إلى لقاء قريب يا دمشق – رشاد أبو شاور
ثلاثة أعوام وستة أشهر وأنا بعيد عن دمشق، وهي القريبة، النابضة مع دقات القلب، والشوق لها، والقلق عليها، واللهفة للقياها تمض الروح…
ثلاثة أعوام وستة أشهر من الفراق! هذا كثير..كثير، وفوق الاحتمال، على من عرفها وهو فتى دون الخامسة عشرة، وعاش فيها شابا، وكهلاً…
هي ليست الأندلس لأحلم بها، أو أتفجع على خسرانها المبين، فهي قريبة إلى حد أنني أشم رائحة ياسمينها وأنا جالس في حوش بيتي في عمان…
هي قريبة وبيني وبينها قاطعوا الرؤوس، وحارقو الحقول، ومدمرو البيوت، ومهجرو الألوف من بيوتهم، وطاردوا النوم عن عيون الأطفال…
هي قريبة، حتى إنني عندما أتجه شمالاً في الأردن، أوشك أن اسمع آذان الجوقة التي تؤدي الآذان في المسجد الأموي في دمشق، بحزمة أصوات موسيقية ورعة تنشر التقى في فضاء دمشق، وهي الأصوات التي تربت أذني عليها، فأحبت الصوت الإنساني المفعم بالإيمان المتوارث على مدى مئات السنين.
فيها تربيت ونشأت منذ كنت في الرابعة عشرة وبضعة أشهر، وغادرتها وقد بلغت الثالثة والعشرين، لأعود إلى أريحا مدينة طفولتي الفلسطينية العريقة، بعد أن تفتح قلبي على الحب، وعقلي أترع بزاد ثقافي دمشقي، وبعد أن تعرّفت على الطريق المؤدي إلى فلسطين، وانتظمت في صفوف من أُعدّوا لأيام آتية بالتأكيد، فجيل الشتات الفلسطيني لن ينسى وطنه…
في الأشهر الأولى للأحداث التي عصفت بسورية واظبت على التردد إلى دمشق، وكانت الحراكات قد انتشرت من تونس إلى ليبيا ومصر واليمن… اعتدت التردد على دمشق والإقامة في مخيم اليرموك، حيث استأجرت بيتا متواضعا هناك، أقيم فيه مع أسرتي أحيانا، ووحدي أحيانا، لأتنقل بين عمان ودمشق على طريق لا يزيد عن مئتي كيلومتر إلاّ قليلاً، أقطعها عابرا الحدود في أقل من ثلاث ساعات، مالئا رئتي بهواء دمشق الذي يستقبلني في سهول حوران التي تحف بالطريق إلى دمشق، بين حقول يخصبها فلاحون نشطاء، يسرون من الصباح الباكر إلى حقولهم، ومزروعاتهم التي يعتنون بها بذورا ونباتات تثمر تحت نظرهم، ويجنون منها ما يقتاتون به، وما يصدرونه إلى دمشق التي تعيد تصديره إلى أسواق بعيدة في الخليج …
قُطعت الطريق، وبات السير عليها مغامرة غير مأمونة…
لكنني أعود إلى دمشق، والمناسبة انعقاد المؤتمر الثالث للجاليات والفعاليات الفلسطينية في الشتات _ أوربا، في دمشق عاصمة سورية المحاصرة برياح السموم والشر والهمجية، وفي هذا تحد، وفيه إعلان انتماء ووفاء، وفيه أنني دعيت كضيف على المؤتمر، وجل المشاركين أصدقاء أعتز بهم، من الدكتور راضي الشعيبي رئيس لجان الشتات، إلى أخوة لم ألتق بهم من قبل، وتعرّفت بهم في المؤتمر، الذي كان حدثا كبيرا في يومي انعقاده 29 و30 /11، بحجم الحضور، ونوعيتهم، وبهاء الافتتاح المهيب…
تهيأت للسفر وأنا أردد:
خافقي نحوها استثير فلبى
وثب الشوق بالجناحين وثبا
والحق أن خافقي سبق الطائرة المتجهة من مطار عمان الدولي إلى بيروت،والسيارة المتجهة من بيروت إلى دمشق عبر طريق عرفتها والفتها على مدى السنوات التي قضيتها في بيروت حتى الخروج عام 1982…
كان الصديق الإعلامي نضال حمد قد سبقني بالحضور من أوسلو العاصمة النرويجية ، وهو عضو أمانة عامة في جمعيات الشتات، لزيارة أهله في مخيم عين الحلوة جار مدينة صيدا العريقة، والإقامة ليومين قبل انعقاد المؤتمر، وقد حرص على تأمين سيارة واستقبلني في المطار، في ليلة مطرية عاصفة، سميّت (نانسي) تدليعا لها.
معا توجهنا برا بعد 48 ساعة إلى دمشق، لنلتقي بمن سبقونا من الأعضاء والمدعوين، وبعضهم يزورون دمشق للمرة الأولى، وقد حضروا للتضامن مع سورية، وإعلان الانحياز لها باسم تجمعات الفلسطينيين في الشتات، في عدّة بلدان أوربية، والتي تضم الألوف.
كنت أعرف، وأتوقع، أن أرى وجه دمشق حزينا، وأن أرى ألما وعتبا يفيض من عينيها، وهذا ما لمسته بدون جهد، ولكنني لم أتوقع هذه الحيوية، وهذه الحياة المتدفقة في شرايين دمشق ليلاً نهارا، فدمشق لا تنام ، تقريبا، حتى الفجر..وهذا ما أدهش ضيوفها المحبين.
الناس في حركة لا تنقطع، وكلهم يسعى لرزق عياله، ومنهم كثيرون فقدوا بيوتهم، واحترقت ممتلكاتهم، وتشردوا في مدينتهم!
كل شيء متوفر في دمشق، لكن الأسعار ارتفعت، وأجور البيوت (طارت)، والحياة باتت شاقة…
الدمشقيون جادون بطبعهم، وعمليون، ولكنهم يميلون للمرح، وروحهم فكهة، فهم تجّار، والتجارة شطارة، والشطارة فيها ود وأخذ وعطاء، وفيها ترحيب..ووداع لائق، فلا بد من اجتذاب الوافد إلى دمشق ليعود إليها…
قوّة الحياة: هذه هي الجملة التي تلخص حياة الدمشقيين اليومية…
قوة الحياة هو رد دمشق على الإرهاب والقتل، والتدمير، والتآمر، والغدر، وسقوط الساقطين والمتاجرين…
قوة الحياة: سر روح دمشق، وعظمتها، وبسالتها، فهي تترك الإرهابيين على هامشها يتلمظون شبقا، ليموتوا كمدا، وشهوة،، فهي ليست دانية لهم، ولمن يمولونهم ويسلحونهم…
عدت مساء الخميس 4 من هذا الشهر في رحلة لطائرة الخطوط السورية من دمشق إلى عمان في أربعين دقيقة، بعد ثمانية أيام مرّت كلمح البصر.
التقيت بأصدقاء، منهم صديقي الروائي الدكتور حسن حميد، والإعلامي محمد عادل الذي غامر بالذهاب بي بسيارته المتواضعة إلى حدود قصوى في محيط دمشق مغامرا بي وبنفسه، وعلمت بموت بعض الأحبة، وزرت أحياء دمشق العريقة، وتلوت الفاتحة عند أسوار الجامع الأموي على أرواح شهداء فلسطين وسورية والمقاومة اللبنانية، وأكلت حلوى دمشقية ، وتنفست بعمق ياسمينها، وسلّمت على قاسيون رافعا رأسي إليه ، هو الشامخ الذي يحتضن دمشق العريقة قلب العروبة النابض…
إلى لقاء قريب يا دمشق، وقد نفضت عنك غلالة الأيام السوداء، وعادت الابتسامة الياسمينية إلى وجهك العربي النبيل الجميل، وإلى أطفالك الملائكة…
إلى لقاء قريب يا دمشق – رشاد أبو شاور