إلى محامٍ عتيق… مع التحيّة – بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
قبل نحو عشرة أشهر ويزيد، كان زميلي قد لجأ إلى محكمة العدل العليا، طاعناً في قرار تعسفي قضى بفصله فصلاً نهائياً، ومطالباً في الوقت ذاته بإصدار القرار القطعي بإلغاء ذلك القرار مع إصدار القرار المؤقت بوقف تنفيذ قرار فصله وتمكينه من عمله كالمعتاد لحين البتّ النهائي في طلبه الأصلي.
وقبل نحو ثمانية أشهر ويزيد، كانت المحكمة قد أصدرت لصالح زميلي المتظلم لها قراراً مؤقتاً يقضي بـ”وقف تنفيذ قرار فصله وتمكينه من عمله لحين البتّ النهائي” في مظلمته..
ما كان مفاجئاً- وإلى أبعد حد- هو أن صديقي المحامي الوكيل للمؤسسة المشتكى عليها قد رفع إلى المحكمة ذاتها مظلمة المؤسسة التي وكلته عنها في شكايتها بصفتها “مستدعية”، هذه المرة، ضد زميلي الذي أصبح بكيد المستدعية وغيظها وفذلكة وكيلها مشتكى عليه ومستدعى ضده. كانت المظلمة التي عبّر عنها صديقي المحامي الوكيل للمستدعية ضد زميلي قد طالبت محكمة العدل العليا بإلغاء قرارها المؤقت الذي قضى بـ”وقف تنفيذ قرار فصل المستدعى (زميلي الذي تحوّل من مستدعٍ إلى مستدعى ضده!!!) مع تمكينه من عمله لحين البت النهائي في الطلب الأصلي”، ناسياً أو متناسياً، جاهلاً أو متجاهلاً أن ما يصدر عن محكمة العدل العليا من قرارات إنما هي قرارات لا ترد، ولا يطعن فيها، ولا يستأنف عليها.
سبحان رب الكون والعلم الذي علم الإنسان ما لم يعلم! أهكذا يجرؤ صديقي المحامي، عظيم الخبرة واسع الدربة والتجربة، على أن يطعن لدى محكمة العدل العليا في قرار كانت قد أصدرته، مطالباً إياها بردّه؟ أيخطر ببال محامٍ ذي خبرة طويلة، مع دربة واسعة- كما يفترض وكما ينبغي- أن يطعن في قرار محكمة وصفها القانون بأنها المحكمة التي لا يرد قرارها، ولا يطعن فيه، ولا يستأنف عليه؟!
صديقي المحامي الذي يظن أنه لا يشق له في سعة علمه بالقانون وممارسة الدفاع والمرافعة والمحاماة غبار، والذي طعن في قرار محكمة العدل العليا وهو يعلم- وربما لا يعلم- أن هذه هي محكمة قرارها لا يردّ ولا يطعن فيه ولا يستأنف عليه، يقول بأن القرار الذي صدر لزميلي لو كان قطعياً لتمّ الالتزام به ولجرى تنفيذه، غير أن القرار بما أنه كان مؤقتاً، فإن المحكوم عليه، بمقتضاه، لن يكون- البتّة- في وارد تنفيذه، ناسياً أو متناسياً، جاهلاً أو متجاهلاً، أن القرار المؤقت الصادر عن محكمة العدل العليا في شأن وقف تنفيذ القرار الإداري لحين البت في الطلب الأصلي، إنما هو قرار واجب نفاذه، فيما وجوبه مشمول بالنفاذ المعجّل.
وعليه، فهلّا ينتفع صديقي المحامي من حيثياتٍ لسوابق قضائية قضت بوقف تنفيذ القرارات الإدارية النهائية بقرارات مؤقّتة، أورد بعضاً منها، على سبيل المثال لا الحصر، كنماذج بغية الانتفاع منها:
-
إن “طلب وقف التنفيذ يقوم على ركنين: الأول قيام الاستعجال بأن يترتب على تنفيذه نتائج يتعذر تداركها والثاني يتصل بمبدأ المشروعية، بأن يكون ادعاء الطلب في هذا الشأن قائماً على أسباب جدية”، كما جاء في حكم المحكمة الإدارية العليا المصرية بتاريخ 18/4/1964.
-
إن “مناط عنصر الاستعجال في طلب إيقاف تنفيذ قرار إداري، هو الضرر الذي يمكن أن يلحق بالمركز القانوني للطاعن والذي لا يمكن تداركه في المستقبل لو تم تنفيذ القرار”، كما قالت محكمة الاستئناف الإدارية في الرباط في حيثيات حكم لها في 10/1/2007.
-
إنّ “المشرّع إذ خوّل القضاء الإداري صلاحية وقف تنفيذ القرارات الإدارية المطعون فيها بالإلغاء، إنّما استهدف تلافي النتائج الخطيرة التي قد تترتب على تنفيذها”، كما قضت المحكمة الإدارية العليا المصرية في حكم لها بتاريخ 22/5/1964،
-
“يجوز للمحكمة أن تأمر بتوقيف تنفيذ القرار مؤقتاً إذا رأت أن نتائج التنفيذ قد يتعذر تداركها”، كما جاء في المبادئ القانونية التي أوردتها محكمة العدل العليا برام الله في حكمها في القضية رقم 71/1999 بتاريخ 6/12/1999.
-
“للمحكمة الإدارية أن تأمر بوقف تنفيذ قرار إداري رفع إليها طلب يهدف إلى إلغائه، إذا التمس ذلك منها طالب الإلغاء صراحةً… وكان طلب وقف التنفيذ يرتبط جذرياً بدعوى الإلغاء”، كما جاء في المادة (24) من القانون المحدّث للمحاكم الإدارية في الرباط.
-
“يكون الحكم القاضي بإيقاف تنفيذ القرار الإداري قابلاً للتنفيذ بمجرد صدوره بقوة القانون، كما قضت بذلك محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط في 27/12/2006.
أما الدفع الذي أتى به صديقي المحامي، ضد زميلي المفصول ظلماً وعسفاً والحاصل على حكم مؤقت يقضي بوقف تنفيذ قرار فصله لحين البتّ النهائي في طلبه، قائلاً “إنّ قرار وقف تنفيذ قرار الفصل (الصادر بحقّ زميلي) لا يتمّ في القرار المؤقت”، فهو- مع أبلغ الأسف وأشدّه- دفع لا يتناسب، البتة، مع محامٍ أمضى في الدفاع والمحاماة والمرافعة ما يزيد عن أربعة عقود، حيث يرتكب بذلك خطأ جسيماً، إذ نراه يميّز بين القرار القطعي والقرار المؤقت من حيث النفاذ، وذلك خلافاً لما استقر عليه القضاء الإداري الذي عبّرت عنه المحكمة الإدارية العليا المصرية في حيثيات حكم لها بتاريخ 5/11/1955، قائلةً: “إن رقابة القضاء الإداري للقرارات الإدارية في مجال وقف تنفيذها، أو في مجال إلغائها هي رقابة قانونية تسلطها في الحالتين على هذه القرارات لتتعرف مدى مشروعيتها من حيث مطابقتها للقانون نصاً وروحاً…. فالرقابة في الحالتين تجد حدها الطبيعي عند مشروعية أو عدم مشروعية القرار طبقاً للقانون، والفارق بينهما منحصر في أثر الحكم: هذا يوقف تنفيذ القرار مؤقتاً لحين الفصل في طلب الإلغاء، وذلك يعدمه إذا قضى بإلغائه، فليس لمحكمة القضاء الإداري في صدد وقف تنفيذ القرار الإداري رقابة تختلف في حدودها عن تلك الرقابة القانونية، بل النشاطان متماثلان في الطبيعة وإن اختلفا في الرتبة، إذ مردهما في النهاية إلى مبدأ المشروعية، تلك تسلطه على القرارات الإدارية سواء في مجال وقف تنفيذها أو إلغائها، وهذه تسلطه عليها في الحالتين ثم على الأحكام”. وقد جاء في حكم للمحكمة الإدارية العليا المصرية في 5/11/1955 أن “الحكم بوقف تنفيذ القرار الإداري، وإن كان حكماً مؤقتاً (بمعنى أنه لا يقيد المحكمة عند نظر أصل طلب الإلغاء)، إلا أنه حكم قطعي وله مقومات الأحكام وخصائصها ويحوز قوة الشيء المقضي به في الخصوص الذي صدر فيه… وهكذا يكون الحكم الصادر بوقف التنفيذ مشمولاً بالنفاذ المعجل بقوة القانون، ويعتبر من الأحكام القطعية والمؤقتة، وهو بذلك لا يقيد المحكمة عند الفصل في دعوى الإلغاء، بمعنى أنه لا يقضي بصفة تلقائية بإلغاء القرار الإداري المحكوم بوقف تنفيذه.
هذا، وإن أكثر ما أثار الدهشة السلبية عندي أن أرى هذا المحامي العتيق، وهو يراوغ ويماطل ويمطمط في تأجيل الجلسات، ناسياً أو متناسياً، جاهلاً أو متجاهلاً، ما كان قد عَلِمَه أو علّمه أو تعلّمه عن القضاء الإداري ومقتضى أحكامه التي تقضي بوقف تنفيذ القرارات الإدارية، وذلك انطلاقاً من قاعدة شرعية مفادها أن “دفع الضرر مقدم على جلب النفع”، وحمايةً لحقوق المتضررين الذين يُخشى أن تلحق بهم أضرار جسيمة يتعذر تداركها حتى وإن صدرت، فيما بعد، لصالحهم أحكام قطعية، وهو ما عبّرت عنه المبادئ القانونية التي أوردتها محكمة العدل العليا برام الله في حكمٍ لها في القضية رقم 71/1999 بتاريخ 6/12/1999، قائلةً إنّه “يجوز للمحكمة أن تأمر بتوقيف تنفيذ القرار مؤقتاً إذا رأت أن نتائج التنفيذ قد يتعذر تداركها”، وهو ما قضت به المحكمة الإدارية العليا المصرية في حكمٍ لها بتاريخ 22/5/1964، قائلةً إنّ “المشرّع إذ خوّل القضاء الإداري صلاحية وقف تنفيذ القرارات الإدارية المطعون فيها بالإلغاء، فإنما استهدف تلافي النتائج الخطيرة التي قد تترتب على تنفيذها”، وهو ما أوردته محكمة الاستئناف الإدارية في الرباط في حيثيات حكم لها بتاريخ 10/1/2007 ، قائلةً إنّ “مناط عنصر الاستعجال في طلب إيقاف تنفيذ قرار إداري هو الضرر الذي يمكن أن يلحق بالمركز القانوني للطاعن والذي لا يمكن تداركه في المستقبل لو تم تنفيذ القرار”، وهو ما جاء في حكم المحكمة الإدارية العليا المصرية بتاريخ 18/4/1964، قائلةً إن “طلب وقف التنفيذ يقوم على ركنين الأول قيام الاستعجال بأن يرتب على تنفيذه نتائج يتعذر تداركها والثاني يتصل بمبدأ المشروعية، بأن يكون ادعاء الطلب في هذا الشأن قائماً على أسباب جدية”.
هذا، وإن الدفع الذي أتى به صديقي المحامي قائلاً إنّ “إيقاف المحكمة لقرار فصل زميلي قبل الفصل في الطلب يهدر حقوق المؤسسة ويصادر أنظمتها وقوانينها”، فهو- مع أبلغ الأسف وأشده- لا يجانب الصواب فحسب، وإنما أيضاً ينتهك القانون، ويلقي بخبرة أربعة عقود إلى بئر الخراب والعدم، ويدير الظهر إلى القضاء الذي يستند في إصدار أحكامه بوقف تنفيذ القرارات الإدارية على مدى التزامه بالقانون واحترامه لحقوق المتضررين التي قد تنال ضرراً جسيماً لو لم يتم وقف تنفيذ تلك القرارات، الأمر الذي جعل المجلس الدستوري الفرنسي يعتبر قرارات وقف تنفيذ القرارات الإدارية ضمانة ضرورية لحقوق المتضررين.
وبعد، فهل يتزوّد صديقي المحامي بمثالين اثنين فقط من بين عشرات الأمثلة على تطبيقات قضائية على وقف تنفيذ القرارات الإدارية لحين الفصل في الدعوى الأساسية:
-
قضية الشاعر حلمي سالم وقصيدته “شرفة ليلى مراد”:
أمام محكمة القضاء الإداري في الجلسة المنعقدة علناً يوم الثلاثاء 1/4/2008 برئاسة السيد رئيس محكمة القضاء الإداري، نائب رئيس مجلس الدولة المستشار/ محمد أحمد الحسيني وعضوية السيد نائب رئيس مجلس الدولة المستشار/ أحمد محمد الشاذلي والسيد نائب رئيس مجلس الدولة المستشار/ أبو بكر جمعة الجندي وبحضور السيد مفوض الدولة المستشار/ أحمد عبد الفتاح.
وقد صدر الحكم في الدعوى رقم 31339 المقامة من يوسف صديق محمد البدري ضد كل من وزير الثقافة ورئيس المجلس الأعلى للثقافة. وقد جاء الحكم على النحو الآتي نصاً:
حكمت المحكمة:
بعد قبول طلب التدخل وبقبول الدعوى شكلاً، وبوقف تنفيذ القرار المطعون فيه وما يترتب على ذلك من آثار أخصها سحب الجائزة التي منحت لكاتب قصيدة “شرفة ليلى مراد- حلمي سالم- مؤقتاً لحين الفصل في موضوع الدعوى، وألزمت الجهة الإدارية مصروفات هذا الطلب، وأمرت بإحالة الدعوى إلى هيئة مفوضي الدولة لإعداد تقرير بالرأي القانوني في موضوعها”.
-
قضية المدون تامر مبروك صاحب مدونة “الحقيقة المصرية”:
أمام محكمة النقض ضد النيابة العامة والمقامة من المحامي بالنقض/ حمدي الأسيوطي.
جاء في الحكم: “… وعن طلب وقف التنفيذ، فإنه لما كان من الاستمرار في تنفيذ الحكم فيه ما يترتب عليه أضرار محققة للطاعن بما يحق له طلب وقف تنفيذه مؤقتاً لحين الفصل في هذا الطعن”.
أما آخر الكلام، فهل نقول لكلّ من نراه متورّماً من شدّة إعجابه بنفسه، انطلاقاً من غيرتنا عليه وحرصنا على مستقبله، وتصويباً لمسيرته، ما قاله شاعرنا في أمثاله:
مثل المعجب في نفسه كمثل الواقف في رأس جبل
ينظر الناس صغاراً وهو في أعين الناس صغيراً لم يزل
بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة