إيران تصنع الشرق أوسط الجديد – عبد الستار قاسم
يتضاءل تطلع أمريكا والكيان الصهيوني إلى إقامة شرق أوسط جديد أو بيئة عربية إسلامية تخضع تماما لهيمنتهما وتدين لهما بالولاء المطلق يوما بعد يوم. لقد تهشم هذا التطلع، وتفككت السياسات المؤيدة لإقامته، وهو في نزاعه الأخير ولن تقوم له قائمة تحت الظروف السائدة الآن في المنطقة العربية الإسلامية. عملوا طويلا وعلى مدى ثلاثة عقود من الزمن من أجل إعادة تشكيل المنطقة العربية الإسلامية وتمزيقها من جديد وفق رؤاهم الاستراتيجية، لكنهم يوقنون الآن أن أحلامهم في إخضاع المنطقة تماما وتثبيت أقدام الصهاينة ونسيان الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني قد ولت، وباتوا يدركون أن منافسيهم وهم إيران ومن يدعمها ويواليها في المنطقة قد باتوا أصحاب يد عليا قادرة على الصمود والتحدي وتحقيق الانتصارات.
تغيرت المعادلات العسكرية إلى درجة أن حماس والجهاد وكل فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة باتت قادرة على تصنيع دفاعاتها، وكذلك شأن اليمن وحزب الله، وقريبا ستلتحق العراق بالركب. التهديد بالقوة العسكرية لم يعد مجديا، وأمريكا والصهاينة يدركون أن العدوان العسكري لا يمر بدون ردود مدمرة، وأن تلك الحروب التي كانت مجرد نزهات واحتفالات بالنصر لم تعد ممكنة. وأولئك الذين طالما هددوا وتوعدوا وأثاروا الفتن ونشروا القتل وسفك الدماء قد انكمشوا وأخذوا يتحاشون الصدام. الصهاينة لا يجرؤون على مهاجمة لبنان ولا قطاع غزة. وكم من مرة زمجروا هم والأمريكيون وتوعدوا إيران بالحرب والتدمير، فوجدوا أنفسهم الآن أصحاب هدوء باحثين عن السلام. الصهاينة والأمريكيون والسعوديون ابتلعوا ألسنتهم وتحركت شفاههم ناطقة بحلول سلمية مع إيران واليمن ومختلف قوى المقاومة في المنطقة. ربما كانوا يتشككون في الماضي وكانت ثقتهم بقدراتهم العسكرية قوية تؤهلهم للوعيد والتهديد. لكن غباء ترامب، الرئيس الأمريكي، جرّ أمريكا إلى مكانة عسكرية ستجد مستقبلا تحديات من العديد من دول العالم.
إيران لم تخضع للحصار، ولا لقلة الأموال وما ينطوي على ذلك من آلام ومشاق وصعوبات. بل أن إيران استمرت في التحدي ولم تتراجع عن المواجهة. أسقطت الطائرة الأمريكية المسيرة، وحلقت بطيرانها فوق السفن الحربية الأمريكية، واحتجزت السفينة البريطانية، ولم تتوان في تقديم الدعم لليمن ضد السعودية. ولا يخفي أعداء إيران الحقيقة التي تصيبهم بجزع وتدفعهم إلى إعادة حساباتهم عندما يقولون إن إيران تدعم الإرهاب، والإرهاب متمكن وقوي. وما يعنونه حقا أن إيران تدعم قوى الرفض والمقاومة التي تصر على استقلالها وانتزاع حقوقها. هم يرون جيدا أن إيران واجهت تنظيمات متطرفة جدا أساءت للإسلام كانت أمريكا والسعودية قد مولتها وأشرفت على أدائها، ومكنتها من القيام بأعمال تدميرية هائلة في العراق وسوريا وليبيا واليمن. هم يعلمون أن إيران استلت سيفها ضد من حاول الأمريكيون غرسه في المنطقة من أجل إقامة شرق أوسط جديد.
آجلا أو عاجلا، سيعترف الغرب بإيران قوة عالمية، وستصبح عنصرا أساسيا في النشاط الدولي سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري. وإذا اعترف العالم فإن الأنظمة العربية ستحول ولاءاتها تدريجيا من أمريكا إلى إيران إذا قبلتها إيران. أنظمة العرب تتمسك بالولايات المتحدة من أجل حماية نفسها، أي حماية العروش وليس الشعوب، حمايتها من شعوبها ومن إيران. فإذا كانت إيران تعمل على إطاحة أنظمة العرب فإنه من غير المتوقع أن تقبل إيران ولاء أنظمة استثمرت حياتها في خدمة المصالح الأمريكية.
ماذا فعلت إيران؟ منذ بداية الحرب العراقية الإيرانية، اعتمدت إيران نظرية الاعتماد على الذات لأنها وجدت نفسها معزولة وغير قادرة على استيراد السلاح المطلوب للدفاع عن نفسها. ونظرية الاعتماد على الذات تتطلب عنصرين أساسيين وهما العقل العلمي والإرادة القوية الصلبة. أصرت إيران على امتلاك هذين العنصرين وحققت إنجازات علمية وعسكرية واقتصادية هائلة بقدرات إيرانية بحتة. لقد قامت بمجهود مكثف ومركز حتى أذهلت العالم بسرعة تطورها التقني، وتسارع تطور معارفها العلمية. والنتائج يشاهدها العالم الآن على الشاشات، والدول الاستعمارية تشعر بالكثير من الندم على عدم تدمير إيران قبل أن تخرج من القمقم. أمريكا تعمل جاهدة مع الكيان الصهيوني على إخضاع برنامج إيران الصاروخي للمفاوضات لأن تطوره يشكل رادعا حقيقيا للنوايا العدوانية الصهيونية والأمريكية.
من الواضح أن أمريكا كانت تظن أنه من السهل إخضاع إيران حتى لو اضطرت إلى استخدام القنابل النووية، لكنها بدأت تدرك بعد مغامرة ترامب في إلغاء الاتفاق النووي أن دولا ستدمر إذا هاجمت أمريكا إيران وعلى راسها الكيان الصهيوني. الصهاينة الآن خائفون ويعون جيدا أن الحرب على إيران مغامرة غير محسوبة، والسعودية باتت تدرك جيدا أنها أذهلت العالم بضعفها وعدم قدرتها على الاستفادة من أسلحة ثمنها مليارات الدولارات. وإذا كانت السعودية غير قادرة على تحقيق نصر على الحوثيين فهي لن تستطيع الانتصار على إيران كما ظن محمد بن سلمان. أما أمريكا فاتبعت سياسة عسكرية خاطئة وغبية عندما أحاطت إيران بالعديد من القواعد العسكرية. لقد قدمت جنودها ومنشآتها ضحية لأي حرب قد تنشب لأن الصواريخ الإيرانية تطالها جميعها. الإيرانيون حفروا تحت الأرض لوقاية أنفسهم، والأمريكيون استعرضوا أنفسهم مكشوفين أمام من يعادون.
أين العرب من كل هذا؟ فضل العرب عبر عشرات السنوات أن يبقوا على أنفسهم كرة قدم تتقاذفها الأقدام. ارتموا بأحضان أمريكا سنوات طويلة، وهم الآن خائفون على فقدان هذه الأحضان. ليس من السهل اقتلاع أمريكا من المنطقة، لكنه ليس من المستحيل. والعبرة تبقى في المواجهة غير النارية القائمة الآن بين أمريكا وإيران. إذا صمدت إيران فإن نفوذ أمريكا في المنطقة سيتقلص إلى حد كبير، وإذا استسلمت إيران فإن الفواحش الأمريكية في المنطقة ستتكثف وسيقوم الشرق الأوسط الجديد وفق الهوى الأمريكي. ولا يبدو أن إيران ستتراجع أو أن هممها ستفتر.
تقديري أن إيران ستصمد وستخرج من المواجهة منتصرة، وسيعترف الرئيس الأمريكي في النهاية بأن الخروج عن الاتفاق النووي وحصار إيران المشدد كان عملا أحمقا. كانت ستبقى القوة الإيرانية مستترة وتأثيرها على شعوب وحكومات المنطقة سيبقى محدودا في زاوية معينة وهي زاوية المؤيدين لإيران في لبنان والبحرين وشرق السعودية وبعض العراق وبعض الكويت. لكن انكشاف القدرات الإيرانية ولو بصورة محدودة يترك آثارا قوية على النفسية العربية وعلى التفكير العربي الشعبي والرسمي. عندما تنتهي الأزمة بين أمريكا وإيران سيجد العرب أنفسهم أمام واقع استراتيجي جديد ما بين أمريكا وإيران، والغلبة عادة للقادم وليس للراحل.
عربيا، مصر خارج اللعبة الإقليمية ولا تملك الآن إلا أدوارا هامشية صورية. لم تعد مصر دولة طليعية قادرة على قيادة العرب. المقاومة اللبنانية والفلسطينية هي التي تتصدر الأمة العربية الآن، وعلى مستوى الدول، يبدو أن الجزائر هي الدولة العربية الوحيدة التي تملك إمكانات القيادة، لكن لا يبدو أنها راغبة في ذلك الآن. أما السعودية فستجد نفسها ضعيفة، وغير قادرة على قيادة أحد أو رفع سيف التحدي في وجه أحد. المهزومون لا يقودون. السعودية مهزومة في العراق وسوريا واليمن، وغالبا ستكون مهزومة في ليبيا والسودان. والأفضل للسعودية أن تستعمل أموالها للرقي بالوطن العربي في مختلف مجالات الحياة بدل أن تبقى جابيا للولايات المتحدة. أمريكا لن تدافع عنها، وإنما تبحث دائما عن سبل ابتزازها ماليا.
محور المقاومة المدعوم من إيران سيكسب الجولة الحالية، وسيكون قادرا على فرض معادلات عسكرية مكللة بالانتصارات. زمن انتصارات الصهاينة قد ولى، وزمن البلطجة الأمريكية يلاقي تحديا قويا وصلبا. المنطقة العربية الإسلامية مقبلة على تغيير، وستكون إيران القوة الأساسية التي تفرض هذا التغيير. وإذا شاء العرب أن يكونوا رقما فاعلا للمنطقة فإن الأفضل لهم أن يديروا ظهورهم تدريجيا للأمريكيين ويتعاونوا مع إيران وفق قواعد التعاون والاحترام المتبادلين. وفقط بهذه الطريقة يمكن أن يخرجوا من بين أقدام اللاعبين.
نحن أما شرق أوسط جديد على الطريقة غير الأمريكية. المعادلة الجديدة ستصيب دول الخليج ولبنان والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني. الكيان الصهيوني سيكون أكبر الخاسرين، والمقاومتان اللبنانية والفلسطينية ستكونان أكبر الرابحين. ولهذا أقدم نصيحة لمنظمة التحرير بأن لا تبقى أسيرة الاتفاقيات مع الصهاينة، وعليها أن تفكر باستراتيجية جديدة. ومطلوب من العرب والإيرانيين الذين يحملون لواء المذهبية والطائفية أن يعودوا إلى إسلامهم. كما أنه مطلوب من إيران أن تكون عونا للعرب لا سوطا على ظهورهم.