احتمال تراجع الأحداث! – مهند النابلسي
شيء واحد جعله يتقبل احتمال ما وقع,وهو ما قرأه منذ أيام في مجلة علمية,ملخصه أنه اذا ما عاد الكون بعد ملايين السنين الى الانسحاق والتقوض,فستبدأ قبل وقوع الكارثة سلسلة من الاحتمالات التي تشبه الخيال العلمي بل وتتجاوزه ,مطيحة بكل مفاهيم المنطق,فألأكواب المحطمة يتجمع حطامها ويقفز عن الأرض رجوعا الى الطاولة …..وتصبح أحداث الحياة كفيلم فيديو مرتجع!!
ضحك من هذا الاحتمال ,وتخيل السيارات تسير بسرعة للخلف والطائرات تعود عكسيا لمقالع انطلاقها,لا بد وأن العالم سيصبح كوميديا في ألأيام الأخيرة قبل حدوث الكارثة,ولكنها نوع من الكوميديا السوداء المرعبة..وماذا عن عودة ألأموات الى الحياة من جديد! وكيف سيخرجون من قبورهم؟ عليهم اذن أن يفكروا بتسهيل عمليات الدفن حينئذ! وماذا سيحدث للمحترقين,المتحولين لرماد؟ وتذكر لوهلة آيات قرآنية من سورة ياسين :”ونفخ في الصور فاذا هم من الأجداث الى ربهم ينسلون,قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا,هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون,ان كانت الا صيحة واحدة فاذا هم جميعا لدينا محضرون”.
وتخيل سياسيا متشدقا وقد بدت كلماته وتفوهاته المزيفة تعود معكوسة بشكل كوميدي ساخر….وهل يتسع الوقت المتراجع حينئذ في عالم كارثي لتأمل المشهد والضحك عليه,أم أن الملهاة تنقلب هنا لمأساة لأن الفعل العكسي الساحق لا يستثني شيئا أو حدثا!
ثم استطرد في تفكيره : يا لخيبة أمل القاتل عندما يفاجأ بالرصاصة تعود مسرعة الى مسدسه,وللسياف المتوحش عندما يرتد سيفه عن رأس الضحية ويعود للالتصاق بالجسد متزامنا مع اندفاع الدم المتراشق رجوعا باتجاه الرقبة,وللمشنوق ينتفض واقفا متحديا جلاده! سخر بحرارة من كل هذه الاحتمالات المثيرة,وانغمس في مجموعة من التمارين العكسية دون ضوابط : ألمطر عندما يعود للسماء, ومياه الأنهار تندفع بعكس مساراتها,والقافزون في رياضة الغطس المائي,الراكضون في سباق الماراثون,السابحون في البرك ألأولومبية,حركات المنافقين وهي تعود معكوسة وتفقد دلالتها,سيجارة المدخن تلتئم متخلصة من حالة الاحتراق مع تراجع أنفاس المدمنين ,تخلص الوجوه والنظرات من كافة الانفعالات والعودة لبراءة الطفولة,ترك الصياد لفريسته والطائر لسمكته والجاني لضحيته !! ثم انزلق في هاوية من السخرية فتخيل ألجنين يعود لبطن امه,وتساءل كيف تحدث عمليات التراجع في حالتي البرق والرعد, وتصور عبثية التراجع في حالة لعبة كرة القدم واحباط المشجعين,واستنتج ان الحركات الايقاعية تبدو متشابهة عند تراجعها مثل المضغ والقهقهة والثرثرة,أما التراجع في حالتي العطس والرعشة الجنسية فيبدو تشنجا غامضا,وسيثير اشمئزازا بالغا في حالتي تناول الطعام والتبرز! ثم أعجبته هذه اللعبة فاستمر في تخيلاته العكسية
,فماذا سيحدث لنص تاريخي سردي,متخيلا كتابة معكوسة للفقرة التالية:” وعندما كان بعض معاوني صلاح الدين يأخذون عليه سخاءه كان يجيبهم بابتسامة مرحة:”من الناس من لا يساوي المال عنده أكثر مما يساوي التراب!” والحق أنه كان يحتقر الغنى والبذخ, وعندما أصبحت قصور الفاطميين الأسطورية في حوزته أسكن فيها امراءه مفضلا السكن في المقر المخصص للوزراء,وهو أشد تواضعا”….واعتقد أن مثل هذه الفقرات تقرأ معكوسة على أي حال,فلا أحد في عصرنا هذا يريد أن يقرأها بشكل مفهوم,لأن من سمات العصر قرأءة تعابير العظماء بالمقلوب,وعلى العموم فقد فقدت كافة التصريحات الرسمية للمسوؤلين مصداقيتها مع ظهور بعد مغاير مناقض في وثائق “ألويكيليكس”! ثم لمع في ذهنه سؤال أخير :كيف يرتد صاروخ “حضاري” سريع مدمر ويعود القهقرى,وكيف يكون شعور الدمار والموت اللحظي العنيف لدى الضحايا الأبرياء,وقد عادوا للحياة في لمحة خاطفة من الزمن بعد أن فقدوا حياتهم فجأة في خطف البصر ! تخيل الانفجار النووي لهوريشيما وقد تراجع الى “القنبلة الشيطانية” وعودة السكان لحياتهم الآمنة!.. هكذا تصبح الأحداث بلا معنى,نوعا من الفراغ الرهيب كثقب” ميتافيزيائي ” هائل في نسيج وصيرورة الزمن!
ثم استوحى أخيرا من الطريق أللولبي الهابط باتجاه الشارع المؤدي لمقر عمله,استوحى فكرة أنارت تلافيف ذاكرته,فقد قرأ أن فيلسوفا عظيما قال :ان الطريق الصاعدة والطريق الهابطة طريق واحد! وبالفعل فالطريق من منزله لعمله وبالعكس هو طريق واحد,وكما التراجع العكسي للأحداث محتمل في الخيال العلمي وربما قبيل نهاية العالم,كذلك فالطريق بين الماضي والحاضر والمستقبل طريق واحد ,ولابد في اعتقادي من وجود كاميرا “ميتافيزيائية” داخل دهاليز الدماغ البشري تفتح في جزء من الثانية وتطلع الانسان على بعض أحداث المستقبل !! وراح يتمتم مع نفسه ….. أجل كل شيء ممكن ..كل شيء محتمل !
مهند النابلسي
كاتب من الاردن