إلى القوى السياسية في مصر 2 من2- منير شفيق
الجزء الثاني
على أن الأسئلة التي تتجاوز الخلاف المذكور فأهمها كيفية معالجة الأزمة التي أُشيرَ إليها بين النظام والإخوان، أو في الأدق بين النظام ومعارضيه؟، أو السؤال الذي يواجه الإخوان والمعارضة هو: ما هي الاستراتيجية التي يمكنها أن تُواجِه استراتيجية النظام الذاهبة إلى البطش بالإخوان وتصفيتهم، وقمع المعارضة؟، فالبعض اعتبره نظاماً انقلابياً عسكرياً شمولياً (ولو كان الغطاء حراكاً جماهيرياً مليونياً)، والبعض أخذ عليه سلبيات كثيرة في سياساته الداخلية الاقتصادية والمعيشية بالنسبة إلى جماهير الشعب. وهنالك من يأخذ عليه سياساته في محاصرة غزة والعلاقات بالكيان الصهيوني، لا سيما كما تبّدت خلال حرب الـ51 يوماً وما بعدها حتى الآن. وهنالك من أنصاره من انتقدوه لمشاركته التحالف مع السعودية في اليمن. وأخيراً وليس آخراً، ثمة من يأخذ عليه افتقاره لاستراتيجية عربية متماسِكة ومبادِرة إن لم يلحظ ضعفاً وارتباكاً في سياساته عربياً.
وبعد، فإجابة عن سؤال الاستراتيجية: أولاً، هل الاستراتيجية الأنسب أن تحمل هدف إسقاط النظام وعدم مساومته، أي تكرار ثورة يناير التي نادت بإسقاط النظام وأطاحت برئيسه. وكانت استراتيجيتها التظاهر السلمي إلى حد العصيان العام والثورة الشعبية المليونية؟.
إن نجاح هذه الاستراتيجية تم بسبب توفّر ظرف وموازين قوى عالمية وإقليمية وعربية مواتية، كما توفر له داخلياً شيخوخة النظام وتبعيته لأمريكا، وتناقض رئيسه مع الجيش بسبب التوريث. فالثورة نجحت بإنزال الهزيمة ميدانياً بالجهاز الأمني. ولكن الجيش انضم لها بعد ذلك مما أسرع ويسّر لنجاح هذه الاستراتيجية. فالشرط الداخلي الذي توفر لثورة يناير غير متوفر في مواجهة السيسي، الذي يتمتع بدعم الجيش والأجهزة الأمنية والقضاء والإعلام، ويحظى بدعم شعبي لم يحظ بمثله حسني مبارك. وذلك بالرغم مما يمكن أن يُسجّل عليه من سلبيات ومظاهر ضعف.
إن تجربة الشعب مع النظام الجديد ما زالت في بداياتها. ولم تصل إلى حد اليأس التام منه. فما يمكن أن تسجله المعارضة من سلبيات لا يرقى إلى جنوح الشعب إلى الثورة.
كما أن الدعم العربي النظامي للنظام والتصدي لكل محاولة تغيير شعبي، يختلفان عن الوضع الذي عرفته ثورة يناير، حيث أُخِذَت الأنظمة على حين غفلة، ولم تكن لها تجربة سابقة في مواجهة ثورة شعبية شبابية، كما هو حالها الآن في أكثر من بلد عربي يُواجِه ما يشبه الحرب الأهلية، كما لم يكن للشعب تجربة قاسية مع ما يجري الآن من فتن وكوارث وأخطار الانقسامات. وكذلك الحال مع الموقف الدولي، إذ تعلّم بدوره ولم يعد من السهل أخذه على حين غرّة.
طبعاً لا يعني هذا أن استراتيجية من نمط الثورتين المصرية والتونسية 2011 سقطت من الاعتبار، أو أنها لم تعد قابلة للتكرار ضمن ظروف جديدة. بل العكس هو الصحيح، فهذه استراتيجية يجب أن تظل حاضرة، ولكن ليس بصورة تلقائية، أو بناء على الإرادوية والرغبوية، وإنما ضمن شروط قد يحتاج توفرها إلى آماد طويلة أو متوسطة. ولكن ليست قصيرة أو قريبة قطعاً. ولن تكون تكراراً بليداً لما توفرّ من شروط لثورة يناير 2011.
وهنا ينطبق المثل القائل “من قطف الثمر قبل أوانه عوقِبَ بحرمانه”.
ثانياً: أما استراتيجية اللجوء إلى السلاح فأخطر ما يمكن ارتكابه، لا سيما إذا جاءت نتيجة لما تواجهه الحركة أو الشعب من قمع أو مجازر أو حتى خيانات أو كفر. فالغضب هنا أو عقلية الانتقام السريع أو ما يسمّى الدفاع عن النفس طُرُق للكوارث والدمار.. كيف؟
ذلك لأن اللجوء إلى السلاح أو العنف يجب ألاّ يكون إلاّ عبر حسابات دقيقة تنتهي بالنصر. فالسلاح ضد جيش وأجهزة أمنية موّحدة ومتماسكة وضدّ نظام لم يصل حدّ الشيخوخة والخور أو التفسّخ، طريق للفتنة وسفك الدماء والفوضى والخسران. ثم هنالك موقف الشعب إذا لم يكن مستعداً إلى اللجوء إلى السلاح. ومن ثم تصبح المعركة بين تنظيم وجيش ومصيرها فشل التنظيم. طبعاً هذا أو ذاك لا ينطبقان في حالة مواجهة احتلال خارجي، لأن قوانينه غير قوانين الحروب الأهلية.
هذا ما أجمعت عليه التجارب التاريخية والتجارب المعاصرة على مستوى عالمي. وقد أكد على عدم اللجوء إلى السلاح في غير أوانه ومكانه وموازين قوى وظروف محدّدة، كل المنظرين الثوريين الكبار. وهو ما أخذ به التاريخ الفقهي في التجربة العربية، عدا في تجربة الحسين رضي الله عنه، الذي أراد أن يصنع القدوة لا أن ينتصر بالسيف في حينه. وقد علم من هو وماذا يعني استشهاده. أما ما عداه فلا ينطبق عليه مَثَله وقدوته.
وقد ذهب المنظرون الماركسيون إلى حد تجريم القيادة التي تلجأ إلى السلاح في غير أوانه. لأنها ستكون مدمرة ومخرِّبة وبغض النظر عن النيات أو الثورية. وهو تنظير نابع من تجارب عملية قاسية غرقت بالدماء، وانتهت بكوارث ولم تحقق الهدف.
ففي الموضوع المصري الراهن يشكل اللجوء إلى السلاح طريقاً للهاوية والكارثة، ولا تنفع النيات- مهما خلصت. ولا مسوّغ مهما بلغ الظلم حتى لو بلغ السيل الزبى، أو بلغ الإعدامات الإجرامية الهوجاء.
ثالثاً: أما في المقابل فإن أيّة استراتيجية تنبع من روح استسلامية. وقد فقدت الصبر والقدرة على الاحتمال، وضاق نفسها فراحت تخضع للشروط التي يفرضها النظام، فلا تقل كارثية من الناحية السياسية والوطنية والعروبية والإسلامية. ولكنها أقل كارثية من ناحية الدماء والعذابات فقط. ومن ثم لا يصحّ اللجوء إليها مهما بلغ البطش والظلم كذلك. هنا يجب أن يتغلب الصبر والنفس الطويل والنضال المثابر المفكر به جيداً، والذي يندمج مع الشعب ويعبّر عن مشكلاته الكبرى. ويجعل قضية الشعب والأمة قضيته وليس العكس.
والبديل الاستراتيجي هنا هو حمل الأهداف التي أرادت ثورة يناير تحقيقها، ونسيان موضوع الشرعية التي أجهضت وأصبحت من الماضي. لأن تلك الشرعية في الظرف المصري انقسم الشعب حولها، سواء أكان ذلك بحق أو بلا حق. ومن ثم لا يمكن أن يواجه أو يقاوم العهد القائم بالانقسام الشعبي وتكريسه، وإنما بإعادة بناء وحدة شعبية جديدة ضمن الشعارات التي اتفق عليها كل الحريصين على ثورة يناير. وذلك لتتحد مرة أخرى كل القوى التي صنعت ثورة يناير شعباً وجيشاً ومكوّنات اجتماعية.
فأشكال النضال التي يجب أن تُتَّبَع يجب أن تبدأ بالصمود والاستعداد للتضحية، وعدم الرضوخ لوضع أصبح الشعب يتأذى منه، وليس لأنه يقمع الإخوان. فقضيته مع الإخوان يجب ألاّ تكون المحرك للموقف وللسياسة إزاء النظام أو للاستراتيجية. فالهدف يجب أن يكون من أجل مصر ورفعتها ونهضتها.. من أجل شعبها ووحدته وتلبية تطلعاته الأساسية، ومن بينها الحرية والخبز والعدالة الاجتماعية وقضية فلسطين والوحدة العربية. ومن ثم تحل مشكلة الإخوان من خلال التفاهم على ذلك.
أما سقف هذا النضال (الاستراتيجية) فهي حدوث التغيير، من خلال رأي عام شامل ينزل إلى الشوارع في نهاية المطاف لتحقيق مطالبه كما حدث في ثورة يناير، ولو طال الانتظار، ولكن دون أن يغلق باب المصالحة ووقف نزف الدماء. لأن الوضع لا يحتمل الحرب الأهلية، ولا يحتمل استمرار الأزمة الحالية، وإنما يجب السعي للوحدة الداخلية الشاملة، من خلال مصالحة وإجماع وطني على ثوابت في السياسة الداخلية والخارجية.
هذا من جانب قوى المعارضة، أما من جانب عبد الفتاح السيسي ونظامه، وأساساً من جانب الجيش المصري، فإن سيادة نظرية الحل الأمني للأزمة داخل مصر، فينطبق عليه من حيث نتائجه الكارثية ما ينطبق على اللجوء إلى السلاح ضدّه. فمصر بعد ثورة يناير المجيدة لم تعد تحتمل نظاماً أمنياً يعتمد القوة لِكَمّ الأفواه ومخاطبة المعارضة. والدليل ما تشهده الجامعات منذ سنة من حراكات شبابية. كما انتقال الكثيرين من الموالاة إلى المعارضة أو العزوف عن الكلام.
فالذي فعلته ثورة يناير إلى جانب إنجازها الأول بالإطاحة بنظام حسني مبارك، كان إطلاقها لكل القوّة الكامنة داخلها. فالحيوية والشجاعة دبّتا في شرايين الشعب في مصر. وهو ما يجب أن يدركه كل من لا يستطيع إلاّ التفكير بالحل الأمني، وإقامة النظام الأمني مهما ساق من مسوّغات. فالبحث عن التوافق وشبه الإجماع الشعبي والمجتمعي يجب أن يكون هدفاً يسعى إليه الرئيس السيسي، كما كل المكوّنات الأساسية والسياسية، كما الجيش والأجهزة الأمنية والقضاء والدولة. أما ما عدا ذلك فطريق إلى الفوضى والكوارث والخراب.
فجميع القوى الأساسية والحريصة على الأهداف العليا لمصر: للشعب وللدولة أو للدولة وللشعب، أن يجنح للبحث عن التفاهمات التي تحقق الحدود الدنيا المقبولة أولاً، ثم الارتفاع بذلك أعلى فأعلى، وصولاً إلى الأمة لعربية كلها.
ما يعلنه الجميع تقريباً (عدا الفلول)، أو أقل ابتداء من الرئيس عبد الفتاح السيسي والجيش المصري، وانتهاء بالإخوان المسلمين، ومروراً بالأزهر والكنيسة القبطية وبالقوى السياسية الحيّة المؤيدة والمعارضة في أغلبها، الجميع تقريباً يعلن تأييده لثورة يناير وأهدافها (طبعاً مع تباين في التفاصيل وفي الأولويات والمحتوى).
من هنا يمكن أن تكون البداية: الانطلاق من أهداف ثورة يناير أو محاولة التفاهم حولها. مما يسمح بداية بتخلي الإخوان عن شعار عودة الشرعية (مرسي)، وإسقاط انقلاب 3 يوليو، كما يسمح بتخلي عبد الفتاح السيسي عن سياسات إقصاء الإخوان المسلمين وتصفيتهم. ومن ثم عودة الطرفين ومَنْ بينهما من قوى سياسية إلى حوار وتفاهمات. وذلك على مستوى النظام الداخلي كما السياسة الخارجية.
آفة ما يمكن أن يتلبّس العقول كل العقول، هو صراعات الماضي وما حملته وما زالت تحمله من آلام وجراح وضغائن. والقانون هنا من كان في حفرة، فإن أول ما يجب أن يفعله هو ألاّ يحفر. الأمر الذي يقتضي عدم العيش في الماضي وما يتملكنا من آثاره. ومن ثم التفكير في الخروج من الحفرة، فنكون أبناء الحاضر وبناة المستقبل. وإلاّ كل ما نفعله فهو حفر يعمّق الحفرة… الأزمة- المأزق – الفتنة – الحرب الأهلية.
وما قيل ويُقال هنا في مصر ينطبق، ودعك من التفاصيل، على كل بلداننا العربية الآن.
عارضة. فالبعض اعتبره نظاماً انقلابياً عسكرياً شمولياً (ولو كان الغطاء حراكاً جماهيرياً مليونياً)، والبعض أخذ عليه سلبيات كثيرة في سياساته الداخلية الاقتصادية والمعيشية بالنسبة إلى جماهير الشعب. وهنالك من يأخذ عليه سياساته في محاصرة غزة والعلاقات بالكيان الصهيوني لا سيما كما تبّدت خلال حرب الـ51 يوماً وما بعدها حتى الآن. وهنالك من أنصاره من انتقدوه لمشاركته التحالف مع السعودية في اليمن. وأخيراً وليس آخراً ثمة من يأخذ عليه افتقاره لاستراتيجية عربية متماسِكة ومبادِرة إن لم يلحظ ضعفاً وارتباكاً في سياساته عربياً.
وبعد، فإجابة عن سؤال الاستراتيجية: أولاً هل الاستراتيجية الأنسب أن تحمل هدف إسقاط النظام وعدم مساومته أي تكرار ثورة يناير التي نادت بإسقاط النظام وأطاحت برئيسه. وكانت استراتيجيتها التظاهر السلمي إلى حد العصيان العام والثورة الشعبية المليونية.
إن نجاح هذه الاستراتيجية تم بسبب توفّر ظرف وموازين قوى عالمية وإقليمية وعربية مؤاتية، كما توفر له داخلياً شيخوخة النظام وتبعيته لأمريكا وتناقض رئيسه مع الجيش بسبب التوريث. فالثورة نجحت بإنزال الهزيمة ميدانياً بالجهاز الأمني. ولكن الجيش انضم لها بعد ذلك مما أسرع ويسّر لنجاح هذه الاستراتيجية. فالشرط الداخلي الذي توفر لثورة يناير غير متوفر في مواجهة السيسي الذي يتمتع بدعم الجيش والأجهزة الأمنية والقضاء والإعلام ويحظى بدعم شعبي لم يحظ بمثله حسني مبارك. وذلك بالرغم مما يمكن أن يُسجّل عليه من سلبيات ومظاهر ضعف.
إن تجربة الشعب مع النظام الجديد ما زالت في بداياتها. ولم تصل إلى حد اليأس التام منه. فما يمكن أن تسجله المعارضة من سلبيات لا يرقى إلى جنوح الشعب إلى الثورة.
كما أن الدعم العربي النظامي للنظام والتصدي لكل محاولة تغيير شعبي يختلفان عن الوضع الذي عرفته ثورة يناير حيث أُخِذَت الأنظمة على حين غفلة، ولم تكن لها تجربة سابقة في مواجهة ثورة شعبية شبابية، كما هو حالها الآن في أكثر من بلد عربي يُواجِه ما يشبه الحرب الأهلية، كما لم يكن للشعب تجربة قاسية مع ما يجري الآن من فتن وكوارث وأخطار الانقسامات. وكذلك الحال مع الموقف الدولي إذ تعلّم بدوره ولم يعد من السهل أخذه على حين غرّة.
طبعاً لا يعني هذا أن استراتيجية من نمط الثورتين المصرية والتونسية 2011 سقطت من الاعتبار أو أنها لم تعد قابلة للتكرار ضمن ظروف جديدة. بل العكس هو الصحيح فهذه استراتيجية يجب أن تظل حاضرة ولكن ليس بصورة تلقائية، أو بناء على الإرادوية والرغبوية، وإنما ضمن شروط قد يحتاج توفرها إلى آماد طويلة أو متوسطة. ولكن ليست قصيرة أو قريبة قطعاً. ولن تكون تكراراً بليداً لما توفرّ من شروط لثورة يناير 2011.
وهنا ينطبق المثل القائل “من قطف الثمر قبل أوانه عوقِبَ بحرمانه”.
ثانياً: أما استراتيجية اللجوء إلى السلاح فأخطر ما يمكن ارتكابه لا سيما إذا جاءت نتيجة لما تواجهه الحركة أو الشعب من قمع أو مجازر أو حتى خيانات أو كفر. فالغضب هنا أو عقلية الانتقام السريع أو ما يسمّى الدفاع عن النفس طُرُق للكوارث والدمار. كيف؟
ذلك لأن اللجوء إلى السلاح أو العنف يجب ألاّ يكون إلاّ عبر حسابات دقيقة تنتهي بالنصر. فالسلاح ضد جيش وأجهزة أمنية موّحدة ومتماسكة وضدّ نظام لم يصل حدّ الشيخوخة والخور أو التفسّخ طريق للفتنة وسفك الدماء والفوضى والخسران. ثم هنالك موقف الشعب إذا لم يكن مستعداً إلى اللجوء إلى السلاح. ومن ثم تصبح المعركة بين تنظيم وجيش ومصيرها فشل التنظيم. طبعاً هذا أو ذاك لا ينطبقان في حالة مواجهة احتلال خارجي لأن قوانينه غير قوانين الحروب الأهلية.
هذا ما أجمعت عليه التجارب التاريخية والتجارب المعاصرة على مستوى عالمي. وقد أكد على عدم اللجوء إلى السلاح في غير أوانه ومكانه وموازين قوى وظروف محدّدة كل المنظرين الثوريين الكبار. وهو ما أخذ به التاريخ الفقهي في التجربة العربية، عدا في تجربة الحسين رضي الله عنه الذي أراد أن يصنع القدوة لا أن ينتصر بالسيف في حينه. وقد علم من هو وماذا يعني استشهاده. أما ما عداه فلا ينطبق عليه مَثَله وقدوته.
وقد ذهب المنظرون الماركسيون إلى حد تجريم القيادة التي تلجأ إلى السلاح في غير أوانه. لأنها ستكون مدمرة ومخرِّبة وبغض النظر عن النيات أو الثورية. وهو تنظير نابع من تجارب عملية قاسية غرقت بالدماء، وانتهت بكوارث ولم تحقق الهدف.
ففي الموضوع المصري الراهن يشكل اللجوء إلى السلاح طريقاً للهاوية والكارثة ولا تنفع النيات. مهما خلصت. ولا مسوّغ مهما بلغ الظلم حتى لو بلغ السيل الزبى: أو بلغ الإعدامات الإجرامية الهوجاء.
ثالثاً: أما في المقابل فإن أيّة استراتيجية تنبع من روح استسلامية. وقد فقدت الصبر والقدرة على الاحتمال، وضاق نفسها فراحت تخضع للشروط التي يفرضها النظام فلا تقل كارثية من الناحية السياسية والوطنية والعروبية والإسلامية. ولكنها أقل كارثية من ناحية الدماء والعذابات فقط. ومن ثم لا يصحّ اللجوء إليها مهما بلغ البطش والظلم كذلك. هنا يجب أن يتغلب الصبر والنفس الطويل والنضال المثابر المفكر به جيداً والذي يندمج مع الشعب ويعبّر عن مشكلاته الكبرى. ويجعل قضية الشعب والأمة قضيته وليس العكس.
والبديل الاستراتيجي هنا هو حمل الأهداف التي أرادت ثورة يناير تحقيقها ونسيان موضوع الشرعية التي أجهضت وأصبحت من الماضي. لأن تلك الشرعية في الظرف المصري انقسم الشعب حولها، سواء أكان ذلك بحق أو بلا حق. ومن ثم لا يمكن أن يواجه أو يقاوم العهد القائم بالانقسام الشعبي وتكريسه وإنما بإعادة بناء وحدة شعبية جديدة ضمن الشعارات التي اتفق عليها كل الحريصين على ثورة يناير. وذلك لتتحد مرة أخرى كل القوى التي صنعت ثورة يناير شعباً وجيشاً ومكوّنات اجتماعية.
فأشكال النضال التي يجب أن تُتَّبَع يجب أن تبدأ بالصمود والاستعداد للتضخية وعدم الرضوخ لوضع أصبح الشعب يتأذى منه وليس لأنه يقمع الإخوان. فقضيته مع الإخوان يجب ألاّ تكون المحرك للموقف وللسياسة إزاء النظام أو للاستراتيجية. فالهدف يجب أن يكون من أجل مصر ورفعتها ونهضتها من أجل شعبها ووحدته وتلبية تطلعاته الأساسية ومن بينها الحرية والخبز والعدالة الاجتماعية وقضية فلسطين والوحدة العربية. ومن ثم تحل مشكلة الإخوان من خلال التفاهم على ذلك.
أما سقف هذا النضال (الاستراتيجية) فهي حدوث التغيير من خلال رأي عام شامل ينزل إلى الشوارع في نهاية المطاف لتحقيق مطالبه كما حدث في ثورة يناير، ولو طال الانتظار، ولكن دون أن يغلق باب المصالحة ووقف نزف الدماء. لأن الوضع لا يحتمل الحرب الأهلية، ولا يحتمل استمرار الأزمة الحالية، وإنما يجب السعي للوحدة الداخلية الشاملة من خلال مصالحة وإجماع وطني على ثوابت في السياسة الداخلية والخارجية.
هذا من جانب قوى المعارضة أما من جانب عبد الفتاح السيسي ونظامه، وأساساً من جانب الجيش المصري فإن سيادة نظرية الحل الأمني للأزمة داخل مصر فينطبق عليه من حيث نتائجه الكارثية ما ينطبق على اللجوء إلى السلاح ضدّه. فمصر بعد ثورة يناير المجيدة لم تعد تحتمل نظاماً أمنياً يعتمد القوة لِكَمّ الأفواه ومخاطبة المعارضة. والدليل ما تشهده الجامعات منذ سنة من حراكات شبابية. كما انتقال الكثيرين من الموالاة إلى المعارضة أو العزوف عن الكلام.
فالذي فعلته ثورة يناير إلى جانب إنجازها الأول بالإطاحة بنظام حسني مبارك، كان إطلاقها لكل القوّة الكامنة داخلها. فالحيوية والشجاعة دبّتا في شرايين الشعب في مصر. وهو ما يجب أن يدركه كل من لا يستطيع إلاّ التفكير بالحل الأمني، وإقامة النظام الأمني مهما ساق من مسوّغات. فالبحث عن التوافق وشبه الإجماع الشعبي والمجتمعي يجب أن يكون هدفاً يسعى إليه الرئيس السيسي كما كل المكوّنات الأساسية والسياسية كما الجيش والأجهزة الأمنية والقضاء والدولة. أما ما عدا ذلك فطريق إلى الفوضى والكوارث والخراب.
فجميع القوى الأساسية والحريصة على الأهداف العليا لمصر: للشعب وللدولة أو للدولة وللشعب، أن يجنح للبحث عن التفاهمات التي تحقق الحدود الدنيا المقبولة أولاً ثم الارتفاع بذلك أعلى فأعلى وصولاً إلى الأمة لعربية كلها.
ما يعلنه الجميع تقريباً (عدا الفلول)، أو أقل ابتداء من الرئيس عبد الفتاح السيسي والجيش المصري وانتهاء بالإخوان المسلمين، ومروراً بالأزهر والكنيسة القبطية وبالقوى السياسية الحيّة المؤيدة والمعارضة في أغلبها، الجميع تقريباً يعلن تأييده لثورة يناير وأهدافها (طبعاً مع تباين في التفاصيل وفي الأولويات والمحتوى).
من هنا يمكن أن تكون البداية: الانطلاق من أهداف ثورة يناير أو محاولة التفاهم حولها. مما يسمح بداية بتخلي الإخوان عن شعار عودة الشرعية (مرسي)، وإسقاط انقلاب 3 يوليو، كما يسمح بتخلي عبد الفتاح السيسي عن سياسات إقصاء الإخوان المسلمين وتصفيتهم. ومن ثم عودة الطرفين ومَنْ بينهما من قوى سياسية إلى حوار وتفاهمات. وذلك على مستوى النظام الداخلي كما السياسة الخارجية.
آفة ما يمكن أن يتلبّس العقول كل العقول هو صراعات الماضي وما حملته وما زالت تحمله من آلام وجراح وضغائن. والقانون هنا من كان في حفرة فإن أول ما يجب أن يفعله هو ألاّ يحفر. الأمر الذي يقتضي عدم العيش في الماضي وما يتملكنا من آثاره. ومن ثم التفكير في الخروج من الحفرة، فنكون أبناء الحاضر وبناة المستقبل. وإلاّ كل ما نفعله فهو حفر يعمّق الحفرة… الأزمة- المأزق – الفتنة – الحرب الأهلية.
وما قيل ويُقال هنا في مصر ينطبق، ودعك من التفاصيل، على كل بلداننا العربية الآن.