“إسرائيل” وإحراق المسجد الأقصى
د.غازي حسين:
بمناسبة مرور 46 سنة على الجريمة النكراء
يصادف يوم الجمعة الموافق في 21 آب 2015 مرور 46 سنة على جريمة إحراق العدو الصهيوني للمسجد الأقصى على يد اليهودي الاسترالي مايكل روهان، بالتنسيق مع سلطات الاحتلال وقواتها العسكرية.
أتت نيران الحريق الوحشي التي أشعلها بث الحقد والكراهية والتعصب والتمييز العنصري الذي رسّخه كتبة التوراة والتلمود والمؤسسون الصهاينة والكيان الصهيوني ضد العروبة والإسلام والمسيحية على محراب صلاح الدين وحوّلته إلى رماد، وكادت أن تدمر المسجد الأقصى المبارك بكامله لولا أبناء شعبنا العربي الفلسطيني الذين هبوا من جميع أنحاء الضفة الغربية لإطفاء الحريق.
هرع عرب القدس من مسلمين ومسيحيين لإطفاء الحريق، ولإنقاذ المسجد الأقصى من التدمير..
ووصل تآمر “إسرائيل” حداً أغلق فيه جيش الاحتلال أبواب الحرم الشريف (أي ساحة الأقصى) لمنع العرب من الدخول، ولكنهم أجبروا الجيش الإسرائيلي على فتح الأبواب بعد صدام عنيف دام 45 دقيقة، ظناً من سلطات الاحتلال بأن النيران اليهودية ستحوّل المسجد الأقصى إلى رماد خلال تلك الفترة.
وعندما بدأ العرب بمحاولة ضخ المياه من آبار المسجد، وجدوا مضخات المياه معطّلة، فأخذ الفلسطينيون بنشل المياه بأوعية صغيرة، وتسلقوا سطح المسجد لإطفاء الحريق.
وكان رجال الدين المسيحي وعلى رأسهم بطريرك الروم الأرثوذكس يحملون الماء ويبكون ويرددون بأعلى أصواتهم: “بيت مقدس من بيوت الله يحرقوه”.
وارتفعت النيران أكثر من ثلاثين متراً فوق قبة المسجد الأقصى، والمياه قليلة، وجيش الاحتلال يعرقل عملية إطفاء الحريق.
وعندما وصلت سيارات الإطفاء من نابلس ورام الله والبيرة وبيت لحم والخليل وجنين وطولكرم منعتها السلطات الإسرائيلية من المشاركة في عملية إطفاء الحريق بذريعة أن عملية الإطفاء هي من اختصاص بلدية القدس المحتلة.
وعندما وصل وزير الحرب الإسرائيلي ديان استقبله الفلسطينيون بالهتافات ضد إسرائيل ورددوا عبارات: (الله أكبر)، (القدس عربية)، (لا هيكل مكان الأقصى). ونجحوا بإخماد الحريق بعد احتراق الجزء الهام من المسجد الأقصى بما فيه محراب صلاح الدين الذي أحضروه من الجامع الأموي بحلب.
أضربت مدينة القدس فور الانتهاء من إخماد الحريق، واندلعت فيها المظاهرات الصاخبة، وعمّ الإضراب جميع أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة والمناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948.
وساد الحزن والغضب والألم قلوب ومشاعر جميع العرب والمسلمين لفظاعة الجريمة الإسرائيلية ووحشيتها، واتخذ مجلس الأمن القرار 271 في 15 أيلول 1969 عبّر فيه عن الحزن للأضرار الجسيمة الناتجة عن الإحراق المفتعل في ظل الاحتلال العسكري للقدس. وأكد المجلس أن امتلاك الأراضي بالفتح العسكري غير مسموح به. وطالب “إسرائيل” أن تلغي فوراً جميع الإجراءات والأعمال التي اتخذتها في سبيل تغيير وضع القدس.
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: هل كانت محاولة تدمير المسجد الأقصى صدفة أم مخططة؟
كتب تيودور هرتسل مؤسس الحركة الصهيونية العالمية ومؤلف كتاب “دولة اليهود” قبل تأسيس الكيان الصهيوني بخمسين عاماً يقول:
“إذا حصلنا يوماً على القدس وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي شيء فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها قروناً”.
وجاء في دائرة المعارف اليهودية تحت كلمة الصهيونية: “إن اليهود يبغون أن يجمعوا أمرهم وأن يذهبوا إلى القدس ويتغلّبوا على قوة الأعداء وأن يعيدوا العبادة إلى الهيكل ويقيموا مملكتهم هناك”. وأكد المؤسسون الصهاينة “أن المسجد الأقصى القائم على قدس الأقداس في الهيكل إنما هو لليهود”.
وتطبيقاً للمخططات الصهيونية احتلت إسرائيل الشطر الغربي من مدينة القدس في الحرب العدوانية التي أشعلتها عام 1948 وأعلنتها عاصمة لها. وأعلن الأردن في عام 1960 الشطر الشرقي من القدس العاصمة الثانية للمملكة الهاشمية.
تتضمن قرارات الشرعية الدولية والتي تمثِّل الحد الأدنى الذي وافقت عليه الحكومات العربية وأعضاء مجلس الأمن الانسحاب الشامل من القدس العربية، وإلغاء كافة الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل لتغيير الوضع الجغرافي والديمغرافي للقدس، وأثرت على الوضع التاريخي للمدينة بما في ذلك مصادرة الأراضي الفلسطينية والعقارات وترحيل الفلسطينيين واستيطان اليهود وتفكيك الأحياء والمستعمرات اليهودية، والسماح للنازحين الذين نزحوا جراء حرب 67 بالعودة إلى القدس.
تجلَّى الانحياز الأمريكي الأعمى للأطماع اليهودية والمعادي لحقوق العرب والمسلمين في القرار رقم 106 الذي اتخذه الكونغرس الأمريكي في 22 أيار 1990 وصدر كقانون في العام 1995 أي بعد أربعة أسابيع من توقيع اتفاق أوسلو 2 في البيت الأبيض، والذي تضمن الالتزام بعدم المساس بوضع القدس، ما يظهر بجلاء عدم صدقية الالتزامات الأمريكية.
تضمنت ديباجة القانون الأمريكي جميع المزاعم والأكاذيب اليهودية في مدينة القدس، المدينة العربية التي أسسها العرب قبل ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام. وأصبحت مدينة عربية- إسلامية بعد أن حررها رجال الصحابة من الغزاة الرومان.
وجاء في بنود القانون الأمريكي الثلاثة: أولاً: تبقى القدس موحدة غير مجزأة، أي الاعتراف الأمريكي بالاحتلال الإسرائيلي للقدس وشرعنته.
ثانياً: يعترف القانون الأمريكي بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، وجاء فيه الأكاذيب التالية:
-لقد كانت القدس عاصمة للشعب اليهودي لأكثر من 3 آلاف عام.
-لم تكن القدس عاصمة لأي دولة أخرى غير الشعب اليهودي.
-القدس مركزية لليهودية. وقد ذكرت في التوراة 766 مرة.
-لم تذكر بالاسم في القرآن.
-القدس هي مقر الحكومة الإسرائيلية بما فيها الرئيس والبرلمان والمحكمة العليا.
ثالثاً: يلزم القانون الأمريكي الإدارة الأمريكية بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس.
يتناقض هذا القانون الأمريكي تناقضاً فظَّاً وحقيراً مع مبادئ القانون الدولي وحقوق العرب والمسلمين في مدينة الإسراء والمعراج. وينتهك قرارات مجلس الأمن الدولي التي وافقت عليها الولايات المتحدة وتعتبر القدس أرضاً عربية محتلة يجب الانسحاب منها.
سكتت معظم الدول العربية والجامعة العربية سكوتاً مريباً ومشبوهاً على التأييد الأمريكي الهمجي للأطماع اليهودية في مدينة القدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. ووجه حتى ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير شكره للرئيس كلنتون الذي أعلن أنه لم يؤيد القرار ولكنه سيلتزم بتنفيذه.
وأظهر القانون التراجع الأمريكي الخسيس عن المواقف التي أعلنتها الإدارات الأمريكية السابقة من مدينة القدس المحتلة.
فشى في الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية ظهور عدة منظمات دينية متطرفة يهودية ومسيحية تخطط إلى تدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه.
لقد صنع الصهاينة أهمية بالغة للقدس في نفوس اليهود ومؤيديهم من الطهوريين والإنجيليين والمسيحية المتصهينة، بسبب مكانتها السياسية والدينية للديانتين الإسلامية والمسيحية وموقعها الاستراتيجي وأهميتها التاريخية والاقتصادية، ولإذلال العرب والمسلمين وإخضاعهم ومسح الحضارة العربية الإسلامية فيها.
إن القدس ليست مجرد عاصمة من العواصم العربية العزيزة على قلوب العرب والمسلمين، بل هي العاصمة العربية التي خاض العرب والمسلمون من أجلها الحروب منذ تأسيسها على يد العرب، وتحريرها من الرومان وفتحها على يد الخليفة عمر بن الخطاب، واستعادتها من الفرنجة على يد صلاح الدين، واحتلتها بريطانيا التي منحت الصهيونية وعد بلفور. واحتلها الكيان الصهيوني في الحربين العدوانيتين في عامي 1948 و1967.
لقد أكملت دولة الاحتلال تهويد القدس بشطريها المحتلين. وكانت عربية اللسان والحضارة والتاريخ. سادت فيها في بادئ الأمر الكنعانية ثم الآرامية والعربية، كما أن المسجد الأقصى موقع عربي – إسلامي منذ الأزل، ولا يوجد لليهود فيه وفي حائط البراق الذي يسمونه كذباً وبهتاناً بحائط المبكى حق على الإطلاق، وهو وقف إسلامي، وكذلك ساحة المغاربة.
وترتبط أهمية القدس الاستراتيجية للعرب بوجودهم الوطني والقومي والديني. وتتمتّع بمكانة فريدة لحوالي مليار ونصف المليار من المسلمين. وكانت تتبع في العهد التركي إلى سنجق دمشق. وكانت عاصمة الخلافة الأموية، حيث كان خلفاء بني أمية يتولون المنصب في مدينة القدس، وعاصمة فلسطين إبان الانتداب البريطاني، والعاصمة الثانية للمحكمة الهاشمية.
إن المسجد الأقصى المبارك يتعرض إلى خطر حقيقي، لأن اليهودية والأصولية المسيحية وإسرائيل ينادون بوجوب تدميره وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه. ويزعمون أن الهيكل مكان المسجد الأقصى، وأن قدس الأقداس مكان مسجد قبة الصخرة. وأقاموا الحي اليهودي منذ عام 1968 في داخل البلدة القديمة. وبالتالي يعملون على تنفيذ مخططاتهم لتهويد القدس القديمة بما فيها من المقدسات العربية الإسلامية والمسيحية.
وتغلق سلطات الاحتلال أبواب المسجد الأقصى أمام المصلين، وتعتدي الشرطة الإسرائيلية على المعتكفين والمصلين الذين تسمح لهم بالصلاة فيه بالرصاص والقنابل. وتعمل على دعم الجماعات اليهودية المتطرفة التي تقتحم ساحة الأقصى يومياً وتعتدي على حرية العبادة لأبناء شعبنا العربي الفلسطيني.
يناقش الكنيست حالياً مشروع قرار يعطي اليهود حق الصلاة في ساحة المسجد الأقصى، والتقسيم الزماني والمكاني للقيام بطقوس تلمودية ثلاث مرات يومياً كما فعلت دولة الاحتلال في المسجد الإبراهيمي في الخليل.
إن الهيكل المزعوم خرافة توراتية وأطماع وأكاذيب صهيونية تفتّق عنها عقول دهاقنة الاستعمار الاستيطاني اليهودي العنصري والإرهابي، ولا وجود له على الإطلاق لا في التاريخ ولا في علم الآثار، ولا على أرض الواقع، حيث أكد عالم الآثار الإسرائيلي “إسرائيل فلكنشتاين” أن علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية وأثرية تدعم القصص الواردة في التوراة بما فيها قصة هيكل سليمان، وأنه لا يوجد أساس أو شاهد أو إثبات تاريخي على وجود الملك داوود الذي زعم الصهاينة أنه اتخذ من القدس عاصمة له.
حدد مجلس الأمن الدولي الوضع القانوني لمدينة القدس الشرقية بأنها منطقة محتلّة، وأن إعلان إسرائيل ضمها غير قانوني ومخالف للقوانين والقرارات الدولية، ووجوب الانسحاب منها، وإزالة جميع الإجراءات الجغرافية والديمغرافية التي اتخذتها دولة الاحتلال، واعتبرها غير شرعية لاغية وباطلة.
إن عروبة القدس جوهر قضية فلسطين، ومفتاح الحرب والسلام في المنطقة، وهي التحدي الأساسي للعرب والمسلمين، لذلك يجب وضعها في أعلى سلم الأولويات والإبقاء على خيار المقاومة وتسليح الضفة الغربية واندلاع انتفاضة ثالثة، فالصراع على فلسطين والقدس صراع وطني وقومي وديني وقانوني، لذلك لا تملك جامعة الدول العربية ولا مؤتمرات القمة العربية ولا قيادة منظمة التحرير الفلسطينية حق التنازل عنها أو عن ذرة من ترابها المقدس، أو التفريط في عروبتها. ولا حل على الإطلاق في القدس إلاّ باستعادة المدينة لهويتها العربية الإسلامية، ونزع الهوية اليهودية التي عمل الاحتلال الإسرائيلي على فرضها، واستعادة السيادة العربية الكاملة غير المنقوصة عليها.
وهي بمثابة القلب لفلسطين وللعرب والمسلمين، وعاصمتهم الأبدية إلى يوم القيامة.
إن الواجب الوطني والقومي والديني يفرض علينا جميعاً الالتزام بالتمسك في عروبتها ورفض المساعي الصهيونية والغربية لتهويدها وتهويد المسجد الأقصى، ورفض كل أشكال التطبيع والتعايش مع الاستعمار الاستيطاني العنصري والإرهابي، الغريب على المنطقة والدخيل عليها والمعادي لشعوبها.
نحن اليوم بأمسِّ الحاجة إلى حراك شعبي عربي إسلامي وعالمي مستمر لإنقاذ المسجد الأقصى من التدمير والتهويد قبل فوات الأوان. فالمسجد الأقصى يمثل هوية فلسطين العربية والإسلامية بقرار رباني، لذلك لا يجوز للجنة إنقاذ القدس وجامعة الدول العربية وآل سعود وثاني ونهيان التخاذل في الدفاع عنه لقاء كسب رضى الولايات المتحدة واليهودية العالمية والمحافظة على كراسيهم ومناصبهم وامتيازاتهم.
إن أعمال الحفر والهدم وبناء الأحياء والمستعمرات اليهودية داخل البلدة القديمة من القدس بما فيها حي الشيخ جراح وباب العامود في مكان يعتبره مليار ونصف المليار نسمة من أقدس مقدساتهم أمر خطير جداً واستفزاز وإذلال بالغ الحساسية قد تترتب عليه نتائج كارثية للمنطقة وللعالم أجمع.
فكل قرار أو إجراء يمس السيادة الفلسطينية عليها وهويتها العربية والإسلامية قرار باطل ولاغ مهما طال الزمن وغلا الثمن.
د.غازي حسين