إمرأة المائة عام، عمتي عطرة – الحلقة الثانية
نضال حمد:
إمرأة المائة عام، عنوان جميل للحلقة الثانية من حكاية عمتي عطرة أحمد حمد – أم فؤاد حسين. إقترحه علي الأديب والروائي الفلسطيني الكبير الصديق رشاد أبوشاور. فقبل حوالي 15 سنة كنت أنوي لقاء عمتي في بلد عربي ما ولكن حرس الحدود منعني من الدخول ولم يكتمل اللقاء. رشاد أيضاً كان يومها ينتظرني هناك. عرف أبو الطيب رشاد بقصتي من طقطق للسلام عليكم، فكتب يومها مقالته الشهيرة “ليس سهلاً أن تكون فلسطينياً” هذا العنوان الذي غدى الآن عنواناً لأحدث كتب رشاد المطبوعة.
عمتي عطرة هي مثل صفحة طويلة جداً من كتاب تاريخ فلسطين الحديث، فقد عاشت وماتت وهي متشبثة بتراب الوطن، مع زوجها وأولادها وبعيداً عن كل أهلها، والدها ووالدتها وإخوتها وأخواتها وبقية أفراد عائلتها آل حمد، باستثناء قريبتها وصديقتها ورفيقتها إبنة عمها فاطمة علي حمد، في بلدة مجد الكروم، وهي والدة المناضل الوطني الكبير الأسير المحرر منير منصور – أبو علي منصور-، والتي توفيت في الثاني من نيسان 2020 ودفنت هناك في الجليل غير بعيد عن الصفصاف. عاشتا معاً غربة في الوطن.
عمتي عطرة غرست أقدامها في أرض الجليل كأنها زيتونة مباركة من زيتوناته، رفعت رأسها عالياً كأنها نخلة من نخلاته، وكيف لا تكون عمتي العربية الفلسطينية مثل النخلة، فالنخلة أيضاً أرض عربية.
لم تكن عمتي الشجرة الوحيدة الباسقة هناك، لم تكن وحدها في حقل الزيتون والنخيل في الجليل. بعد النكبة سنة 1948 بقيت هناك محموعة من نساء الصفصاف، كن تزوجن قبل النكبة من رجالٍ من قرى جليلية مجاورة. فتوزعن على دير حنا ومجد الكروم ونحف والجش والرينة وربما في بلدات أخرى لا أذكرها. متن كلهن وكانت عمتي أم فؤاد حسين هي آخر نخلة من نخلات الصفصاف الجليليات، الفلسطينيات الباسقات، الصامدات والراسخات في الجليل.
منذ ما قبل النكبة بقليل سنة ١٩٤٨ وحتى آخر طفل أنجبته وهو محمد الملقب ب :نورا” والذي يحمل إسم والدي أي خاله، والذي حضرت عرسه المشترك مع عرس شقيقه علي. أنجبت أم فؤاد عشرة من الأولاد، كبروا وتزوجوا وأنجبوا جيشاً صغيراً من أحفاد عطرة حمد – أم فؤاد حسين وزوجها العم عبد النايف. أولاد عمتي بعضهم حمل أسماء إخوة عمتي أي أبي محمد وعمي محمود وعمي علي رحمهم الله.
الجيش الجليلي الفلسطيني الصغير من أحفاد وأولاد عمتي يؤمن كما كل فلسطيني مؤمن بعروبة فلسطين، أن أجدادنا وستاتنا وآباءنا وأمهاتنا، الأموات والأحياء منهم ومنهن، سوف يعودون وسوف تعدن الى فلسطين، سواء جسداً أو روحاً، لأن الأرض أرضهم-ن وكل ما عليها لهم-ن وملكهم-ن.
في مخيم عين الحلوة حيث كل عائلة عمتي الكبيرة ولدت أنا ابن شقيقها بداية ستينيات القرن الفائت. منذ بدأت أعي الحياة كنت أسمع عن عمتي عطرة التي بقيت في فلسطين. فكانت سيرتها في بيوت عائلتنا وكنا نهرع الى المذياع لسماع تحياتها التي كانت تأتي عبر الأثير من راديو “اسرائيل”، هذا الراديو الذي حل بالقوة والقهر مكان راديو فلسطين في القدس، حيث كان يصدح صوت فناننا الراحل نوح ابراهيم وفرقته الشهيرة.
سمعت تحياتها وسلاماتها مرات عديدة من الراديو المذكور. كانت مثلها مثل كل شعبنا في ال 48 ترسل تحياتها لكل أفراد عائلتها. في ذلك الوقت كانت تتجمع العائلة كاملة حول المذياع، أبي وأعمامي وعماتي ونحن أولادهم لسماع صوتها واستلام تحياتها. كنا نتخيل كيف شكلها ومن تشبه من عائلتنا. بقينا نتحزر الى أن عاد عمي محمود ومن بعده أبي من زيارتين منفردتين لها بداية سبعينيات القرن الفائت، عندها لأول مرة في حياتنا رأينا صورها وصور أولادها وزوجها وربما هي كذلك لأول مرة رأت صور أهلها وأولادهم.
مرت الأيام والأشهر والسنين ثم حصل غزو لبنان سنة 1982. فحوصرت العاصمة بيروت 88 يوماً، فيما تم احتلال الجنوب بسرعة فائقة فاجأتنا. بقي الأهل هناك في مخيم عين الحلوة تحت الاحتلال. تم اعتقال غالبية شباب ورجال العائلة وزج بهم في معتقل انصار الشهير. أصبت أنا في مجزرة صبرا وشاتيلا يوم 17-9-1982، وبقيت شهوراً عديدة تحت العلاج في بيروت. في ذلك الوقت غالبية الفلسطينيين من الجليل والساحل والنقب الذين كانت لهم عائلات في مخيمات الجنوب، دخلوا لبنان المحتل للإطمئنان على أقاربهم وملاقاتهم، حتى أن البعض تزاوجوا وهناك فتيات عدن الى فلسطين مع أزواجهن الفلسطينيين من أقاربهم وحصلوا على لم الشمل.
عمتي عطرة دخلت أرض لبنان ووصلت مخيم عين الحلوة عند إخوتها وأخواتها وكان المخيم شبه مدمر في ذلك الوقت. ثم ذات يوم وأنا في سريري في منزل العم جميل الزين حمد والعمة أم اسماعيل حمد بمخيم شاتيلا، ربما كنا يومها في نهاية سنة 1982 أو بداية 1983، تفاجأت بدخول أمي وعماتي علي في الغرفة بمخيم شاتيلا، أتين لزيارتي، كانت ضمنهم سيدة تشبههم كثيراً لكنني لم أعرفها فوراً. قدموها لي “عمتك عطرة أم فؤاد” جاءت تزورك. يومها كان يمنع عليها وعلى غيرها التوجه الى بيروت لأنها تحمل الهوية (الاسرائيلية)… ممنوع من قبل سلطات الاحتلال وممنوع من قبل السلطات اللبنانية، لكن هذه الأخيرة لم تكن موجودة. عمتي دخلت بيروت على هوية إحدى شقيقاتها. سعدت كثيراً بها وبزيارتها لكنني كنت أعاني من الجراح ولم أكن في حالة صحية تسمح لي التحدث كثيراً معها والتعرف عليها أكثر وأكثر. ذاك كان لقاءي الأول مع عمتي التي طالما تمنيت كما جدي وأبي وكل أهلي ملاقاتها وجهاً لوجه.
في الحلقة الثالثة سأروي لكم عن لقاءي الثاني مع عمتي في دير حنا والصفصاف بفلسطين أرض العودة والقداسة والفداء.
نضال حمد
19-3-2023
رابط الحلقة الأولى: