ابن من هذا؟!
قصّة صغيرة :رشاد أبوشاور
وقف شخص فوق رأس أبي وسأل وهو يشير لي:
-هذا الولد معك؟
لم تكن مقاعد الباص قد امتلأت بالركّاب، وأنا كنت أجلس بين أبي والشبّاك:
-آ…
أجاب أبي، وقد برم بوزه في وجه ذلك الشخص.
-يجب ان تدفع عنه!
-هو ولد صغير، وسأجلسه في حضني عندما يمتلئ الباص…
-يجب ان تدفع، فهو كبير…
ردّ ابي عليه بغضب:
-هو ولد صغير..و..في الصف…
لم يكمل أبي للشخص في أي صف أنا، فقد خشي أن أبدو كبيرا لو أخبره بأنني في الصف الخامس.
-يا عم..أنا واجبي أن أفتّش على التذاكر، ويوجد واحد آخر عند مخيم عقبة جبر سيصعد ويفتش، و..قد ينزلك من الباص أنت وابنك..فما رأيك؟
تساءل أبي:
-وهل يعني..سأد..فع عنه تذكرة كاملة؟
توقفت سيارة شحن قبالة الباص، وارتفع صوت سائقها:
-للقدس..المستعجل للقدس..وبخمسة قروش..يلاّ!
وقف أبي وأمسك بيدي، ومر بي بين المقاعد مسرعا.
لوّح لسائق سيارة الشحن.
اقترب ووقف قرب الباب الذي يطل منه:
-أنا مستعجل…
-يلاّ أنا ماشي…
_كم تريد أجرة عني وعن ابني الصغير هذا؟
ورفع أبي يدي وكأنه يقول للسائق انظر كم هو صغير.
-سبعة قروش!
-لو معي سبعة قروش لما نزلت من الباص يا زلمه…
-قديش معك؟
- شلن..خمسة قروش
-ابنك يركب في صندوق السيارة، وانت تفضّل بجواري…
-أنا مستعجل..يجب أن ألحق بالمحكمة في القدس…
-يلاّ مشينا. إن لقيت أحدا في الطريق سأركبه بجوارك يا عم…
-مش مشكلة.
تشعبطت الباب الخلفين وتشبثت بالعوارض الخشبية.
نبهني أبي:
-خليك بعيد عن الباب، وثبّت نفسك بالعوارض..تمسّك كويس…
ثم مضى وركب بجوار السائق.
اندفعت السيارة عابرة منتصف أريحا، وانعطفت ومرّت عن الجسر، وبعد قليل رأيت مبنى المقاطعة حيث كان أبي سجينا قبل سنتين، وهو حاليا يحاكم من جديد بعد أن تركوه بكفالة.
تأملت بيوت مخيم عقبة جبر، ثم الاستراحة التي تتوقف فيها سيارات آتية من بعيد، فيها كراس، ويستظل المسافرون تحت أشجار الكينا.
انعطفت السيارة وبدأت تصعد طريق القدس، وعلى يسارنا البحر الميت مثل لوح زجاج أزرق يبدو ساكنا.
مع الاهتزاز وددت أن أنام ولكنني خشيت أن أتدحرج على أرضية صندوق السيارة، فتشبثت وأنا أمر بنظري على كل ما تعبر به السيارة.
وددت لو أن أبي يوقف السيارة ويجلسني معه في غرفة الشفير.
شعرت بالجوع، فأنا وأبي لم نأكل شيئا في الصباح الباكر عند مغادرتنا مخيم النويعمة.
على يمين الطريق مقبرة، وفي المنخفض كنيسة واجراس، و..صعدت السيارة ملتفة، ثم اندفعت في الشارع الذي على يمينه بيوت كثيرة ودكاكين..و…توقفت.
رأيت أبي يهبط ويستدير رافعا يديه ليلقفني، فتجاوزت الباب، ودلّيت نفسي، وقفزت من بين يدي أبي.
-جدع…
قال أبي:
-معنا نتفة وقت…
ميّل إلى دكان وعاد يحمل كعكتين وبيضتين:
-يلاّ كل..على مهلك..معنا نتفة وقت.
بدأت بالتهام الكعكة وقضم البيضة نتفة نتفة..متمنيا أن لا تنقص، وان تشبع الكعكة بطني الفارغ.
مسح أبي فمه والتفت إلي:
-سنصل بعد شويّة…
مسحت فمي، وأسرعت لأجاري أبي في خطواته الواسعة. سألته:
-يابا: ليش ما لبست عباءتك الحمراء؟
ضحك:
-أنت شاطر والله. تلك للمظاهرات، وليست للمحكمة.
ضحك وهو يجذبني من يدي:
-بس تكبر رايح تعرف الفرق بين العباءتين: السودا..والحمرا.
صعد أبي درجا، وأنا صعدت وراءه، ثم أسرع في ممر، و..توقف أمام غرفة واسعة.
عند الباب قال لي:
-إجلس هنا..ولا تتحرك، ولا تعمل أي شئ. أُقعد وأنت ساكت ..أيوه؟
هززت رأسي.
التصقت بالباب، وأبي جلس على مقعد في منتصف الغرفة. وأمامنا منصة مرتفعة يُدخل لها من باب جانبي.
دخل شخصان بعباءتين سوداوين. انحنيا على أبي وتكلما معه وهو يبتسم ويهز رأسه. امتلأت القاعة، وأنا التصق بالباب وأبصبص على كل شئ.
ارتفع صوت: محك..مة.
فوقف الحضور، ودخل عجوز شائب الشعر بدا غاضبا من شئ ما، وأجال نظره فوق الحضور ثم حدق في وجوههم و..نظر إلي بغضب، وأشار:
-ابن من هذا الولد؟
ردّ ابي:
-إنه ابن الذي سلّم اللد والرمله يا سيدي القاضي!
صاح القاضي:
ارموه برّااااا..بسرعة..ارمووووه برّاااااا.
جاء شخص يرتدي ملابس خاكي وأمسك بي ورماني برّا.
ارتفع صوت أبي وهو يبتسم:
-لا تخااااف. خليك عندك ..لا تبتعد عن الباب.
أخذت في استراق السمع لكلام لم أفهم منه شيئا، وسمعت أحد الشخصين اللذين حكيا مع أبي وهو يرّد على القاضي، ثم صوت القاضي وهو يعلن:
-تؤجّل الجلسة…
خرج من في داخل القاعة، وأبي ينظر باتجاهي وهو يصغي لأحد الشخصين:
-لايهمك، سوف ننفس غضبه، ونتعبه، ونجعله يمّل…و…
أمسك أبي بيدي، وعبرنا بين أشخاص كثيرين، وهبطنا على الدرج، ثم عندما صرنا على الرصيف، سألت أبي:
-من شو زعلان العجوز الذي طردني؟
ضحك أبي:
-كان ينقص أن أُحضر على كتفي عباءتي الحمراء…
-مين يابا اللي سلّم اللد..و..شو كمان؟!
سألني أبي وهو يفرك رأسي المحلوق على الصفر:
-شو رأيك بكعكة وبيضة..ولا برغيف وبقرش حلاوة؟
-رغيف وحلاوة…
وقفنا أمام دكان ودفع أبي ثمن رغيفين والحلاوة، وأخذنا في المضغ.
-عندما تكبر ستعرف سّر غضب القاضي..وستعرف من سلّم اللذ والرملة!.
واندسسنا في باص القدس أريحا، وغفوت مع اهتزاز الباص وأنا أُردد: اللد والرملة.
*الذين سلّموا مدنتي اللد والرملة في حرب ال48 في فلسطين هم الضباط الإنقليز الذين كانوا يقودون الجيش ( العربي).
*في هذه القصة مفردات عامية، هذا مقصود.