إيران وحماس: نداء المقاومة وهوس الطائفة – سامي سوالمة*
في 12 كانون الثاني 2015، تحدث وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عن نجاح بلاده «في إحداث تغيير استراتيجي في توجهات حركة حماس عبر إقناعها بالاعتراف بدولة إسرائيلية مستقلة، في حال توفر أجواء مناسبة». يومذاك، عبّر هذا «النجاح» التركي بوضوح عن مدى الانعطافة الحادة في سياسة حركة حماس، بعد بزوغ حقبة «الربيع العربي»، وعن حدّة الانقلاب في تحالفاتها الإقليمية إثر صعود نجم تيارات الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط.
ولم يكن فهم المغزى من تصريح جاويش أوغلو يحتاج إلى ذكاء خارق لندرك أنّ حماس باعت حليفها الإيراني الذي دعمها لعقود دعماً غير محدود وغير مشروط، واشترت -في المقابل- راعياً جديداً ميزته أنّه سني، ولا يضيره في شيء كونه يدور في الفلك الأميركي!
إنّ هذا الانقلاب الدراماتيكي في استراتيجية حركة حماس، جعل العديد من المتابعين للشأن الفلسطيني يتساءلون: لماذا فشلت إيران في كسب ود حماس بالرغم من الدعم المادي والعسكري الذي وفرته لها… في حين نجحت تركيا بكلفة أدنى بكثير في إحداث تحول جذري في مواقفها؟!
للوصول إلى إجابة عن هذا السؤال، يمكن الاستعانة بقصة ذات دلالة، رواها عضو مجلس الشورى السعودي الداعية السلفي الشيخ حاتم بن عارف العوني، وملخصها أن قيادات من حركة حماس زاروا السعودية قبل قرابة عشرة أعوام، فاستقبلهم مشايخ المملكة باستهجان كبير وانزعاج من الدعم العسكري والمالي الإيراني الذي لاح جلياً على الحركة الفلسطينية. ولم يجد قادة حماس ما يبررون به هذه العلاقة «المشينة» سوى الزعم بأنهم «مضطرون إليها»؛ وبحسب رواية الشيخ العوني فقد قال الشيوخ الحمساويون للشيوخ الوهابيين: «فلتقدّم لنا أي دولة سنية ما قدّمه لنا الإيرانيون، ونحن سنلتزم تماماً ونتخلى عن الدعم الإيراني».
هذه القصة تلخص تماماً حجم المأزق الذي عانته حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس)، في التوليف بين أدبياتها وتراثها السلفي من جهة، وبين «الواقع السني» القاحل من جهة ثانية. وذلك الواقع بالتحديد، هو الذي سجنها في خياريْن «كريهيْن»: فهي إمّا أن تبقي نفسها حركة صغيرة التأثير، منعزلة بلا حلفاء يقدمون لها يد العون في مواجهة عدوها، وإما أن تضع يدها في يد مخالفيها في الفكر والمذهب لقاء الدعم. ولقد أثار هذا المأزق داخل صفوف الحركة الفلسطينية الكثيرَ من الجدل حول صواب فكرة التعامل مع «الشيعة». وفي مرحلة أولى، تمّ تبني خيار تقديم «المصلحة النفعية»، واستند القائلون بذلك إلى إسقاطات تاريخية غريبة، مثل تعامل الرسول مع القبائل المشركة (ذكر هذا عضو المكتب السياسي في حركة حماس الشيخ نزار ريان حين استحضر العلاقة التي كانت بين الرسول وبين قبيلة طيء رغم أنها لم تسلم).
هذا الخجل الحمساوي من العلاقة مع الحليف الإيراني، يكشف لنا أيضاً مدى ركاكة الحديث المتواصل في دوائر صنع القرار في طهران، عن متانة «الوحدة الإسلامية» وصلابتها. فهذه «الوحدة» يبدو أنها لم تكن موجودة أصلاً، وليس فقط هي انهارت مع انهيارات المجتمعات العربية الحاصلة حالياً. والسلوك الحمساوي في التعاطي مع الحليف الإيراني (والسوري) يكشف لنا كذلك حجم النزعة الانتهازية عند بعض القادة الإسلاميين الفلسطينيين. فبالرغم من أنّ منظمتهم استفادت كثيراً من الدعم الذي وفره لها ما يعرف بمحور المقاومة (إيران وسوريا وحزب الله) بحيث تبدل شكلها من جماعة لا تمتلك سوى صواريخ بدائية وأسلحة خفيفة إلى جيش حقيقي مصغر ومدرب ومسلح جيداً وقادر على الدفاع عن مناطقه. وفي المقابل أمِل الإيرانيون ومعهم حزب الله -بين ما أملوه – من استثمارهم الدعم غير المحدود للحركة الإسلامية المقاومة في فلسطين أن يردّ الحمساويون لهم ذلك الجميل بالوقوف، في يوم الامتحان، ضد التحريض المذهبي الذي يسعّره الخليجيون ضدهم كل حين، ولا يملكون غيره ليغطوا به صراعهم السياسي معهم.
سريعاً ما اكتشف الإيرانيون ومعهم حزب الله حجم خطأ رهانهم، وبدا الإعلام التابع لمحور الممانعة شبه مذهول من ما سموه «خيانة رفاق السلاح». وممّا زاد الجرح ألماً أنّ الإعلام القطري التحريضي والطائفي كان يستند أساساً على «جيش من الناشطين» قاده فلسطينيون أغلبهم من أبناء حركة حماس نفسها أو من المتعاطفين معها أو من مشاهير جمهورها، وأولئك خلعوا على السياسات القطرية والتركية وحتى السعودية ثوب دعم المقاومة الفلسطينية، ونزعوه عن إيران وحلفائها! ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل وصل المدى بحركة حماس حد الجهر بتأييد العدوان السعودي الأميركي على اليمن، وتنطّحت فرقة إنشاد حمساوية لتقديم أنشودة تحيّي بها من وصفتهم بـ«مقاومين ضد ذنب الصفوية» في عدن. وقبل العدوان على اليمن، تماهى الحمساويون مع المعارضة السورية بكافة فصائلها بل ولعبوا دوراً في تدريبها وتسليحها… وخرج خالد مشعل زعيم حركة حماس بنفسه ليتحدث في رثاء حارث الضاري (أحد أشرس المشايخ الذي كان كل مشروعه السياسي مبنياً على العداء لإيران) قائلاً إنّ مشروع الشيخ الضاري هو «مشروعنا» المناقض لـ«مشروعهم»…
إنّ هذه المواقف الحمساوية لم تأت بناء على سوء تقدير، ولم تأت عفواً في سياق تسارع الأحداث السياسية فانصرفت أنظار قيادات حماس عن نتائجها أو إلى أين ستقودهم؛ وإنما هذه المواقف كانت إعلاناً صريحاً لعودة الحركة السلفية إلى حضن ما تعتبره «أمّتها»، ورجوعاً إلى «المكان الطبيعي» للإخوان المسلمين الفلسطينيين بين أشقائهم السنة.
والاستثناء -كما يبدو- كان في التعاون مع أطراف مخالفة في الفكر والمذهب، لذلك لم تكن مسألة دعم حماس للجماعات التكفيرية، أو لسياسات أمراء الخليج تحتاج لأيّ ترويج ضمن البيئة المجتمعية للحركة، فتلك البيئة معبأة وجاهزة لاستبدال التحالفات القديمة، بل إنها كانت محرجة من أولئك الحلفاء الذين يتناقضون مع ثقافتها السلفية. وإن نظرة سريعة على طبيعة التنشئة الدينية المتبعة في حركة حماس، كافية لفهم طريقة تفكير كوادر وأنصار هذه الحركة. ففي الماضي القريب كان الشيخ نزار ريان مثلاً (وهو قيادي سابق في حركة حماس) يسمي نفسه عالِماً سلفياً، وكان لا يألو جهداً في تكفير الشيعة (شركاء الوحدة الإسلامية المتخيلة) وأمّا الآن، فتنشط في غزة جمعيات سلفية كثيرة (مثل جمعية ابن باز) تحت رعاية حكومة حماس ووزارة الأوقاف والشؤون الدينية فيها. ويذكر أنّ هذه الوزارة سبق وأن تولاها الدكتور صالح الرقب، أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة، ومؤلف كتاب «الوشيعة في كشف كفريات وشنائع الشيعة». ومن الطريف أنّ صالح الرقب، وهو شخصية حمساوية معروفة، كان قد أبدى سعادة واضحة لتفجير سيارة مفخخة في ضاحية بيروت الجنوبية وقد يكون ألف كتابه المذكور عن «كفريات وشنائع الشيعة» في فترة كان يتسلم فيها راتبه الشهري من الإيرانيين أنفسهم. علماً أنّ كتاب «الوشيعة» كان يوزعه الحمساويون مجاناً بين المصلين في مساجد قطاع غزة.
من الطبيعي إذاً أن ينتج هذا النمط من التنشئة الدينية أجيالاً متعصبة ومغرقة في سلفيتها، وأن توضع القيادات التي تتحدث عن ضرورة التعامل مع الإيرانيين في موضع شك وشبهة واتهام من طرف الجمهور الحمساوي. وهذا التعصب أيضاً هو الذي يفسّر لنا كيف تحوّلت قوى ودول أمدّت المقاومة بكل أشكال الدعم، في أذهان الحمساويين، إلى أعداء، وكيف صارت قوى صديقة لإسرائيل ولاة أمر! وضمن هذا السياق من التعصب الطائفي، لا يعود مستغرباً تقبل الحمساويين للمصالحة التركية الإسرائيلية، ولا يصير عجيباً انسياقهم الجماعي في تبريرها، وتجميلها، وانتظار الفرج بواسطتها… فبحسب السردية الحمساوية التبسيطية: حاولت تركيا فك الحصار عن غزة لكنها فشلت في ذلك، وحينئذ اضطرت -عن غير رضا منها- للتصالح مع الصهاينة». وطبعاً فإنّ هذه السردية في الإعلام الحمساوي لا تتطرق إلى النقطة الأهم في الاتفاق التركي الصهيوني، وهي مسألة استئناف العلاقات الاستخباراتية والتنسيق العسكري بين البلدين (علماً أن العلاقات الاقتصادية لم تتأثر يوماً بالفتور الطارئ في علاقات أنقرة وتل أبيب، بل على العكس نمت هذه العلاقات باطراد خلال سنوات القطيعة).
هذا المأزق الذي وضعت قيادة حركة حماس نفسها فيه، عبر الرهان بكل أوراقها على المحور التركي القطري، لن يصل بها إلا إلى نفس الشَرك الذي سقط فيه ياسر عرفات في الماضي. فالراعيان الإقليميان الحاليان للحركة سيجرّانها بشكل تدريجي – أحبت ذلك أم كرهت – نحو راعيهما الدولي الأميركي، كما جرّ الراعيان المصري والسعودي، من قبل، الراحل عرفات إلى الراعي الأميركي. وبذلك ستصبح خلافات حماس مع إسرائيل (أو حتى حروبها إن اضطرت إليها، مع الإسرائيليين) خلافات داخل المعادلة الأميركية. فأميركا هي عرّابة الجميع: الحلفاء والأعداء! وهكذا فإنّ كل التبريرات الحمساوية للسياسة التي تتبعها الحركة الآن، والتي يسوقها مسؤولوها، عبر التأكيد على حرصهم على علاقات متوازنة مع الجميع، واكتساب الدعم من الجميع، ليس باستطاعتها أن تنطلي على أحد؛ لكأن الحركة – بهذه المزاعم – تحولت إلى امبراطورية يخطب الجميع ودها، وتسعى كل الجهات لطلب رضائها! وفي الحقيقة، فإن الحاجة الخليجية لحماس استنفدت تماماً، وقد قدمتها حماس بالكامل وبالمجان كل ما يمكن أن تقدمه… فقيمة حماس – عند الخليجيين -هي إعلامية بالدرجة الأولى، حيث كان بإمكانها عبر عضويتها في محور المقاومة أن تدرأ عنه التشكيك والتشنيع والاتهام بالطائفية، ولكن حماس لم تحمِ ولم تذدْ عن أحد، بل إنها -عوضاً عن ذلك- شاركت بفاعلية وتفانٍ قل نظيرهما في رمي المحور بسهام أعدائه!
ولقد أمِلت حماس أن يفك الاتفاق التركي – الاسرائيلي الحصار عن غزة، وأن يطلق عملية تفضي إلى هدنة مع إسرائيل، وأن يكسبها الاتفاق المذكور اعترافاً دولياً بحكمها للقطاع، فلا تعود بعد ذلك بحاجة الى الإيرانيين. ولكن تخلي أردوغان عن قضية غزة في بازار تسوية خلافاته مع اسرائيل، ترك الحركة «في وضع التسلل»! مما اضطرها لمحاولة ترطيب الأجواء – من جديد- مع طهران، عبر تصريح يمتدح الدعم الإيراني للحركة. فموسى أبو مرزوق أُجبر على قول ذلك المديح، لإصلاح كلام سابق سُرّب عنه قبل بضعة أشهر، وحكى فيه عن نفاق إيران و«باطنيتها»! طبعاً يبقى هذا الترطيب في عرف حماس حالة اضطرارية تنتهي عندما تلوح الفرصة التالية للتخلي عن حليف الضرورة «الباطني».
لقد فشل الرهان الإيراني على حماس لأنه كان قائماً على أمنيات وأوهام لا تصلح وحدها لبناء العلاقات والتحالفات. كما أن رهان حماس على استبدال حليفها الإيراني بالحليف التركي، مع استبقاء حالة العداء لإسرائيل، هو أيضاً ضرب من الوهم والتمنيات. لأنك لا يمكنك أن تتحدى إسرائيل، وأنت تحتمي برعاة يدورون في الفلك الأميركي، ويهرولون للتطبيع مع الإسرائيليين. إنّ وضع حماس اليوم، يشبه وضع حركة فتح أيام الانتفاضة الثانية قبل رحيل ياسر عرفات. يومها كان لكتائب الأقصى دور كبير في العمليات التي استهدفت الاحتلال في الضفة الغربية لكن كل ذلك النضال سريعاً ما أجهض بفعل محدودية المناورة السياسية، ونوعية أصدقاء عرفات وأشقائه أصحاب الجلالة والمعالي والفخامة.
سيبقى الفيصل الأساس في صحة الرؤية السياسية، هو موقفك من مجمل قضايا المنطقة:
هل أنت في معسكر من يحلم بمنطقة حرة من الهيمنة الأجنبية، وهذا يعني الانضواء في سعي دؤوب لإنجاح مقاومة هدفها النهائي تحرير فلسطين، إذ انه لا يمكن تخيل منطقتنا حرة مع وجود الكيان الصهيوني… أم هل أنت في معسكر مشيخات الخليج، وهذا يعني الانضواء في صف قوى الاستعمار الغربي، وبالتالي فإنّ هدفك النهائي -بشكل مباشر أو غير مباشر- هو التطبيع مع إسرائيل. وحتى لو أنك رفعت اليوم شعارات مناديه بتحرير الأقصى، فأنت – بفضل تحالفاتك- ستكون أشبه بثوار الناتو في ليبيا الذين رفعوا راية تحرير بلدهم تحت مظلة قصف الطائرات الأطلسية، أو لعلك ستكون أقرب شبهاً بعناصر جبهة النصرة في القنيطرة الذين يرفعون شعار العداوة مع اليهود، ويتداوون في المشافي الإسرائيلية! ثم فلتسأل نفسك بكل صدق: هل ألحق تصدي حماس للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014 ضرراً بالكيان الصهيوني يفوق ما قدمته الحركة له من منافع عبر مساهمتها بتسعير التحريض المذهبي في المنطقة؟!
الاخبار اتللبنانية – * كاتب من فلسطين