد حاد للاستعمار الذي بقي في بلدانها إما بشكله الكلاسيكي “القواعد”، أو علاقات التبادل اللامتكافىء، والاستعمار غير المباشر ممثلاﹰ في أنظمة الكمبرادور.
يقول إعجاز أحمد، “فإنني أود أن أعلق بشكل موجز على كتاب ادوارد سعيد الثقافة والامبريالية (1994)، وبشكل خاص رفضه للمادية التاريخية كإطار عام وسقوطه اللاحق في ” اليوتوبيا الأخلاقية“ . وأعتقد هنا أن أحمد وقع في المجاملة الفكرية، فسياق إدوارد سعيد هو سياق مثالي، وهو سياق يسهل أن ينتهي إلى الوعظ الأخلاقي، وبالتالي كان هذا مآله الطبيعي، وليس سقوطا مفاجئاﹰ له. ومن جانب آخر، فإن الأرضية المثالية لإدوارد سعيد هي التي أبقته ما بعد استعماري وما بعد حداثي ضمن دائرة الأنظمة الحاكمة ﹸوالسلطات، أية سلطات. وإلا ما معنى مغازلته للسعودية والكويت، وعدم انتحابه على تبعية العرب للولايات المتحدة، وقبوله عضوية المجلس الوطني الفلسطيني كمنحة من ياسر عرفات، ورفضه قيام الفقراء بالكفاح المسلح وانتهائه ضد حق العودة كمشروع نضالي من الألف إلى الياء (أنظر لاحقاﹰ). ما قصدته إن كنت قد نجحت هنا، هو وجوب عدم الفصل بين اليوتوبيا الأخلاقية اللغوية الأدبية التي يُغرقنا فيها إدوارد سعيد، وبين تمظهراته السياسية. بغير هذا نقع في يوتوبيا اللغة والثقافة والإنسانوية التي يقرأها الإمبرياليون والجلاوزة بابتسامة هزء وازدراء.
ربما يمكننا الاستدلال على المآل اللاماركسي لنظرية ما بعد الاستعمار، ولو جزئيا، من انتقائية سعيد. ولكنه، أي سعيد، لم ينته في بحر اليوتوبيا الذي لا حواف له، بل، كما يذكرنا أيضا عالم الاجتماع بريان ﹼبتبني سعيد لإستراتيجية ذات توجه تدميري مشتقة من كل من ميشيل فوكو و مارتن هايديجر (وهايدجر بالطبع مؤدلج نازي)، اللذين لا تحتاج مواقفهما المضادة للماركسية لأي شرح .فهي ليست مجرد فوضى رومانسية ولكنها أيضاﹰ تأويل ذاتي تقود ﹼنصيته إلى إرباك وخلط “مادية العلاقات الاجتماعية مع مادية زائفة في هذا السياق” وهي التي ولدت البدايات الأولى لأعمال سعيد المبكرة التي تقوم على “النظرية المفرغة القائلة بأن لا وجود لشيء غير الأنا” ( تيرما 1994 ص 7).
لكن سعيد في احترافه للانتقائية،لم يتورع عن تجليس بعضاﹰ من غرامشي في بعض من
أعماله لكي يعطي مسحة يسارية نضالية للنص الذي كتبه، ولكن ليحاول الجمع بين
النزعات الفردية التدميرية ل فوكو والنضال الطبقي الحزبي ل غرامشي. أمور لا تتأتى ناجحة إلا للسحرة.
لا شك أن الانتقائية النظرية َّ سهلت على سعيد التماهي والتكيف سياسياﹰ. وتكيف سعيد له مظهر إنساني وجوهر معولم. فاليوتوبيا الإنسانية لا تكتنف مرحلة بل التاريخ الإنساني بأكمله، لكن موقف سعيد من الإمبريالية الأميركية التي أتت لماماﹰ في كتابه الثقافة والإمبريالية يبين أنه أحد المتغاضين عن الاستعمار الجديد لأن الإقرار بالاستعمار الجديد يتضمن إحراجاﹰ ما لما بعد الاستعمار. لذا، انحصر نقده للولايات المتحدة في عتاب “ذوي القربى” معاتباﹰ إياها على عدم احترامها لعملائها العرب، للمتكيفين تماماﹰ. وربما كانت مساهمته في “تفهيم” قيادة م.ت.ف كيف تتكيف مع التبعية للولايات المتحدة، وهو الأمر الذي قاد إلى التسوية. وهي التسوية التي تلاعب أيضا سعيد في التعاطي معها لدرجة ﹼهيأت أن نقده لياسر عرفات هو الموقف الفلسطيني الثوري، في حين أن إدوارد سعيد هو الذي أغوى قيادة م.ت.ت، ف إلى مطهر البيت الأبيض، وكان من جوقة إعلان الاستقلال الفلسطيني 1988 الذي هو جوهرياﹰ “الاعتراف بالكيان الصهيوني”. والمهم أن سعيداﹰ نقد قيادة عرفات ربما لأنها لم “تفهم كيف تتكيف!”
سعيد جزء 3
-5 مثقف المثقف هو المفكر نفسه مثقف إدوارد سعيد هو إدوارد سعيد
كما أشرنا سابقاﹰ، فإدوارد سعيد استعاري /انتقائي بامتياز. لذا، فإن مثقف إدوارد سعيد خليط من مثقفي فانون وغرامشي وهومي بابا…الخ. والثلاثة ليسوا مدرسة واحدة.
المثقف عند سعيد هو: “هناك طبقة من الأشخاص لهم وظيفة اجتماعية ضرورية هم المثقفون”. وهو يرى بشكل خاص أنهم مؤهلين أكاديميا، رغم أنه في الإمكان وجود كتاب لم يلعبوا دوراﹰ أكاديميا. أما فرانز فانون نفسه فلم يكن أكاديميا. حتى في عهد الاستعمار، يرى سعيد أساسا المثقف كأكاديمي، بينما يراه فانون في عهد الاستعمار مناضلا لاقتلاعه.
مثقف سعيد هو المثقف العام أو التقليدي الذي غالباﹰ ما يباعد ما بين نفسه والسياسة، أي ليس مثقفاﹰ طبقياﹰ. أما مثقف فانون بل فانون فكان ناشطا هجوميا ودعاويا.
كان فانون فرعاﹰ من الماركسية، نفسياﹰ ثقافياﹰ فلاحياﹰ قومياﹰ وفي النهاية ماركسياﹰ. وهو يختلف ويتميز عن الآخرين من المابعديين بأنه مع العنف والانخراط التام في النضال. فانون مثقف مشتبك بلا تردد ولا مواربة. ومن هنا فهو مختلف عن مراوغة سعيد وأدورنو.
»وصف ادورنو المثقف على انه حالة منفى دائم، يراوغ القديم والجديد ببراعة…لا يستريح في أي مكان، …يَحول، كما يميل أدورنو للقول، بوعي دون أن يفهم بسهولة ومباشرة”
في محاولته لتبرير سلبية، أو عدم عنفية المثقف، يتساءل سعيد، إن كان يمكن وجود مثقف مستقل، أي لا يرتبط ﹼبمرتب الجامعة ولا بما يوحى إليه في Think Tankأو مرتبط بحزب (ص 67-68 من تمثيل المثقف). وأبعد من هذا، فإن مثقف سعيد علماني يحمل قيما عالمية. ص89) وبهذا ﹶموضع سعيد نفسه ضد حركات ما بعد الاستعمار ، أو ليس شريكا فاعلا فيها، و مثقفه العلماني ليس بالمعنى الديني بل القومي، فلسعيد موقف حاد من القومية، يلتقي فيه كثيراﹰ مع مثقف هومي بابا(أنظر لاحقا). ولأنه ٌّ علماني تجاه القومية، لم يتورع سعيد عن القيام بدور وسيط شبه رسمي مع عرفات أيام كارتر 1978-79 لإقامة قناة خلفية للمفاوضات ”رسول الغرام“. ولكن بين ﹾمن ﹾومن. بين مركز المراكز الإمبريالية ومقاول ضمان تفوق الكيان الصهيوني على العرب والمنطقة، وبين م.ت.ف التي يفترض أنها منظمة حرب غوار ضد هذا الكيان! فهل يمكن حتى لمثقف إنساني أن يلعب دور الوسيط في تناقض تناحري؟ أليس هذا ُّ تكيفاﹰ مع الهيمنة الأميركية!
ورغم أن سعيد كثيراﹰ ما حاول عقد ﹴتلاق مع غرامشي، إلا أن أهم الاختلافات بينهما في مثقف كل منهما. يقول أنه يختلف مع غرامشي في أن كل الناس مثقفين، فسعيد يرى أن ليس لكل الناس في المجتمع دور مثقفين .(Representations of the Intellectual 5 ).وهذا يرتبط بالطبع بفهم وتعريف كل منهما للمثقف. فليس كل مثقف أكاديمي، وهو الأمر الذي يحصر سعيداﹰ المثقف فيه ”تقريباﹰ“.
حسب غرامشي ”إن كل جماعة موجودة في الميدان الأساسي لأداء أساسي في عالم الإنتاج الاقتصادي، تخلق إضافة لنفسها ، وبشكل عضوي ، شرائح أو أكثر من المثقفين تعطيها انسجاما ما(غرامشي 1924-1930، 1971، ص 5)
فلا الفرد ولا الثقافة هما نقطة البدء وليسا مستقلين عن المحيط الاجتماعي الاقتصادي لا في نطاق التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية للدولة القومية ولا للعالم، لا سيما في عصر راس المال الممتد منذ تبلور السوق العالمي الرأسمالي وحتى لحظة العولمة الداكنة.
المثقف الإنساني لدى إدوارد سعيد ﹸمثقل بعبء التطابق الثقافي مع الكلية الثقافية الواحدية وصولا إلى عالم ذي بصيرة تعاني العشى، عالم بثقافة واحدة، تسبح في وهم الثقافة هاربة متهربة أو متعففة أو لا ترى التناقضات الاقتصادية/الطبقية الاجتماعية السياسية التي تغرق فيها، لأن هناك من فوقها إلهاﹰ يحقنها ب “وعي” الهيمنة الذي لا يرى الواقع. نعم مهم أن لا يرى المثقف هذا بما فيه من مصالح لا تتطابق.
ما يحكم المثقف الإنساني، ودعاة الثقافة الإنسانية هو الماقبل والمابعد وصولا إلى عالم ما ورائي. عالم ما قبل التحليل المادي التاريخي، ما قبل الماركسية، وعالم ما بعد الماركسية.
يحكمها وجوب أن يعشعش في الأذهان أن الثقافة هي التي يرتكز عليها التطور، وكأن العالم هو مجرد مقارعة النص بالنص وتطور النص عبر علاقته بالنصوص الأخرى، أي الخطاب الثقافوي هو محرك التطور. أما نتيجة هذا كله فهي قبول الأمم بأن هناك أمة واحدة تستحق أن توجد
There is one necessary nation, the United States of America هي أميركا
((Bill Clinton ومن أراد أن يحيا في هذا العصر عليه التطابق مع هذه الرؤية المسلحة بالدبابة والنووي. لكن هذا في جوهره إغلاق باب حلم التشابه أمام الأغيار مع شعب اﷲ المختار. فكيف يحل لنا مثقف سعيد هذه المعضلة. عن هذا التزاوج كانت اليهو-سيحية والإيفانجيليتين الجديدتين من جورج دبليو بوش حتى نتنياهو.
الطبقة هي حاضنة توليد مثقف غرامشي الذي حوله سعيد إلى أيقونة ميتة يرفعها كصورة عند نقاط الحدود بين عقيدة وأخرى، ففي كل نقطة تفتيش يحتاج المثقف الإنساني إلى جواز سفر مختلف. هكذا كانت انتقائية سعيد الذي كان من البراعة بحيث استخدم/ َّ وظف مثقف غرامشي الطبقي والمناضل الذي قضى في السجن لدعم مرشح لانتخابات الكنيست الصهيوني.
ليست الحياة مقعداﹰ جامعياﹰ، يكون فيه ﹺالمحاضر الموقف ونقيضه ويعلِّم الطلبة إتقان ذلك، والأخطر التحول إلى ذلك الدور واعتناقه. من هنا ربما كان لا بد ل باولو فريري أن يكتب ما كتب عن تعليم ﹼالمضطهدين .The Pedagogy of the Oppressedولا شك أن فريري ربما فعل هذا لأنه أدرك أن الحزب لم يهزم الجامعة أو لم يطوع الأكاديميا.
التقط سعيد من غرامشي تركيزه على دور الوعي في صياغة الهيمنة وتوقف دون أن يتطرق إلى أن غرامشي التقط كيف ينبت الواقع ﹶالوعي وتكون الثورة كقوة اجتماعية تضبط التطور لتؤثر في التاريخ. بهذا التلاعب الأكاديمي المحفوز بالأدب المقارﹶن الذي علَّمه إدوارد سعيد عقوداﹰ، وكان هو ضحيته، حاول المطابقة بين الوعي الطبقي عبر الحزب الثوري لدى مثقف غرامشي/ وبين الثقافة، مجرد الثقافة لدى مثقفه هو. لكن سعيدا لا يتردد في إعلان أنه ينتقي دوماﹰ، إلا أن هذا لا يعفي من الاستنتاج أنه لم يكن بمنهج. لذا لم يكن سعيداﹰ حزبياﹰ، لم يستطع أن يكون. وعليه، ظل جميلا وناعما ومحبوباﹰ طالما لا يهدد أحداﹰ ممَّن في الأعالي الأكاديمي الأميركي-الصهيوني. (في حياته ما ذبح بقرة ولا قطع شجرة- عبد اللطيف عقل في قصيدة عبد الهادي يصارع دولة عظمى.
قد يتقاطع هنا، بدرجة ما فقط مع لا حزبية الكثيرين في مدرسة التبعية في الاقتصاد والتنمية Dependency School، الذين رأوا في الدولة أداة التنمية، فخانت الدولة على يدالكمبرادور مجتمعها وسيطرت بالقوة فتجذر التخلف.
كان مثقف غرامشي مأخوذاﹰ على الدوام بمنهج وموقف ومنخرط في الصراع الطبقي، ولذا كان مآله الاستشهاد في المعتقل. كان نقدياﹰ في التاريخ واللحظة. لقد نقد غرامشي سياسة كافوربتصنيع الصناعيين وقيام البرجوازية بالتحالف مع كبار الملاك ورآها ثورة سلبية. الطبيعة المحافظة للبرجوازية الإيطالية حالت دون قيامها بإصلاح زراعي ودون استقطابها للطبقات الوسيطة مما استثنى القطاع الشبابي من البرجوازية الصغيرة، من تحقيق طموحاته، وبالتالي عدم رضاه مما َّ حوله إلى قوة بشرية استثمرتها الفاشية، التي اشتبك معها غرامشي في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين.
أما السعودية التي رأى فيها سعيد دورا وإيجابيات، فقد ردفت مصر الساداتية بأثرياء من النفط، ليتحالف معها السادات مهملاﹰ ملايين المتعلمين من أبناء الطبقة الوسطى العريضة التي اشتغل عليها عبد الناصر، فوجدت نفسها أمام الرأسمالية الكمبرادورية التي استبدلت الإنتاج بالإيمان، بلا عمل، فكان ارتدادها إلى التكفير والهجرة. ولكي نفهم هذه الظاهرة علينا الإجابة عنها لو ﹸسئلت: لماذا اختارت الإسلام السياسي عامة: أليس لأن نظام الكمبرادور قوض إطعام مصر لنفسها، ﹼوسلمها للنهب الأجنبي، وأخرجها من حلبة الصراع مع الإمبريالية والصهيونية، الإسلام السياسي هو الذي يشبعها بالإيمان ويعارض الهيمنة الأميركية؟ هل من قبيل التجني هنا أن نصف سعيداﹰ بمثقف كمبرادوري؟ ولصالح من؟ لصالح الكمبرادور العربي؟
كان هم غرامشي الكتلة التاريخية والتحالف الطبقي من اجل تفكيك هيمنة رأس المال (التناقض) أما سعيد فأنتج مثقفاﹰ أسماه إنسانياﹰ ، أي بلا منهج انتهى بلا موقف. لذا، فإن مثقف غرامشي يهدف وصول قلعة السلطة في النهاية، أي يمارس الصراع الطبقي، أما مثقف سعيد فانتهى إلى مطلب التصالح والتسامح على صعيد إنساني أي مع قلعة الإمبريالية في أعلى لحظات ولوغها في الدم، مع قلعة الكيان الصهيوني الإشكنازي فهو يرفض عودة أي لاجئ بالعنف، بالكفاح المسلَّح. وكل ما يطلبه هو التصالح ومقعداﹰ في الأكاديميا. وهل من قبيل التجني كذلك التوضيح بأن إطراء سعيد للسعودية والكويت ورفضه التام للكفاح المسلَّح هومشاركة في حرب الموقع لصالح الإمبريالية والصهيونية في حربهما لتحطيم أكثر مواقع مقاومة عربية ممكن تحطيمها؟ فكما هي الهيمنة هي حرب الموقع او حرب الحركة متبادلة بين الخصمين الطبقيين.
فماذا كان مطلب سعيد حين أعلن “غرامشيته- طبعا لموقف” في جامعة بيرزيت وفي مدينة الناصرة: كان مطلبه دعم ترشيح عزمي بشارة لبرلمان دولة اليهود. فهل هذا ما قصده بأنه الفلسطيني/اليهودي الأخير؟. هذه خطورة اللامنهج حين يحاول أن يحط على الأرض. كان لمثقف غرامشي منهجاﹰ ومشروعاﹰ، منهجا مادياﹰ مشروعه طبقي ليصل في النهاية إلى تطويق قلعة الدولة، وهذا لا يتم بالوعي فقط، وليس بالوعي أولا. أما دولة الكيان الصهيوني فأراد مثقف سعيد أن يوسعها لتشمل الفلسطينيين في “دولة ديمقراطية علمانية”، ومن بين دزينتين من الدول العربية كان يشحن الإمبريالية ضد العراق الخارج بدرجة عن عباءة الإمبريالية.
رأى غرامشي أن تحالف رأس المال الكبير وملاك الأرض خلق الفاشية. لذا دعا لكتلة تاريخية جوهرها طبقي ديمقراطي. هي تحالف طبقي أو جبهة شعبية متحالفة مضادة للفاشية ولمواجهة البرجوازية. أما سعيد فدعم منظمة التحرير الفلسطينية التي لم ترتق أبدا إلى جبهة وطنية، وانحصرت في بعد واحد “غابة البنادق” إلى أن “غابت/ غُيِّبت” البنادق، وحينها لم يبق مكانها سوى الفراغ الكفاحي الذي ملأه الإسلام السياسي. أما تغييب البنادق فتواكب مع نجاح سعيد وأمثاله في تقريب منظمة التحرير الفلسطينية من البيت الأبيض، فكانت الراية البيضاء بإعلان استقلال 1988، وهو جوهرياﹰ الاعتراف بالكيان الصهيوني ومن ثم اتفاق أوسلو.
ليس لنا تحميل سعيد ما لا يحتمل، فما أكثر من عجزوا عن رؤية أو حتى استشفاف الكمون الفاشي في بنية م.ت.ف، التي انتهت مع أوسلو إلى شبكة من الأجهزة الأمنية التي قامت بعملية تلغيم كامل بنية المجتمع بالمخبرين، ناهيك عن جيش دايتون.
رأى غرامشي المثقف أن السياسة ميدان النضال من اجل السلطة والوعي من اجل الهيمنة على المجتمع المدني وأن العامل الحاسم على أية حال هو المجتمع المدني أو ما يمكن أن يتم كسبه خلال حرب الموقع. أما سعيد فرأى الصراع في الثقافة واعتبر السياسة بعيدة عن الحقيقة. وربما هذا المخرج الأفضل للمثقف الإنساني، الذي بعدم انتمائه ينتهي في خدمة النظام الرأسمالي المهيمن، تكنوقراط ثقافي.
لافتراق مثقف فانون عن مثقف غرامشي معنى لكشف ضآلة مثقف سعيد. ركز غرامشي على حرب الموقع التي رآها فانون إصلاحية، لذا نادى بحرب الحركة العنيفة، الحرب الجبهية. ربما يكمن الفارق أن غرامشي يتحدث عن مثقف المركز في بلد إمبريالي، أما فانون فيتحدث عن مثقف في المستعمرات، في المحيط، ﹸخلق منتمياﹰ، ﹸخلق مسلحًّاﹰ ﹸخلق مشتبكاﹰ.
يرى فانون أنه يمكن فقط لحركة فلاحية عريضة خلع الاستعمار بكل أشكاله ومن ثم تثوير العالم ما بعد الرأسمالي، وهنا يتحدث عن واقع ثورات المحيط، الجزائر، الصين، كوبا، فيتنام. وهذا يفتح على حاضر اليوم، ما الذي ينتظر مئات ملايين الفلاحين في الصين والهند اليوم وأزمة الممولنة تمتص قوتهم، والشركات الكبرى تلتهم منهم الأرض والعمل؟ هل نحن أمام احتمال تجدد ثورات الفلاحين التي يدعو لها سمير أمين؟ لِمَ لا؟ أكد فانون أن تثقيف الجماهير اليوم هوضرورة تاريخية (ص 831).واليوم الحالي كذلك لا سيما على ضوء ثقافة السوق التي تغرق فيها الطبقات الشعبية عبر شاشات الفضائيات، لا بد من مثقف فانون، ومن تعليم باولوفريري، وإنسان تشي. لا بد من استدعاء هؤلاء جميعاﹰ في الوطن العربي لتفكيك مفاصل الدولة القطرية. في عالم تأخذه الرأسمالية باتجاه العنف المفتوح، لا مكان لمثقف هومي بابا الذي يرفض العنف.
أقام مثقف غرامشي موقفه على اعتماد منهج والانتماء إلى فلسفة، الفلسفة هي عمل بمقدار ما هي تصور…هي السياسة أي التاريخ الحي. وأقام سعيد مبناه ذا الهندسات المتعددة، على الثقافة مبتعدة عن السياسة والتاريخ الحي، لقد كان متلاعباﹰ فقد تحول مثقفه إلى رسول تطبيعي، مثقف كمبرادور، بين المقاومة وعدوها الأكبر!
في حالة مثقف غرامشي الفلسفة وعي الإنسان لذاته ووعي الذات لا ينفصل عن إنتاج الإنسان لذاته وهذا هو التاريخ. أما مثقف سعيد فليس تاريخياﹰ ، عند سعيد المثقف تخلقه الثقافة ويخلق هو ثقافة ويبقى متثاقفا بين النصوص. والفلسفة عند غرامشي وماركس ليست تأويل العالم بل تغييره، فهي تتحد هنا بالأخلاق والسياسة أنها عمل الناس في التاريخ. الفلسفة عنده مشروع لتغيير العالم. الماركسية فلسفة العمل أو البراكسيس. ليست مجرد تأويل.
وللمثقف في كل هذا دور، وكل إنسان مثقف، وله دور، لذا، فالمثقف لدى غرامشي خلقته الطبقة، هو مثقفها العضوي. ما من مثقف بلا دور.
كتب سعيد: “انني قلق أيضا على المثقفين الفلسطينيين والعرب الذين تعقد لهم لقاءات من طراز لقاء غرناطة في أوائل كانون ثان 1991 من قبل اليونسكو، الذي حضره لوقت قصير شمعون بيرس وياسر عرفات. ولكن سعيداﹰ كعادته، يرمي جملاﹰ مخلَّعة الأبواب. فما مصدر قلقه على هؤلاء المثقفين، وهو منذ عام 1969 يدعو ويمارس اللقاءات مع المثقفين اليهود؟ فهؤلاء على دربه! ولست أدري إن كان قلقاﹰ على صديقه عزمي بشارة الذي حضر تلك اللقاءات. (أنظر دعوته لهذه اللقاءات لاحقاﹰ).
ورقتي عن سعيد جزء 4
-6 الوطنية القومية
استفاق إدوارد سعيد على أصوله الفلسطينية بعد هزيمة 1967، واستفزته الصورة التي رﹸسمت للعرب آنذاك في الإعلام الأميركي. ولا شك أن صورة العرب قبيل هزيمة 1967، وتألق الناصرية كانت مختلفة. وكتب في أعقاب ذلك . The Arab Portrayedولكن، إذا افترضنا
هزيمة 7691 وصورة العربي كصدمة وعي قومي، فإن ما كتبه في الاستشراق8791 عنعدم انتحابه على التبعية العربية الرسمية للولايات المتحدة، يشكل امتصاصاﹰ للصدمة،وإعادته لتوازنه المتخارج. وهو التوجه الذي ينسجم مع تنظيرات ما بعد الاستعمار التي لهاجذورها في كونها ليست ضد الاستعمار بطبيعتها بقدر ما هي التفافة للتطابق معه عبرالأكاديميا. فهذه التنظيرات ربما باستثناء فانون وكابرال وحدهما تتعامل مع القومية على أساس أخلاقي.
في عودته لما قبل 1967، عاد سعيد ليقف في مواجهة القومية عامة، وليزعم أن الاستعمار وأنظمة القومية ما بعده هما وجهان لنفس العملة الاستبدادية اللذين يغذيان كل سلبية الآخر. يرى أن الإمبريالية الغربية وقومية العالم الثالث يغذيان بعضهما في فرض تقييدات وحواجز أمام التواصل عبر الثقافات.
في الثقافة والإمبريالية 1993، نقد القومية كمعقية أمام القيم العالمية في التحرر والتسامح وزاوج بين كل من المجتمعات وبين داخلها«. فهو في مجتمعات ما بعد الاستعمار يرى أنها تصبح قمعية، لذا بدل أن يختار المدخل الطبقي للقومية يذهب باتجاه الفضفاضية الإنسانية. يلجأ للحديث عن التحرر وعن التسامح الجماعي. (ص 59 من ابش). لكنه في مواضع أخرى من نتاجه، يقف مع ما يسميه القومية الدفاعية (ص ص 40من .(Representationsوهذا يقرب سعيداﹰ من المقاومة، لكنه يرفض العنف مع ذلك. وهذا يثير التساؤل، ما طبيعة هذه القومية الدفاعية؟ ربما أجاب عليه في قبوله المبدئي بالحل التسووي (مدريد- أوسلو) ونقده لمستوى مهنية المفاوض الفلسطيني.(انظر لاحقاﹰ). وعليه، فالقومية التفاوضية ليست دفاعية إلا إذا كانت قد أنجزت بالعنف على الأرض ما يرغم ﹺالمستعمر على التسليم بحقها. لقد بقي سعيد على موقفه هذا رغم أن الفلسطينيين لم يدخلوا المرحلة المسماة ما بعد الاستعمار. وربما كانوا النموذج الوحيد الذي دخلها افتراضاﹰ فدفعوا في ذلك كل شيء.
وهنا يختلف مرة أخرى مع فانون، أي في المسالة القومية، الذي كتب: “في قلب الوعي القومي يعيش وينمو الوعي الأممي، وهذا التجلي ذو الشقين هو في النهاية وحده مصدر كل ثقافة” (247-48) ويكمل فانون: “… ولكن إذا لم تكن القومية واضحة، إذا لم تغنى وتُثرى بتحول سريع إلى وعي بالحاجات الاجتماعية والسياسية، بكلمة أخرى إلى إنسانية، فإنها تقود إلى حليف أعمى (ص204). أما سعيد فالتقط المستوى الإنساني السلبي هنا!!! لكن فانون، بمنهجه التاريخي والجدلي لم يكن قومياﹰ ولا أممياﹰ ساذجاﹰ. كان ماركسيا وتوقع أن تقوم البرجوازية بالقوادة للاستعمار بعد الاستعمارـ لذا دعا لحرب التحرير بعد النضال ضد الاستعمار،وماهي هذه الحرب إن لم تكن حرباﹰ طبقية ضد البرجوازية المحيطية بطبعتها الكمبرادورية.
وفي حين يزعم سعيد أن القومية والوعي القومي غير مفيدين في عملية ما بعد الاستعمار،ويجب أن تتنحى مع بدء لحظة الاستقلال لنوع من الأممية أو عبر قومية…ألخ. لكن فانون لم يدعُ إلى نظرية ثقافية ما بعد قومية بشكل كلي، كما زعم سعيد، بل دعا لثقافة قومية بناءة ودائمة للأمة المستقلة حديثاﹰ. بل رأى فانون أن الأممية يمكن فقط أن تتقدم من قاعدة قومية صلبة. ربما كان فانون على إطلاع ما بمجريات الثورة والانتصار في الصين الشعبية.
كان لا بد لسعيد أن يتمعن أكثر في الشروط التي حالت دون قدرة الأمم المستقلة حديثاﹰ، أمم المحيط على الاستقلال الحقيقي وخاصة الاقتصادي، وهي شروط طبقية، لا قومية. هي شروط المصالح الطبقية للبرجوازية المحيطية وتلك التي في المركز. الطبقة البرجوازية العالمية التي تحتم تبلور الأممية التي تحدث عنها فانون. أو لنقل ظاهرة باندونج التي شكلت منعطفاﹰ واضحاﹰ في النضال القومي، الذي اغتيل طبقياﹰ. هذه القضايا التي اشتغل عليها سمير أمين ُّ بتمسك وتماسك.
بدل قراءة القومية بمنهج طبقي، قرأها سعيد بمنهج أخلاقي ثقافوي، وهذا ما حال دون قدرته على قراءة نقدية للمسالة القومية، للنضال القومي. وبالطبع لم يقرأ سعيد المسألة القومية في المركز، ولا عبئ بذلك. لكنه، وإن بشكل غير مباشر، تأثر بموقف المركزانيين الأوروبيين تجاه قوميات المحيط. وفي موقف تعميمي آخر رأى أن الطموح الأقص لمختلف أشكال القومية أن تكون ناقلة ل علم تشريح السلطة .pathology of power
كما تأثر سعيد بدراسات التابعين Subalternالتي نقدت القومية بما أن الدولة القومية تمثل وعي النخبة، حيث فشلت هذه القومية في أو النخبة في الربط ما بين ما تدعيه وما تقوم به.
“ص 21Ibish “هذه خاصة في الهند. ما السبب هنا غير الجوهر الطبقي؟
وبالنسبة ل شاتارجي فقومية ما بعد الاستعمار تحاول تحصيل استقلال قومي عبر استخدام مقولات تفكير (استقلال قومي حقوق إنسان تقدم) التي هي مؤسسة على خطاب غريب.
وهنا ينم التماثل مع سعيد.
وهنا، كان من المفترض أن يصل إدوارد سعيد إلى قراءة َّ معمقة للوضع العربي، أقصد رؤية أن القومية مسألة طبقية في التحليل الأخير. فمن حيث هي مبدئياﹰ وعي الأمة لوجودها، فإن وعي أية طبقة ليس ثقافوياﹰ بل مادياﹰ في الأفق العام ومصلحياﹰ على الأرض. وعليه، فالقومية العربية منقسمة كما نرى إلى:
· القومية الحاكمة: قومية الطبقة/ات الحاكمة المالكة القطرية والكمبرادورية، أي التي تعمل ضد الوحدة العربية، والتي ترتبط بحبل ﹰسرِّي مصيرياﹰ مع المركز وبقاء الكيان الصهيوني، فهن جميعاﹰ وليد سايكس-بيكو.
· والقومية الكامنة: قومية الطبقات الشعبية صاحبة المصلحة في الوحدة والإشتركية وهزيمة الكيان الصهيوني.
لكن سعيد راوح دوماﹰ على السطح الزلق للقومية العربية الحاكمة، فانتهى سوداوياﹰ تجاهها لأنها هكذا. كتب مقالة اليمين العربي وهاجم الأنظمة القمعية The Politics of .Dispossession , P. 225ولكن بدل أن يحصر نقده ضدها، عممه على القومية كمرحلة وموقف.
هناك أكثر من مصدر أثر على موقف سعيد من القومية عامة والقومية العربية خاصة. تقف على رأس هذه المدرسة الستالينية التي اعترفت بالكيان الصهيوني، واعتبرت الأمة العربية “أمة في طور التكوين ” طالما لا سوقا قومية واحدة لها، ولم تدرك أنها أمة جرى ويجري احتجاز تطورها بالقوة.
وحتى أولئك من الشيوعيين الذين اعترفوا بالكيان الصهيوني، بدءاﹰ من ستالين وصولاﹰ إلى أي شيوعي فلسطيني أو عربي، من الواعظين بالاعتراف بالكيان الصهيوني، هل يمكن الإقرار بوجود أمة بناء على وجود السوق أمر ممكن بلا وطن؟ هل مقولة السوق معزولة عن مقولة المكان؟ السوق مكان، السوق تتطلب مكاناﹰ ضمن الوطن. وهل لأن الاحتلال خلق سوقاﹰ صار”أمة” بينما الفلسطينيون لأن وطنهم ﹲمستلب لم ينشئوا سوقاﹰ فلم يعودوا شعباﹰ وليس لهم حق العودة؟ ومن جهة أخرى، هل وجود السوق العالمية والشركات متعدية الجنسية تلغي وجود الأمم، أم وجود أممﹴ ضئيلة ما؟ وهل حصل هذا بعد حتى في حقبة العولمة، وتحرير التجارةالدولية، ووجود المؤسسات المالية الدولية…الخ
وماذا عن المدرسة الأخرى التي استقى منها سعيد لا عقلانيته التاريخية؟ أقصد المدرسةالتروتسكية، التي تناصب القومية ﹰعداء مفتوحاﹰ ونزقاﹰ؟ لدى هذه المدرسة، كل ما يتعلق بالقومية مرفوض وخاصة القومية العربية. وباعتقادي أن هذا قائم على أساس صهيوني/توراتي بإقامة دولة اليهود في فلسطين، وهذا ما يجعل القومية العربية خطراﹰ بنظر هؤلاء لأنها تعني الوحدة، والوحدة تعني تحرير فلسطين. ومع ذلك تعتبر التروتسكية نفسها مدرسة ماركسية منطلقة من التحليل المادي التاريخي!.
وبهذه المصادرة ﹸتجلِّس نفسها مدرسة أصيلة متأصلة في المركزانية الأوروبية. فالموقف المضاد بالإطلاق للقومية هو تأثر وامتداد للاعتقاد بأن القومية بالمطلق سلاح في يد البرجوازية ولا فارق في الوضع التاريخي بين المستعمر والمستعمر. هل هذه لاعقلانية المركزانية الأوروبية التي تختصر تاريخ العالم في تاريخها، تاريخ السيطرة، ؟
لعل هذا التشدد ضد النضالات القومية هو في النهاية أحد روافد بقاء الاستعمار. فالأمم المستعمرة، إن لم تناضل قوميا ضد الاستعمار، كيف لها أن تتحرر، هذا إذا لم نقل أين البروليتاريا فيها لتقفز عن اللحظة القومية إلى الاشتراكية؟ كما أن مستوطنة فيها بروليتاريا جلبتها مع قطع المصنع الرأسمالي، تصبح أمة ولها حق الحياة في أرض غيرها. هذا أساس ذلك الاعتراف المنافق بالكيان الصهيوني في فلسطين.
إحدى مفارقات التاريخ، أن هذا الكيان قد تمكن من تحصيل اعتراف الكتلة الاشتراكية والكتلة الرأسمالية به حتى وهما في حالة الصراع الساخن، والمفارقة الأطرف أنه حظي باعتراف الستالينية والتروتسكية معاﹰ. هل هكذا يمشي التاريخ؟ نعم، لأن التاريخ صنعة البشر وحين تكون البشرية في عصر داكن، يكون سلوكها متخبطاﹰ بقدر الضوء المتوفر في الظلام.
تظل القومية مرحلة في التاريخ، وهذا القول غير ﹴكاف. بل يجب أن تعيش الأمم هذه المرحلة طالما هي ضرورية ومؤثرة في حياتها. أما حين تكون القومية سلاحاﹰ لحركات التحرر الوطني فلن تنتظر اعتراف أحد بها، ولا نعتها بالتقدمية أو الرجعية، بل يكون بيت القصيد كيف نتمكن من تطوير قومية الطبقات الشعبية في اتجاهها الطبيعي، وخاصة في الوطن العربي، إلى الوحدة والاشتراكية.
إلى أن تتجاوز البشرية الحقبة القومية في التاريخ، حقبة صراع الطبقات بغطاء أمم، ودفاع أمم في مواجهة حروب طبقات، بأغطية مصالح أمم ، ربما ليس كل طبقاتها، يظل مشروعاﹰ دفاع الأمم عن وجودها واستمرارها، حتى لو كان حصاد طبقات أكثر من غيرها بالضرروة. هذا هو المعنى الأول لعلاقة الناس بالتاريخ حيث تندغم مصالح الطبقات بمصالح الأمم ولكنها لا تذوب فيها.
وقد تكون المفارقة أن إدوارد سعيد، إذا ما حاولنا تصنيفه من حيث الوضع الطبقي، فهو باتجاه اليمين، أي أقرب إلى الفكر والانتماء القوميين بالمفهوم البرجوازي بالطبع. لكنه كموقف بعيد عن هذا. ولا أعتقد أن زعمه نسب نفسه فلسفياﹰ إلى موقف إنساني يغطيه كما يجب.
يليق الترفع الفردي عن أهمية النضال القومي، بمفكر فرد في بلد لديه ما فوق حق تقرير المصير، بلد استعماري عريق كفرنسا مثلاﹰ. هناك يمكن للمثقف أن يحلق في سماء التجريد. كما يمكن لمثقف من العالم الثالث أن يحلق في سماء التجريد أيضاﹰ، ولكن لا يمكن لمثقف في بلد مستعمر، بل في ﹴبلد جرت مصادرته كأرض، أن ينظر إلى النضال القومي كفنتازيا. قد لا يمارسه، ولكن كيف له أن يصادره؟ أليست هذه مصادرة للتاريخ؟
يمكن لمثقف في فرنسا أن يترفع عن النضال عامة، ربما لأن البرجوازية هناك ما تزال إضافة إلى الاستغلال، تتلذذ بالتعذيب العنصري ضد الجالية العربية ومختلف الأقليات بما هي مناطق عازلة “عرقياﹰ” قبل أن تعذب الطبقات الشعبية من الفرنسيين. بينما في المحيط، في فلسطين كمحيط للمحيط، لا يمكن للمفكر إلا أن يكون مشتبكاﹰ. إذن، تختلف التشكيلات، والظروف فيختلف التعاطي مع المهام.
في إمعانه في عدم الانتماء لأية قومية نجد سعيداﹰ وقد انتهى إلى “تبني” اليهودية “بالمجاز الثقافي بالطبع كما نعتقد” التي تعرض نفسها كقومية ودين معا!. هذا ما أوصله للتمسح باليهودية مباشرة بقوله “أنا آخر المثقفين اليهود…انا يهودي- فلسطيني” في محاولة للتفريق بين اليهودية والصهيونية، وهو تفريق ﹼمشوه تماما كالجمع بين اليهودية والفلسطينية، إلا إذا كان القصد جمع وحدة وصراع الأضداد وهذا ما لا يؤمن به إدوارد سعيد. فحتى الأغلبية الكاسحة من اليهود اليساريين والماركسيين انتهوا صهاينة. وقد يثبت هذا مرة أخرى أن من الصعب جداﹰ على يهودي أن لا يكون صهيونيا، ولكن ما من أحد غير يهودي يمكن أن يصبح يهوديا. لذلك فإن سعيداﹰ ينتهي ، ولكن بخجل إلى صهيوني. فالالتحام التام بين اليهودية والصهيونية هو المتجسد في إسرائيل التي لا يريد سعيد مسها بأي عنف، لأنه إنساني إلى هذه الدرجة.
في مقابلة صحفية مع صحفي صهيوني (آرييه شافيت) عن حل الصراع، ينتهي سعيد للقول أن ما يفكر به هو شيء من طراز :
” لجنة الحقيقة والتسامح كما حصل في جنوب إفريقيا. واعتقد أننا نحن الفلسطينيين الذين يجب أن نقوم به. أن نفعل ما فعل ديزموند توتو والسود في جنوب إفريقيا. بالطبع، فقد كسبوا وتخلصوا من نظام الابرتهايد“.
إن سعيد المثقف ”الإنساني“ يتبرع بشطب عذابات الفلسطينيين لستة عقود، دون أن يقدم لهم شيئاﹰ، بل هو يطالبهم بعد كافة ألوان المعاناة، بالتنازل والتسامح. هنا يتجلى تطابقه مع عقيدة الاستعمار، بأن الضحية مدانة بالفطرة والطبع. لا متسع هنا لمقارنة جنوب إفريقيا بحالة أوسلو-ستان. ويكفي الإشارة أن حالة جنوب إفريقيا لم تشهد لجوءاﹰ خارج الوطن. كمالا يتوفر بعد إن كان السود هناك قد كسبوا! بهذا التسامح يصطف سعيد إلى جانب”أهل الخطاب“ ديريدا وميشيل فوكو.
في موقفه القائم على ”الإصلاح“ يجيب سعيد على سؤال شافيت :“ هل الدولة القائمة على اللاعدالة يجب تفكيكها؟“. يقول سعيد، نعم، لنقل إصلاحها، أنا لا أفضل اللغة النبوئية أو الرؤيوية، أفضل اللغة التي تأخذ القليل من سياق المعجزات. لذلك لا أفضل القول بـ ”نزع صهيونية إسرائيل“، …بل بالتحويل التدريجي لإسرائيل. تماماﹰ مثل الانفتاح التدريجي للشرق الأوسط“.
لم يتغير سعيد إذن بين 1978-2005 فهو يكرر ما كتبه في الاستشراق أي قبوله بالتبعية العربية للولايات المتحدة، وانتحابه على عدم احترامها لهم. وهنا يتحدث عن الانفتاح التدريجي للشرق الأوسط! هذا وكأن هذا الشرق الأوسط مغلق إلا على الثورة والديمقراطية والتنمية!
فعلى الاتجاه الغربي، الشرق الأوسط مجرد مزرعة مستعمرة. لكنه لم يحدد هذا الانفتاح، كالكثير من الأبواب التي تركها مواربة وراءه قبل أن يرحل. أما باب حق العودة، فأغلقه سعيد تماماﹰ:
»…انها إذن قضية محددة جدا، إذا سألتني بشكل مجرد، أود القول أن لي حق في العودة تماماﹰ كما هو لزميلي اليهودي بموجب قانون العودة الإسرائيلي“. يعني هذا بوضوح أن سعيدا يعتبر موجبات مجيء الغزاة المستوطنين أمر لا نقاش فيه. وعليه يكون سؤالنا: ما هي موجبات استجلاب المستوطنين غير الرواية التوراتية، وكيف يكون لمفكر مثل إدوارد سعيد أن ينحاز للرواية التوراتية بكل ما فيها من خرافات ضد الرواية التاريخية؟. فإذا كان قد عنى الهلوكوست، فقد غزا أحفادها فلسطين على أرضية المذبحة النازية ومذبحة صمت اللبرالية الغربية، فمن أين يمكن لسعيد أن يستخرج لهؤلاء ”حقا“ في الاستيطان في فلسطين! ماذا يمكننا تسمية معادلة “قانون العودة” بحق العودة! تفريط، تسامح. ليكن لا هذا ولا ذاك، إنما كيف خول هذا المثقف لنفسه مصادرة حق عودة شعب بأكمله، وحرمانه من وطنه، من قبل شخص لا يؤمن بالوطن! من يفعل هذا غير مثقف فرد. لكن سعيداﹰ يظل موارباﹰ، فلا يقول بوضوح إنه يعتبر أن حق العودة ﹲمطلب كبير ويحتاج إلى نضالﹴ مضن وهو ليس مع النضال ولا مع مساواة الفلسطيني الشرقي باليهودي الأبيض، ولذا، فهو مع شطب حق العودة. ولا يقتصر شطب حق العودة على أهمية الحق نفسه، بل ينطوي على تجاوز معاناة الفلسطينيين ستة عقود، وعلى شعور دوني أمام الطرف الآخر، العدو. هذا ناهيك عن أن النضال ضد هذه المستوطنة يستدعي كافة الاتجاهات، فبما هي اغتصاب لأرض عربية، تستدعي النضال القومي، وبما هي قاعدة للنظام الرأسمالي العالمي تستدعي النضال الشيوعي وبما هي اغتصاب وطن مسلمين ومسيحيين لصالح ديانة أخرى معادية تستدعي نضال معتنقي هذه الديانات ضدها،وبما هي اغتصاب حق شعب، أي شعب، تستدعي النضال الإنساني. فأين يقف مثقف سعيد الإنساني من هذا!
لكن سعيداﹰ يدخل أحياناﹰ من الباب ليغامر بالتخلص من فن المراوغة الذي يُفضِّل:
» …لقد أيقنت أن العالم الذي نشأت فيه، عالم والدَي، في القاهرة وبيروت، والطالبية قبل 1948، هو عالم ملفق…..لم يكن عالما حقيقيا …لقد فهمت أن دوري هو أن أسرد وأعيد سرد قصة الفقدان. أن مفهوم إعادة التوطين، العودة إلى البيت، هي في أساسها مستحيلة“.
بجملة واحدة يعتبر مسألة العودة والوطن ملفقة ومستحيلة. فهو ممن يعتبرون الوطن، مجرد مكان، أي مكان. وهذا أمر قد يكون مقبولاﹰ إذا كان العالم مكاناﹰ مفتوحاﹰ لكل الناس. أما في عالم الانقسام القومي وحتى الإثني، يظل الوطن هو المرتكز الأساسي لفرصة الوجود والبقاء.
لذا قام الصهاينة باغتصاب فلسطين وطرد أهلها. فالطرد يعني أنهم لم يعتبروها مكاناﹰ بل وطنا لهم.
من أين استقى سعيداﹰ هذه القناعة؟ هل هي من وضعه الأكاديمي المريح حيث يستقبله كل مكان؟ وماذا عن لاجئي مخيم برج البراجنة في بيروت. أم استقى هذا من فلاسفة اليهودية اليسارية الذين يزعمون لا جدوى الوطن، بينما اليهودية الصهيونية تخلق بالقوة والاغتصاب وطناﹰ. وكما نسب سعيد في جامعة بيرزيت ومدينة الناصرة نسب نفسه ثقافياﹰ لغرامشي، فقد نسب نفسه فلسفياﹰ إلى أدورنو. من مدرسة فرانكفورت:
“رأى ادورنو أن فكرة (المنزل-الوطن) قد تلاشت في القرن العشرين، إن جزءاﹰ من نقدي على الصهيونية أنها نسبت الكثير لمسألة الموطن، بمعنى أن علينا أن نقيم وطنا، ولا يهم ما سيلحق بالآخرين حتى لو أصبحوا بدون وطن. ..تفكيري بدولة ثنائية القومية لكي يخلق نسيجا لا يسمح بأن يرسخ في وعي أحد، ولا في روعه أنه يملك. لم أفهم قط القول بفكرة، أن هذا مكاني، وأنت خارجاﹰ. لا أبارك العودة إلى الأصل، أو إلى الأصل النقي….لا أؤمن بهذه كلها، لا أريدها لنفسي حتى لو كنت يهودياﹰ… لا أحب حتى تذكيري بها“
لا باس، “لا يهم ما سيلحق بالآخرين حتى لو أصبحوا بدون وطن” ، ألا يتقاطع هذا مع اتهام سعيد لماركس بالتجاوز على عذابات الهنود؟ وإذا تعفف سعيد عن امتلاك المكان، فلماذا لم يدفع الموقف للتعفف عن الملكية الخاصة بأسرها لينتهي “في هذه الحقبة” شيوعياﹰ كوزموبوليتانياﹰ!
هذا الحديث الثقافوي والفلسفي لا قيمة له لدى الصهيونية كمشروع عنصري وفلسفةعدوانية بالمبنى، وكمستوطنين طردوا شعبا آخر. فالحديث الفلسفي والثقافي يتطلب بشراﹰ إنسانيين لا قطاع طرق وأدوات لرأس المال. هل يجهل سعيد هذا؟ ما يهم الصهيونية نظاماﹰوأفراداﹰ هو نهب وطن وتحويل فلسطين إلى وطن لها. أما الفلسطينيون، فليسوا بوطن ولاحتى منزل بل بلا خيمة. هل كان غسان كنفاني يتنبأ بخيانة فلسفية كهذه حين قال: ”خيمةعن خيمة تفرق“! هذا الذل الإنساني من سعيد في إسهاب ثقافوي، لا معنى له ولا تغطيه البلاغة. فالكفاح الفلسطيني لم يكن هدفه عودة إلى الأصل بالمفاهيم العرقية التي نبتت في الغرب أساسا. المسألة هي العودة من الذاكرة إلى الوطن نفسه للحفاظ على الوجود الفيزيائي والإنساني.
يقول آرييه شافيت لسعيد: تبدو يهودياﹰ جداﹰ؟
سعيد: “طبعاﹰ، أنا آخر مثقف يهودي… أنا الحواري الحقيقي لادورنو، أنا يهودي-فلسطيني”.
تحضرني في هذا السياق تحديداﹰ، شخصية مثقف فلسطيني نقيض لإدوارد سعيد، هو الفنان الشهيد اغتيالاﹰ ناجي العلي، الصديق الذي اغتالوه يوم 22 تموز 1987 في لندن. تسللوا من بين أصابعنا البلهاء الساذجة، من تحت جفوننا المطمئنة ل “طيبة” من لا ضمير لهم…لذا لم نحس بهم.
لنقرأ ماذا يقول ناجي عن حنظلة، الذي يمثل شخصية ناجي العلي نفسها في علاقتها بالوطن:
“… أنا مع الأعلام السوداء في هذه المرحلة ولن أرفع الأعلام البيضاء…حملت بحنظلة في الكويت وولدته هناك خفت أن أتوه أن تجرفني الأمواج بعيدا عن مربط فرسي فلسطين. وولد حنظلة أيقونة تحفظ روحي وتحفظني من الانزلاق … حنظلة وفيٌّ لفلسطين وهو لن يسمح لي أن أكون غير ذلك… انه نقطة عرق من جبيني تلسعني إذا ما جال بخاطري أن اجبن أو أتراجع.
ولد حنظلة في العاشرة من عمرة وسيظل دائما في العاشرة ففي ذلك السن غادرت الوطن… وحين يعود حنظلة سيكون …بعد في العاشرة، ثم سيأخذ في الكبر بعد ذلك. قوانين الطبيعة المعروفة لا تنطبق عليه، إنه استثناء لأن فقدان الوطن استثناء وستصبح الأمور طبيعية فقط عند استعادة الوطن…قدمته للفقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة، في البداية قدمته كطفل فلسطيني لكن مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي ثم أفق كوني وإنساني. في البداية رسمته يحمل كلاشينكوف ويدير وجهه للناس…لكن بعد حرب أكتوبر 1973،
”كتفته“ باكرا لأن المنطقة سوف تشهد عملية تطويع وتطبيع…من هنا كان التعبير العفوي لتكتف الطفل، هو رفضه وعدم استعداده للمشاركة في هذه الحلول. وحقيقة الطفل أنه منحاز للفقراء لأنني أحمل موقفا طبقيا، لذلك تأتي رسومي على هذا النحو والمهم رسم الحالات والوقائع وليس رسم الرؤساء والزعماء. انه شاهد العصر الذي لا يموت…هذا المخلوق الذي ابتدعته، لن ينتهي من بعدي بالتأكيد وربما لا أبالغ إذا قلت أنني قد استمر به بعد موتي. ..رسمت بالحس الطبقي الذي يلفت النظر لهذه القوى المسحوقة التي يجدر بها الحياة“.
وعندما سئل عن موعد رؤية وجه حنظلة قال:
“عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته، ومع ذلك يبقى التعب الأكبر وهو مواصلة المشوار“.
ترى هل نظلم سعيداﹰ بهذه المقارنة؟ أم أننا نقدم ابن مخيم اللاجئين حافي القدمين ليناظر فيلسوفاﹰ في جامعة كولومبيا، ومبعوثاﹰ من الخارجية الأميركية لمقابلة عرفات، الذي هدد ناجي العلي بغمس اصابعه في حامض الكبريتيك؟ لكن المفارقة تكتمل مأساتها حين نسمع ما يقدمه المثقف الصهيوني مقابل ”كرم“ الفيلسوف الفلسطيني.
ميرون بنفنستي:
“متدثرا بعباءة البلاغة، بما يسمى ( تفهم) اليهود، فإن الفرضية الأساسية لدى إدوارد سعيد هي أن (الإسرائيليين) ﹸمجرَّ مون بأحداث 1948، وأن الفلسطينيين يتحملون فقط مسؤولية أنهم كانوا هناك… في ذلك اليوم التاريخي الذي فكك البريطانيون الحواجز وغادروا، كنا هناك نلتقط بقايا الذخائر التي تبعثرت منهم أثناء المغادرة، أما ادوارد سعيد فكان قد وصل القاهرة التي هربت إليها أسرته، فوراﹰ بعد أول طلقة رصاص أطلقت في أواخر 1947” .
أين تقف إنسانية سعيد التي يريد تلقيح أمتنا وشعبنا بها من هذا العدو؟ باختصار، فإن المستوطن رغم كل ما فعل، يرفض أن تنسب إليه مجرد جنحة في ما حصل عام1948. أين تقع الفلسفة أمام هذا!
ليست وحدها المسألة القومية إشكالية، وإن كانت أكثر من غيرها، أما القومية العربية ففُرضت عليها الإشكاليات الأكثر تعقيداﹰ ولم تتوقف بعد. منطقة بركانية ناشطة ومُنشَّطة بعوامل خارجية أيضا. كغيره وأكثر، لإدوراد سعيد مشكلة مع القومية العربية بشكل خاص، وليس ذلك لأنه “إقليمي فلسطيني”. هذا علماﹰ بأن الما بعد إستعماريين يفترض أن يكونوا ذوي وفاء قومي، بالعموم على الأقل. أما فانون إن كان من نفس التوجه، فهو قومي حقيقي واشتراكي حقيقي أيضا.
فحركات التحرر الوطني من المستعمرات هي الموجة القومية الثانية في العالم، بعد عصر القوميات الأوروبية الذي تم تعميمه بتعسف مركزاني على العالم. وقد يضيء هذا الموقف على حقيقة إدوارد سعيد أكثر من موقفه من تخفياته في الأدب المقارن. وربما هذا ما جعله يؤكد رفضه للحقيقة السياسية، ولجوءه إلى “أنسنة” هلامية لمثقفه.
كما أشرت قبلاﹰ، ترتد جذور موقف إدوارد سعيد من القومية إلى اليهودية بما هي متطابقة مع الصهيونية. وإلى تفرعات اليهوصهيونية من الفلسفية ممثلة في أدورنو إلى ماركسية تروتسكية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فهي، أي عدائيته للقومية العربية، مستقاة من الأكاديميا الاستعمارية الأنجلو-ساكسونية التي جزأت الوطن العربي ورفعت ذلك من فرق-تسد إلى تفكيك كل قطر من داخله، ولا أخال أن الاستعمار جزَّأ الوطن العربي ولا زال يعمق ذلك لاعتبارات ثقافية.
ليس غريباﹰ أن مؤتمر هيرتسليا 2009، خرج بأحد أهم استنتاجاته، بأن الخطر على إسرائيل : ”ليس إيران بل القومية العربية“. وهذا يفتح على مسألة أهم، هي أن قلق الإمبريالية والصهيونية، ليس من الإسلام السياسي، مع تقديرنا الفائق لفرعه الجهادي. هذا مع وجوب التذكير، بأن أميركا منذ بداية احتلال العراق أخذت تنسب المقاومة لتيارات أصولية لإخفاء أي دور قومي!
هذه التربية الأكاديمية الغربية لإدوارد سعيد، لم تسمح له برؤية الناصرية ولا إدراك معنى العدوان الثلاثي 1956، ولا الإنزال في لبنان بعد ثورة العراق، ولا تحريك إسرائيل ودعمها عام 1067 لتصفية الدولة المركزية للحركة القومية العربية.
وهكذا، بدل أن يتكون لدى سعيد ولاء سياسي عروبي، قفز إلى ضبابية الولاء الإنساني، متجاوزا عن النضال القومي التحرري وعن الصراع الطبقي، ليكون أحد الخراف التي لم تضل. ولم يسعفه ديالكتيك النص طالما باعد بين نفسه وبين ديالكتيك الطبقات الاجتماعية والأمم المستعمَرة والمستعمِرة.
كتب في الاستشراق: “يشكل العالم العربي اليوم تابعاﹰ فكرياﹰ وسياسياﹰ وثقافياﹰ للولايات المتحدة. لا تبعث هذه العلاقة على الأسى بحد ذاتها. لكن الشكل المحدد الذي تتخذه علاقة التبعية هذه هو الذي يبعث على الأسى “. أسس سعيد بهذا الموقف لنفسه، وأسس لغيره، لمدرسة واسعة في المثقفين العرب وصلوا
“بعقلانية” تلائم الروح المهزوم وتقوم على استدخال الهزيمة، إلى استقبال العولمة كفاتح ومحرر كما فعل بعض مشايخ مصر في استقبال غزوة نابليون. لقد أخضع سعيد المتطلبات المادية للثورة الصناعية، متطلبات السوق، والقوة الحربية التي أقامتها لاكتساح الناس فالأسواق، أخضعها جميعاﹰ لقوة الثقافة فباتت الثقافة قاطرة التاريخ، بات المثقف محرك التاريخ.
وسعيد بهذا إنما يضع القوة الثقافية في موضع روحي آت من السماء. لعل هذا التضخيم
والانحصار في القوة الثقافية مهرباﹰ مناسباﹰ للمباعدة ما بين تعالي الكاتب وغبار أرض واقع الصراع مع الطبقة ودولتها. أما تجهيز التربة لاستقبال العولمة، فيعني تمجيد الأمركة.
يلقي سعيد اللوم على الخبراء الأمريكيين في تعاملهم مع الشرق والعرب، ويسدي لهم النصح بتغيير ذلك، ولكنه لا يتجه إلى الاتجاه الصحيح وهو نقد النظام العربي والبحث عن آليات الثورة، من هنا يريد إدوارد إصلاح النظام والعلاقة القائمة وليس تحطيمها، الوصول إلى الإجماع، ، وليس تثوير تابعيه، يدفع البنية بمجموعها إلى التطابق.هذا النصح المخلص للإدارة الأميركية، للطبقة الحاكمة، ل Think Tanksلا يأتي إلا ممن يرى نفسه ضمن السياق العام للموقف والدور الأميركي في هذه الحقبة من الزمان. وهذا أساس النزوع ل “التطابق” بدءاﹰ من الذات التي ترى نفسها مميزة “يجوز للشاعر”. هنا ينكشف التطابق (التماثل) الثقافي المراوغ عن الاضطرار (بعد خراب البصرة) إلى انكشاف الموقف السياسي الفاضح.
وهل تختلف نصيحة سعيد للولايات المتحدة عن نصيحة بريجنسكي، بعد حرب 2006 في لبنان.
” إذا ما ﹼتمعننا في هذه السياسات، بأننا سنتوقع الأسوأ. وإذا لم نفعل، فإنني أخشى بأن المنطقة سوف تنفجر. وعلى المدى الطويل، فإن إسرائيل ستكون مقبلة على خطر عظيم محدق. الاختلاف هو في الموقع بين رسمي وأكاديمي، ولكن ليس الاختلاف في المنطلق والانتماء للمؤسسة ومن ثم لثقافتها.
وقد تفيدنا الإشارة إلى محمد حسنين هيكل الذي عبر عن موقف يطالب بالتطابق بعد هزيمة 1967 حيث كتب: ” ليس في وسعنا في هذه الحقبة أن نقاتل إسرائيل بطريقة تقليدية، وأن حرب الغوار عندنا ليست مناسبة كما هو الوضع في فيتنام…لا يمكننا مناطحة الثور الأميركي“ و ”العرب لا يحاربون، وإنما يُحارﹶب بالنيابة عنهم”.
نجد في كتابات سعيد امتدادات لما كتبه محمد حسنين هيكل:
” … فقد أصبحت القومية الطريق المسدود لحياتنا السياسية إذ تقتضي تقديم تضحيات لا تنتهي وإلغاء الديمقراطية من اجل الأمن القومي”. لنستذكر غرامشي مرة أخرى، فهو يرى أن التضحية النضالية حتمية، ولذا، يهزأ بالقمع السلطوي ولا يرى في الموت سبباﹰ للتقاعس”
تتضح هنا ثقافة السوق، العرض والطلب كمقررين للصفقات، وهو منطق يخلو من الحق الإنساني في الدفاع عن الذات، هذا رغم تمترس سعيد وراء الإنسانية. لكنها بالنسبة له إنسانية “غير مكلفة” مهما كان العسف!
صحيح أن سعيداﹰ هنا ينسب نفسه للعرب، ولكن من مدخل الإحباط والاستسلام، وبالتالي عدم “الانتحاب” على التبعية. وهذا الموقف يطرح تساؤلاﹰ حول إنسانية إنسان يرفض أن يقاوم لأن في ذلك “تضحية” تلغي الديمقراطية لصالح الأمن القومي. ولكن، هل يمكن تحقيق ديمقراطية دون صون الأمن القومي؟ ربما كان المثال العجيب على هذا تجربة الحكم الذاتي الذي سبَّق الديمقراطية على الأمن وانسحاب الاحتلال، فكانت تجربة لم يشهد التاريخ مثل هجانتها.
وصف المرحوم شفيق الحوت السلطة الفلسطينية ب : “الحيوان العجيب”
لكن يجوز لسعيد وإضرابه ما لا يجوز لغيرهما. فرغم أن عزمي بشارة يطرح نفسه “كقومي عربي” بالعموم وحتى “كناصر” بالخصوص، أي بالضبط ضمن الفهم والدور القومي الذي يهاجمه سعيد، إلا أن إدوارد كان سعيداﹰ بالانتظام في فريق الدعاية الانتخابية لبشارة ليصل عضوية الكنيست، برلمان دولة اليهود!
إن حجر الزاوية الأول في موقف سعيد من القومية العربية عموماﹰ، هو إسداء النصح للولايات المتحدة لتكون أكثر “لطفا” في معاملة توابعها العرب. فهو في هذا الموقف ﹲمقر بالتبعية، أما الحجر الثاني فموقفه من النظام البعثي في العراق. فطالما سقط في تصوير الإصرار الأميركي على نفط العراق،وهذا أمر اقتصادي مادي لا ثقافي، وكأنه صراع بين شخص الرئيس صدام حسين والغرب الرأسمالي!
“… لسوء الحظ، فانه طبقا للأنباء، هناك دعم شعبي متنام لصدام حسين في العالم العربي، وكأن الدروس القديمة في العناد بدون قوة حقيقية لم يتم تعلمها بعد” .
ماذا يختلف هذا الموقف عن موافق أنظمة الكمبرادور؟ دعوهم يأخذون ما يريدون، وعلينا الاكتفاء بما يبقون ورائهم حتى لو لاشيء!
ورقتي عن سعيد جزء 5
-7 سعيد الفلسطيني المختلِف واليهودي الأخير!
آن لنا التساؤل عن طبيعة فلسطينية إدوارد سعيد شأنه شأن أي فلسطيني آخر. فقراءة فلسطينية إدوارد سعيد يجب أن تنطلق من الواقع الفلسطيني وليس من صورته في الأكاديميا الأميركية، وخاصة دوائر النقد الأدبي بعمومياتها، وبقائه مقبولاﹰ في الأكاديميا والسياسة الأميركية معاﹰ. ويجب أن لا تنحصر قراءة سعيد في صورته لدى العرب في الولايات المتحدة كذلك، ولا في صورته لدى العرب المبهورين بعربي قبلته الأكاديميا الغربية فوازى كتفه كتفها!. لقد ظل إدوارد سعيد مأخوذاﹰ (ب ﹺ وبَيْن) أصوله العربية من جهة وثقافته وتربيته وموقعه الأكاديمي في الغرب من جهة ثانية، وهذا ما يفسر تأرجحه المتواصل تجاه الصراع العربي الصهيوني.
تفيد قراءة متأنية أن إدوارد سعيد قد عرض القضية (the Question of Palestine )على أنها مسألة تنازع أفكار وروايات. إن فلسطين نفسها خلافية جدا، تصور خلافي (اختلاف في ُّ التصور)، قبل الأمة يأتي التصور .before the nation comes the notion. وهو يرى أن الطرف الصهيوني صاغ ذاكرته وروايته باكرا وبشكل أفضل. هنا يرتكز على نظرية بيندكت أندرسون: الجماعات المتخيلة، التي تقوم على الذاكرة الجماعية أكثر مما تقوم على مقومات الحالة الفلسطينية التي هي حالة اغتراب وتمسك بالوطن في الذاكرة كنضال للعودة إلى الوطن في الجغرافيا.
يبدو لي أن سعيد أخذ كذلك مما كتبه وايزمن إلى بلفور:30 أيار1918: ” أن الصراع في فلسطين هو صراع للحصول على السيطرة على الأرض من أهل البلاد الأصليين، لكنه صراع مبجل لأنه من أجل فكرة عظيمة، والفكرة هي كل شيء” (في سعيد، قضية فلسطين ص ص 82-62)في ص 42 من كتابه »قضية فلسطين« يصف سعيد ما هي فلسطين بالنسبة لليهود:
“… شعب يتماثل مع أرض إسرائيل منذ زمن قديم يمثل معاناة استثنائية في التاريخ،.. فالشخص الذي يعارض هذه الخطة ، كما قلت أعلاه، سيجد نفسه بلا مكان في الغرب (التشديد من عندي ع.س) وما زال الأمر هكذا حتى اليوم” ( قضية فلسطين ص 42).يبدو أن هذه المقتطفات قد فتحت لنا طريق الرؤية في نفق التلاعب عند صاحبنا. فيما هو ثقافوي، وبما أن الثقافة هي صانعة التاريخ، الفكرة وليس الواقع المادي، فسعيد في التحليل الأخير ذاهب باتجاه قبول الرواية التوراتية/ الصهيونية.
إذا َّ صح اعتماد التوراة كتاريخ َّ متخيل، فإن الواقع الكنعاني كان أسبق. لكن سعيداﹰ بدأ من الفكرة والرواية التي لم تدحض التاريخ الفعلي. َّ أما وأن سعيد ليس ساذجاﹰ، وليس عميلاﹰ وربما ليس مبهوراﹰ بشكل حقيقي بالرواية التوراتية رغم ثقافويته، ولكي لا يقع في ٍّ أي من هذه، قرر أن ﹸيمرِّر لنا جملة صغيرة تكشف عن عودته إلى التيار المهيمن /السائد The Main Streamكلما جرَّه الواقع إلى التخطي. لذا يقول لنا، إن من يرفض الرواية التوراتية ومعاناة اليهود الاستثنائية، -لا مكان له في الغرب! فلكي يحافظ سعيد على مكانه، لا بد له أن يطوع ويلوي أعناق فلسطينيته ومثقفه وموقفه من القومية وحق العودة وحتى التاريخ كي يبقى في “الغرب”. قد يفسر هذا قيام سعيد بترك الكثير من مواقفه مفتوحة على عدة اجتهادات”حمالة أوجه”. وسعيد هنا إذ يضحي بالمواقع، واحداﹰ بعد ثان، إنما يسير في نفس ركب قيادة م.ت.ف التي بدل أن تخوض حرب الموقع مع العدو، وبالطبع لم تخض حرب الحركة، تورطت في فقدان موقع بعد آخر، سواء البندقية، الانتفاضة، التنمية بالحماية الشعبية…الخ
المفترض أن إدوارد سعيد، بدأ ضمن منظري ما بعد الاستعمار، ووجه للاستشراق نقداﹰ حاداﹰ، دون أن يخرج الاستشراق من إطاره الثقافي، بل أدخل التاريخي في الثقافي. لكنه تنبه إلى أن بوسعه أن يكون المثقف الفلسطيني الأول الذي يمكنه التنقل بين حركة مقاومة مسلَّحة، رغم أنه يرفض الكفاح المسلَّح، وقلعة الإمبريالية في حقبة العولمة. فهل يعزى هذا إلى كفاءة نادرة، أم إلى نرجسية ثقافية وموقف متبدل، وغياب موقف حدِّي تجاه الامبريالية، هذه المرَّ ة ممثلة في الدولة وليس على الورق الأكاديمي.
إدوارد سعيد حالة مختلطة ومتشابكة، فبما هو ﹼمنظر لما بعد الاستعمار، يعظ في الحالة الفلسطينية بالاعتراف بالاستعمار الاستيطاني، ومسامحته في ما حصل عليه في دعوته لدولة ثنائية القومية، وحضوره خصيصاﹰ إلى الجزء المحتل عام 1948(الاحتلال الأول) للترويج لأحد مرشحي الكنيست. كيف يجيز لنفسه كل هذا؟
لا يتوقف سعيد عند التسامح، بل يطالب المثقف الفلسطيني أن يتواصل مع الجمهور الإسرائيلي كما لو كان الفلسطيني هو المعتدي والذي عليه إثبات حسن نواياه وسلوكه:
“أعتقد أن على المثقفين الفلسطينيين أن يعرضوا حالتهم مباشرة للجمهور الإسرائيلي والإعلام. فالتحدي في كلا وداخل المجتمع المدني، الذي كان دوما مستثنى لصالح (القومية) الفلسطينية التي تطورت الآن إلى عقبة في طريق المصالحة، وبالتأكيد ليست من مقوياتها ( (The End of the Peace Process: ص320).
هل سيقول المثقف الفلسطيني للجمهور الصهيوني أنني أبارك لكم هذه الأرض؟ فهذا الجمهور الاستيطاني الأبيض يريد كل شيء، وهو يعرف أسباب الصراع لأنه خالق ذلك الصراع.
وإذا كان لنا أن نتحدث عن طابع معين للأجناس، فإن للمستوطنين البيض أينما ﹸوجدوا ثقافة واحدة هي الثقافة الرأسمالية (اقتصاديا) والاقتلاعية (ديمغرافيا) والدموية (سلوكيا وثقافياﹰ) فما الذي سيشرحه لهم المثقف الفلسطيني. وقد رأينا ما كتبه ميرون بنفنستي عن سعيد وسعيد أكثر من تحدث معهم، وربما تحدث معهم أكثر مما تحدث معنا. نعم، لا قيمة للنظرية، للخطاب مهما علا كعبه اللغوي بالمصطلحات أو بالتقعر باللغة، إلا إذا ﹸجرِّ ب على الواقع.
ﹾبعيد إعلان الدولة الفلسطينية عام 1988، بدأ سعيد نقداﹰ ﹰخافتا لـ م.ت.ف. ﹼولعل البادرةﹼالعلنية الأولى لهذا النقد كانت في مقابلة أجراها معه هشام ملحم في صحيفة “الفجر” (في كراتشي) عام 1990، حيث انصب نقد سعيد آنذاك على أداء المنظمة في الساحة الأميركية. إن م.ت.ف، في رأي سعيد، لا تحاورﹸ إلا الموالين لإسرائيل هناك، فضلاﹰ عن “سماسرة ﹶووسطاء بين النضال ﹼالفلسطيني والشعب الأميركي”، بدلاﹰ من الذهاب إلى جامعات ونقابات و قطاعات عديدة تدعمنا كلياً ” والحقيقة أن الفلسطينيين، من طراز سعيد نفسه، قد حاوروا هذه القطاعات في كل من المستوطنة البيضاء الولايات المتحدة والصغرى الكيان الصهيوني، وحبذا لو خرجوا ﹴبتقييم للنتائج؟
” في حالة فلسطين التي خدمت قضيتها كعضو في المجلس الوطني الفلسطيني، بدءا من عام1977وقد استقلت من صفوفها عام 1991، حيث كشفت الفحوصات أنني أعاني من مرض خطير، ولكن هناك سبب آخر وهو أن شروط قبولنا بالذهاب إلى مدريد كان أمراﹰ كارثياﹰ. لقد كنت قد صوت في مؤتمر الجزائر على شعار دولتين لشعبين عام 1988 . لم يقتصر ما أدركته عام 1991 على أن مكاسب الانتفاضة على شفير الضياع، ولكن أيضا أن ياسر عرفات ومستشاريه الأقربين قد قرروا على عاتقهم القبول بأي شيء تلقي به إليهم الولايات المتحدة وإسرائيل، وذلك فقط كي يحافظوا على بقائهم كجزء من عملية السلام”
ولكن ما الذي توقعه سعيداﹰ أن يحصل عليه عرفات ومن معه طالما كل عملية التسوية في نطاق دولة في الضفة والقطاع الأمر الذي وافق عليه هو نفسه! لم يكن سقف سعيد وربعه أعلى من ذلك. لقد شارك الكثيرون سعيداﹰ في هذا، أي من مثقفي التسوية. ولم تتجاوز مزايداتهم على عرفات سوى أجزاء صغيرة من الضفة الغربية. أي بالتحديد، كانت مفاوضات بلا حق العودة، وباعتراف بالكيان. فما الفرق بين عرفات وسعيد؟ هل المسألة وطن وشعب أو بضعة كيلومترات أكثر!
يقول في ص 100 ” إن هناك حاجة نفسية لدى أبو مازن وعرفات بأن تعترف بهم الحركة الصهيونية”. وقد يكون في هذا إسقاطاﹰ نفسياﹰ لما يعتقده الرجل نفسه. وإلا فما معنى البقاء منذ 1969 على موقفه من رفض الكفاح المسلح والإصرار على التحاور مع صهاينة يرفضون حق شعبنا في العودة؟ بل لعل في هذا إفراط في التبسيط إلى جانب كونه خاليا من التحليل الذي يضع الأحداث في سياقها المادي التاريخي، هو شعور المثقف الفرد والفردي.فأي قائد أو حاكم أو قيادة، إنما هي وليدة مناخ معين لتشكيلة اجتماعية اقتصادية. وبالتالي فهي قيادة مرتبطة بمصالح طبقة/طبقات/شرائح طبقية لها مصلحة في تنفيذ سياسة معينة.
حتى حين تعلن الطبقات أنها تعمل أولاﹰ لمصالحها، يصر إدوارد سعيد على رؤية الجانب اللامادي في الأمر. فما معنى قوله أن عرفات ومستشاريه المقربين يصرون على بقائهم جزءاﹰ من عملية السلام. هذا إذا كان سلاماﹰ. لو دقق سعيد قليلاﹰ لرآه “سلام رأس المال” بين الرأسمالية الصهيونية والفلسطينية، رغم تفاوت المكاسب بين الطرفين، أي بين ﹺالمستعمر ﹶوالمستعمر القابل باقتصاد التساقط .Trickle-down Economyفقد ظفرت الرأسمالية اليهودية/الصهيونية في أعقاب مدريد/أوسلو بوطن وبأكثر من 100 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر، وظفرت البرجوازية الكمبرادورية الفلسطينية باقتصاد التساقط بما فيه الحصول على مساعدات المانحين التي هي ”ريعاﹰ مالياﹰ لمواقفهم السياسية“، وعلى تحكم إداري على فلسطينيي الضفة والقطاع. هذا معنى بقائهم ضمن عملية التسوية. المعنى مادي اقتصادي وليس مجرد مركز معنوي. ترى، هل أدرك سعيد هذه التوجهات حينما كان من “مستشاري عرفات الأقربين”؟
هنا لا بد من التقاط التلاعب، فسعيد ضد نمط ما من أوسلو/طبعة ما من هذا الاتفاق، وليس ضد مبدأ أوسلو. هو مع الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي، وبدولة ثنائية القومية هكذا بعموميتها، واعتبار المستوطنين أمة، ويبدو أنه يجهل براجماتية عرفات التي قبلت بما لن يعرض أفضل منه أو أكثر أو أوسع بغض النظر من هو الفلسطيني المفاوﹺض.! هل كان سعيد ساذجا، أم كان دوره إدخال المنظمة في مطهر التسوية ومن ثم سينتهي دوره ويعود لشطف نفسه كمثقف كالقطة السيامية. فعلاقة سعيد، في حدود ما نعرفه، بالقضية الفلسطينية بدأت عام 1969:
“دعوت بشكل خاص إلى لقاء عام عقد في جامعة هارفارد في شباط 1969، …كان هدف الحضور، بمن فيهم أنا نفسي، كنت مقتنعا بأن الحل السياسي للصراع ، كنقيض للحل العسكري، في فلسطين هو الذي سيعطي نتائج”
هنا يتجلى الفارق بين مثقف فانون ومثقف سعيد. ما أكثر الحلول غير العسكرية ولكن ما هي النتائج؟ ألم يختصر انتصار حزب اﷲ وحده كافة الحلول السلمية، وحتى صمود غزة 2009؟ماذا كان سيقول لو شاهد هذه؟ غالباﹰ، لن يتغير.
في هذا السياق، وحينما فهم سعيد أن العدو لن يعطي شيئاﹰ قفز إلى سفينة الانتهازيين الذين رافقوا عرفات في كافة مراحل التنازلات السياسية، ثم تخلوا عنه ونقدوه كما لو كانوا رافضين لمشروع التسوية بتاتاﹰ. ومعذرة على القول، إننا نحن الفقراء حين نسمع بلاغة مرشدي عرفات إلى البيت الأبيض، ومن ثم هجومهم البليغ ضده نتحسس مواقفنا، نتخيل أن هؤلاء ثوريين من طراز لم تشهده البشرية بعد!
من جهة ثانية، ” كيف قبل إدوارد سعيد عضوية المجلس الوطني الفلسطيني بالتعيين علماﹰ بأنه مثقف لبرالي لا يؤمن إلا بالانتخابات الديمقراطية! بل قبل هذه العضوية الممنوحة من عرفات الذي كان يقود منظمة مسلَّحة، يعاكس مجرد وجودها ودورها معتقد سعيد المضاد للكفاح المسلح! وهو الذي كتب:
“أعتقد باستمرار أنه ما من سبيل بالحل العسكري للصراع العربي الإسرائيلي، وبخاصة للصراع الفلسطيني-الصهيوني”. نلاحظ هنا التطابق مع الأطروحة الصهيونية فالأميركية، والكمبرادورية العربية “السلام خيار استراتيجي”، هذه هي الهيمنة بوجهها السلبي في قراءة غرامشي، إنها الإجماع.
“… .إنني أؤمن بعمق بالتصالح بين الشعوب والثقافات المتصارعة، وجعلتها مهمة حياتي بأن أدفع هذا المعتقد إلى نهايته. لكن تصالحا حقيقيا لا يمكن أن يفرض، كما لا يمكن أن يحصل بين ثقافات ومجتمعات يقوم بينها لاتكافؤ كبير في القوة. إن نوع التصالح الذي يمكن أن ينتج سلاما حقيقيا يمكن أن يحصل فقط بين متساويين، بين شركاء من شأن استقلالهم، وقوة الهدف، والتماسك الداخلي أن يسمح لكل منهم بأن يتفهم وان يشارك الآخر” . ولكن، لم يقل لنا كيف نصل إلى التساوي والتكافؤ؟ ولماذا الكفاح المسلح مرفوض للوصول إلى التكافؤ. ما قيمة التصالح بين شركاء متساوين في القوة بينما لم يدفع المجرم مستحقات الآخر.
هنا يتحول فجأة إلى مثقف إنساني، وهنا تظهر علائم تأثير ديريدا وفوكو على مثقف سعيد وليس تأثير غرامشي، فما بالك ب فانون. تطابق في مستوى آخر، لا يتناقض مع تناقض الاستشراق والمابعد استعمار.
وبتحديد أكثر، فإن سعيدا، كأحد دعاة “نظرية ما بعد الاستعمار”، إنما يمارس دور هذه المدرسة كوسيط لتسوية التناقضات بين الاستعمار وضحاياه، بين الصهيونية مدعومة بالامبريالية وبين الفلسطيني المصلوب والعربي المضروب. لقد وجد في القضية الفلسطينية مناخا مناسبا لتقلبه وتنقله بين القاتل والقتيل. وعن هذه الوسطية والوساطة والتقلب والتنقل كتب يقول:
» في أواخر السبعينات، طلب مني وزير الخارجية الأمريكي سايروس فانس إقناع عرفات بقبول قرار 242 مع إضافة تحفظ من قبل م. ت. ف (تقبل به أمريكا) ينص على الحقوق الوطنية«.
“إن الخسائر الكبيرة التي ترتبت على السياسات الخاطئة لقيادة م.ت.ف خلال أزمة الخليج، وعلى الإدارة المالية السيئة بشكل متواصل والأرصدة التي لم تدقق قط، قد وضعت قيادة م.ت.ف في أزمة منعتها من إنجاز أي من الأهداف الوطنية والمبدأ المشروع لما أسمي الحل المؤقت الذي طرحه إسحق شامير، وجورج بوش وجيمس بيكر”
هنا بالضبط يتبين موقف سعيد السياسي من الهيمنة على صعيد عالمي، أي قناعته بأن ﹼتتطيف المقاومة مع الإجماع الذي تطلبه الولايات المتحدة. أي أن كل الأمور في يد الولايات المتحدة ومن أراد شيئاﹰ، (مثلا تحقيق أهدافه “الوطنية” عليه دخول نادي الإجماع! فالسياسة الخاطئة هي إغضاب الولايات المتحدة والوقوف بجانب أي قطر عربي على أرضية قومية!
رغم أن استعادة العراق للكويت ما تزال مسألة خلافية بين العرب، ورغم أن ما أورده سعيد من نقد على م.ت. ف بشأن الفساد المالي كان نقداﹰ صحيحاﹰ، إلا أن هذه ليست العيوب الأساسية لحركة المقاومة التي أقيمت لتحرير فلسطين وليس لقبول الحل المؤقت أو إعلان استقلال في تونس.
ويعود ليقول:
” ان رفض التطبيع كدفاع عن الثقافة القومية يبدو أمرا مقبولا من حيث المبدأ، ولكنه لا يحمل الكثير لمن ينظر إليه. أية ثقافة قومية هذه التي لا تقوى على البقاء إذا ما أقامت صلات مع الأخريات؟ وكذلك عندما تعقد الحكومات القومية حلاﹰ مع إسرائيل، لماذا يكون مقبولا بشكل ما أن تعمل وتتعاون مع هذه الحكومات ومؤسساتها ويكون لا شرعيا العمل مع إسرائيل”
ربما من هذا المنطلق، كان أفضل لسعيد أن يبقى في الفضاء الثقافي العام، في الأدب المقارن، بل الأدب المتطابق، أي بعيداﹰ عن حديث السياسة. كيف له أن يساوي بين مواطن عربي يضطر كمواطن لتعاون ما مع قوانين البلد، وبين من يرفض التطبيع مع الكيان؟ ربما انطلق سعيداﹰمن وهم أن الأنظمة العربية شرعية وهذا خلل كبير؟ لأن هذا الخلل نفسه هو الذي رمى به في الاعتقاد بشرعية الكيان! يبدو أن سعيداﹰ لم يسمع، وبالطبع لم يلمس، القمع الذي تمارسه الأنظمة العربية على الشعب العربي وهو قمع في مثابة حرب أهلية/طبقية متواصلة.
”…ربما كان يجب أن أتغيب عن التصويت على قرارات المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988″! هذه تذبذبات من لا منهج له. فلو كان موقفه واضحاﹰ لنقد نفسه بوضوح، ولم يحاول بعبارات مطاطية تنزيه نفسه عن النقد الذاتي .
وخلص إلى القول:
” يعني هذا حق تقرير المصير للشعبين… إن كلا من قانون العودة بالنسبة لليهود وحق العودة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين إما أن يؤخذا بالاعتبار معا، أو يلغيا معا”.
نلاحظ التناقض والتلاعب، فقبل بضع صفحات حاجج سعيد أن لا حل إلا بقوى متكافئة، وأنه ضد العناد بدون قوة حقيقية. ولكن، ما معنى إما أن يؤخذا معاﹰ أو يلغيا معاﹰ؟ ألا يعني هذا المقاومة حتى لو لم تتعادل القوى؟ ولو كانت قوة المستعمَر معادلة لقوة المستعمِر، لما كان هناك استعماراً أو مقاومة بعد حصوله.
في رده على سؤال آرييه شافيت، لماذا رمى حجراﹰ على الجنود اليهود من بوابة فاطمة في الجنوب اللبناني، يقدم سعيد جواباﹰ ضعيفا فيه اعتذار مبطن. فهو يصور الأمر كأنه مجرد خضوع لرغبة ابنته لتعرف أيهما يرمي لمسافة أطول أبوها أم أخوها. ألم يكن في وسعه ضرب الحجر باتجاه لبنان لا فلسطين!
“الفلسطينيون هم الضحية، لا أريد القول أن كل شيء حصل للفلسطينيين هو نتيجة مباشرة لإسرائيل، لكن التشوه الأساسي لحياة الفلسطينيين حصل من قبل التدخل الصهيوني…بدءا بوعد بلفور…والتشوه لا زال مستمرا…لذا، فإن إسرائيل ليست دولة كأية دولة. ليست كفرنسا، لأن فيها لا عدالة متواصلة. إن قوانين دولة إسرائيل تؤبد اللاعدالة“.
تلفت مفردات سعيد النظر هنا بوضوح مثل ”التشوه“، أو اللاعدالة…الخ، علما بأن ما حصل لم يبدأ مع وعد بلفور، أو حتى هيرتسل؟ ثم لماذا الفصل بين من لا فكاك بينهما بريطانيا وإسرائيل، أي الكيان والمركز الرأسمالي؟ وكيف لفلسطيني أن يُقيِّم الكيان الصهيوني من منظور العدالة المجتمعية متغاضياﹰ عن اغتصاب الوطن الفلسطيني؟
ففي رده على سؤال :“ هل تقول بأننا كان يجب أن لا نأتي“؟ يقول سعيد: ”…أن أقول ماكان يجب أن تأتوا، كأنني أقول عليكم أن ترحلوا. أنا ضد ذلك. ..أنا دوما ضد رحيلكم. ماكان عليكم أن تفعلوه هو أن تفهموا أن هذه الأرض مأهولة بشعب”. ولكن، ألم يسمع، ولم يشاهد أنهم يصرون على رحيلنا.
” إن الكثير من الشواهد تفترض بأنه كان لا بد من المجيء. أما هل أنا متعاطف بعمق مع الذين أتوا؟ فقط بشكل متواضع. أجد من الصعوبة علي أن اقبل الصهيونية كصهيونية. أعتقد أنه كان بإمكان اليهود الأوروبيين أن يندمجوا في بلدان أخرى كأمريكا وكندا وبريطانيا. ما زلت ألوم بريطانيا على السماح لليهود بالقدوم إلى فلسطين، بدل توطينهم في أماكن أخرى“.
هنا ينتقل سعيد من التلاعب البلاغي الثقافي إلى التلاعب في الحقائق. فهو لا يوضح ما هي هذه الشواهد التي أوجبت غزوهم لفلسطين. هكذا يتركها هلامية. إن القبول بأية شواهد يعني مقابله التنازل عن حق العودة، وهذا ما انتهى إليه إدوارد سعيد حتى رحيله. وببساطة ينسف سعيد مسألة الاستعمار ودوره في إقامة إسرائيل كمصلحة له قبل أن تتولد الفكرة الصهيونية السياسية. هذا هو مبدأ الغفران للاستعمار على حساب ضحاياه.
لا شك أن سعيداﹰ يقيم جداراﹰ من الإسمنت المسلَّح ضد ممارسة الكفاح المسلَّح، وبالمقابل، فالعدو لا يقف فقط عند رفض دولة واحدة، بل يطالب بدولة لليهود وحدهم. وطالما يدلي سعيد بدلوه في القضية، فما المخرج الذي يقدمه لشعبنا أمام هذين َّ السدَّين؟ لا ﹾشيء! هذا هو مثقف الخطاب! لم يبق بعد سوى أن يعظنا سعيد بالمكان. أي مكان. أليس هو ضد الوطن.
أي قد يعظنا ببقاء كل لاجىء حيث هو. وحين تنتقل الصهيونية إلى موجة الطرد الجماعي الثانية قد يقول لنا سعيد، لا بأس، من مكان إلى مكان، أي : إلى الوطن البديل!
قد نختم هنا بالإشارة إلى التطابق النهائي لدى سعيد، يقول لآرييه شافيت:
ان جميع مثقفيك اليهود الآخرين مالكين في الضواحي. من عاموس عوز إلى كل هؤلاء في أميركا. لذا أنا الأخير. آخر إتباع ادورنو. دعني أضعها كالتالي: أنا يهودي – فلسطيني«( Power, Politics and Culture:485)
هل نقرأ هذه العبارة بمعناها الفلسفي الثقافوي؟ ربما. ولكن لا يمكن لملايين الفلسطينيين الذين أضحوا بلا وطن منذ ستة عقود أن يأخذهم التطريب اللغوي والثقافي لينسيهم الاغتراب، وذل المنافي، والفقر وسوء التغذية واللامكان. إدوارد سعيد، لم يبدأ لاجئاﹰ ولم ينته بروليتارياﹰ.
References
Ahmad, Aijaz. 1992. The Theory: Classes, Nations, Literatures London:
Versi.
———————1995. “Post |Colonialism: What’s In A name?” In Late Imperial Culture. Edited by Roman de la Campa, E. Ann Kaplan, and Michael Sprinker. London: Verso.
Amin, samir. 1977, Imperialism and Unequal Development.
New York:Monthly Review Press.
—————- 1989, Eurocentrism. New York : Monthly Review Press.
Althusser, Louis and Balibar, Etiene, Reading Capital, London: Verso, 1997.
Bhabha, Homi, 1994. The Location of Culture. New York:Routledge.
Buci-Glucksman, Christine. 1980. Gramsci and the state. London:
Lawrence and Wishart.
Braudel, Fernand, After thoughts on Material Civilization and Capitalism, Patricia Ranum trans. , Baltimore: The Jons Hopkins University Press, 1997.
Bue;;, Frederick, 1994. National Culture and the new Global System.
Baltimore: The Johns Hopkins Press.
Callinicos, Alex. 1995. “Wonders Taken for Signs: Homi Bhabha’s Postcolonialism>” In Post-Ality: M<arxism and Postmodernism.
Edited by
Cox, Robers W. , Production, Power, and World Order: Social Forces in the Making of History, New York: Colombia University Press, 1997.
Ghandhi, 73-74
Ibish, Hussein, Nationalim as an Ethical Problem for Post Colonial Theoty, (PhD Thesis 2002).
Mas’ud Zavarzadeh, Teresa Ebert, and Donald Morton. Washington, DC: Maisonneuve Press.
—————1989. Against Postmodernism.New York:St. Martins Press.
Chen Xiaomei, 1994. Occidentalism:Theory of Counter-Discourse in Post-mao China.New York: Oxford University Press.
Dirlik, Arif. 1997. The Postcolonial Aura..Boulder:Westview Press. Gramsci, Antonio. 1971. Selection from the Prison Notebooks. New York: International Publishers.
Gran, Peter. 1997. “Subaltern Studies as Praxis in India and in the United States.” Unpublished draft.
Grossberg, Lawrence. 1996. “Identity and Cultural Studies: Is that All There Is? In In Questions of Cultural Identity.Edited by Stuart Hall Paul du gay. London:Saga Publishers.
Harvey, david. 1996. Justice, nature and the Geography of Difference.
Cambridge, mass:Blackwell.
Haug,W.F. 1986. Critique of Commodity Aesthetics.Minneapolis:
University of minnesota Press.
Lefebvre, Henri. 1968. Dialictical Materialism. Tr.by John Sturrock.
London: Jonathan cape.
Kukacs, Georg. 1971. History and Class Consciousness. Tr . by Rodbey Livingston. London: merlin Press.
Meszaros, Istvan. 1983. “Totality>” In a Dictionary of marxist Thought.
Ed.Tom Bottomore. Cambridge, Mass: Harvard University Press.
Mulhern, Francis, ed. 1992. Contemporary Marxist Literary Criticism.
London:Longman.
Porter, Dennis. 1994. “Orientalism and its Problems.” In Colonial Discourse and Post-Colonial Theory. Ed. Patrick Williams and Laura Chrisman. New York: Columbia University Press.
Poulntzas, Nicos. 1978. State, Power and Socialism. London: verso.
Pratt, Mary Louise. 1994. “Comment on Edward Said’s Culture and Imperialism.” Social Text .01-2: 93
Rupert, Mark. 1993. “Alienation, capitalism and
the Inter-States System: