استراتيجيّة ترامب للأمن القومي: أميركا ضدّ العالم – أسعد أبو خليل
المؤرّخ الأميركي، جون لويس غاديس، يعتبر أن إصدار تقرير مفصّل عن الاستراتيجيّة الأميركيّة بصورة دوريّة هو جانب غريب مقارنة بإمبراطوريّات بائدة. كانت الإمبراطوريّات تقوم بعملها ونشر سيطرتها من دون أن تُفصِح عن نوياها. أو هي تُعلن عن نوايا لا علاقة لها بما تضمره من أهداف. لكن استغراب غاديس يكون في محلّه لو أننا اعتبرنا تقرير «استراتيجيّة الأمن القومي» الدوري هو تصريح بأهداف السياسات الأميركيّة بينما من الأفضل قراءته كدليل عن الدعاية السياسيّة، أو عن ما تريد الإمبراطوريّة أن تفصح به، تضليلاً أو تأثيراً.
وكما أن هناك قانوناً يفرض على وزارة الخارجيّة أن تنشر تقريراً سنويّاً عن وضع حقوق الإنسان في العالم، وأن على الحكومة الأميركيّة أن تعدِّل سياساتها ومساعداتها لدول العالم بناء على احترام هذه الدول لحقوق الإنسان (لكن هذا القانون، مثل غيره، لا يسري إلا على خصوم وأعداء أميركا فقط)، هناك قانون منذ عام ١٩٨٦ (قانون غلدويتر- نيكولز) يطلب من كل إدارة إصدار تقرير عن سياستها عن الأمن القومي الأميركي (كان هنري كيسنجر يصدر تقارير عن «حالة العالم» قبل ذلك، وكانت مسليّة لما كان يلجأ إليه من تضليل عن الأهداف الحقيقيّة للإدارة الأميركيّة). وهذا القانون لا يعني بالضرورة أن الإدارة — أي إدارة — ستلتزم بصرامة بتقرير «استراتيجيّة الأمن القومي» وأنها لن تحيد عنها. لكن التقرير يرسم العناوين الرئيسة والكبيرة لسياسات الرئيس الأميركي، أو هو يرسم العناوين الرئيسة لسياسة التضليل والدعاية الخبيثة. وإعلان «استراتيجيّة الأمن القومي» في عام ٢٠٠٢ أسّست مثلاً، أو هي ترجمة كتابةً، لسياسة الحروب الاستباقيّة و«الحرب على الإرهاب»، والتي دشّنها العدوّ (الإسرائيلي) في عام ١٩٦٧ (وجورج دبليو بوش لم يخفِ أنه قرأ كتاب ماكيل أورين عن حرب ١٩٦٧، للاسترشاد بهِ في تعامله مع الغزو الذي كان يقرّره في شأن العراق).
ودور الرئيس الأميركي في صياغة تقرير الاستراتيجيّة دورٌ صغيرٌ جداً، حتى في وجود رئيس منخرط كليّاً في صنع السياسة الخارجيّة لإدارته، مثل باراك أوباما. إن وضع تقرير الاستراتيجيّة هو من نطاق عمل مستشار (أو مستشارة) الأمن القومي في البيت الأبيض، وبالتشاور العام مع الرئيس. كونداليزا رايس هي التي صاغت استراتيجية عام ٢٠٠٢، والجنرال ماكمستر هو الذي صاغ الاستراتيجيّة الجديدة التي صدرت قبل أيّام. لكن الصياغة تستوحي من أفكار ومن خطب الرئيس كي تكتسي كل استراتيجيّة بصماتِ الرئيس الجديد (بيل كلينتون شدّد على الاقتصاد فيما شدّد بوش على محاربة الإرهاب وأوباما على تحسين وضع أميركا في العالم). والرئيس لا يستوحي سياساته من الاستراتيجيّة بقدر ما تستوحي الاستراتيجيّة من سياساته، وهو لن يعود إليها لكن المتخصّصين (والمتخصّصات) يقارنون بين مجرى السياسات وبين بنود الاستراتيجيّة لتبيّن التفاوت بينها، أو لملاحظة المدى الذي تلتزم به الإدارة ببنود الاستراتيجية. والاستراتيجيّة قد تكون، كما الآن، مجالاً لتدشين عناوين سياسيّة جديدة في مجال السياسة الخارجيّة —إما لاختبارها أو لإطلاقها.
وهذه الاستراتيجيّة، مثل غيرها، تتضمّن فكرة جديدة، أو اسم لفكرة جديدة، كي تعطي لنفسها طابع الجديّة الإعلاميّة والرصانة الفكريّة. واستراتيجيّة ترامب أطلقت مصطلح «الواقعيّة المبدئيّة» فيما أطلقت هيلاري كلينتون مصطلح «القوّة الذكيّة» في حملتها الانتخابيّة. وهذه المصطلحات، مثل مصطلح «الحروب الاستباقيّة»، كلّها تشدّد على استعمال القوّة. أي أنه لا يمكن لديموقراطي أو جمهوري أن يصل إلى سدّة الرئاسة من دون الالتزام المسبق والمُعلَن بالإيمان العميق بجدوى استعمال القوّة (الصلبة، لا الناعمة لأن الأخيرة لا تعود على صاحبها بالنفع السياسي الاقتراعي). ومصطلح «القوّة الذكيّة» هو تعبير عن وعد من قبل هيلاري بالاستعداد الكلّي لاستعمال القوّة ونشر الحروب لكن بطريقة «ذكيّة»، أي أنها كانت تقارن مع حروب بوش تراها أنها لم تكن ذكيّة، مع أنها أيّدت الحرب ضد أفغانستان وضد العراق وضد ليبيا، وطالبت بالمزيد من الحروب خصوصاً في سوريا.
لكن ترامب له من الأولويّات ما ليس لأسلافه. لكن استراتيجيّة الأمن القومي هي الرابط من قبل المصالح الإمبراطوريّة التي تتخطّى التغييرات في شخص الرئيس. أي أن كل رئيس، مهما كانت خلفيّاته ووعوده، عليه أن يلتزم بمصالح ثابتة للامبراطوريّة الأميركيّة. ولهذا فإن قدرة الرئيس على إحداث تغيير جذري في السياسة الخارجيّة تبقى ضئيلة نسبيّاً. لقد اضطرّ ترامب مثلاً إلى انتهاج سياسة عدائيّة ضد روسيا برغم من وعوده السابقة بتحسين العلاقات، وهو اضطرّ أن يحافظ على الاتفاقيّة النوويّة مع إيران بالرغم من تذمّره الدائم منها، وهو اضطرّ أيضاً إلى الحفاظ على العلاقة القويّة بين أميركا والنظام السعودي بالرغم من تاريخ طويل له في ذم آل سعود.
لكن مصطلح «الواقعيّة المبدئيّة» في التقرير الجديد يدلّل على ربط رئاسة ترامب بين شعار «أميركا العظمى» أو «أميركا أولاً» وبين مصالح الامبراطوريّة التقليديّة. والموازنة بين المصالح الاقتصاديّة لأميركا (وانعكاس ذلك في السلوك الانتخابي) وبين مصالح الامبراطوريّة العالميّة هي موازنة صعبة، وهي ستؤدّي بترامب إلى أن يخلف وعوده الانتخابيّة. هو لم ينهِ الحرب في أفغانستان، كما أن سلفه لم ينهها. وهو، مثل سلفه، سيشنّ حروباً جديدة، وسيورثها — مثل سلفه — إلى خليفته. يوضّح ترامب أن عقيدة الاستراتيجيّة ستكون «مهتدية بالنتائج وليس بالأيديولوجيا». لكن ما هي الأيديولوجيا التي أثقلت كاهل الإدارات السابقة؟ هو على الأرجح يشير إلى حروب بوش وحملته لتغيير العالم على صورة الامبراطوريّة.
وما كتبته استراتيجيّات سابقة بالتلميح كتبته هذه الاستراتيجيّة —على طريق ترامب نفسه — بالتصريح. هنا، توضّح الإدارة الأميركيّة إصرار الامبراطوريّة على نفي ومحاربة أي منافس للقوة الأميركيّة. هي، كما أشار الخبير في الدراسات الاستراتيجيّة في جامعة إكستر، باتريك بورتر، في مقالة لموقع «وور أون ذا روك»، تُسجّل سابقة في أنها لا تعد بانسجام بين العالم وبين أميركا، بل هي تعد بمنافسة. والاستراتيجيّة (في نسختها الطويلة الكاملة خصوصاً، وليس في مختصرها الذي أعلنه ترامب) تعارض أي تحدٍّ للهيمنة الاميركيّة العالميّة، وتحدّد بالاسم روسيا والصين لأنهما «يتحديان القوة والنفوذ والمصالح الأميركيّة». ويضيف التقرير إلى قائمة العداء الرسميّة دولة كوريا الشمالية وإيران لأنهما «يهزان استقرار المناطق» (كافّة؟) ويهدّدان «الأميركيّين وحلفاءهم»، ويتعاملان «بوحشيّة مع شعوبهم». ويعيد التقرير اجترار الخطاب «البوشي» عن صراع عالمي بين هؤلاء الذين يقدّرون «العزّة الانسانيّة والحريّة» وبين هؤلاء الذين «يقمعون الأفراد ويفرضون التماثليّة». لكن هذا التحديد للصراع يتناقض مع ما جاء في التقرير من أن العقيدة الاستراتيجيّة ستكون متحرّرة من الأيديولوجيا. أليس هذا إقراراً رسميّاً (غيرَ مقصود) في أن التقرير يتضمن في ثناياه صراعاً بين الأجهزة العسكريّة والاستخباراتيّة للإمبراطوريّة وبين ترامب نفسه الذي يريد أن يحرّر الاستراتيجيّة الأميركيّة من عبء الأيديولوجيا؟ لكن الأيديولوجيا الأميركيّة تنزع عن نفسها دوماً صفة الأيديولوجيا وتلصقها بالأعداء، كما تفعل بالنسبة للدعاية. لأن أميركا وحدها هي فوق صراع الطبقات والمصالح والأيديولوجيات. هي — بنظرّها هي فقط – تجسيدٌ للإنسانيّة جمعاء في أبهى تجليّاتها.
وهذا الفاصل الأخلاقي يظهر في ما يرد في التقرير مِن اتهامات لأعداء أميركا وفي ما يرد عن وسائل أميركا الأخلاقيّة. وفي الخلاف بين ترامب وبين أجهزة الاستخبارات الأميركيّة حول الخطط الروسيّة، ينحو التقرير بوضوح نحو موقف أجهزة الاستخبارات إذ يقول إن «اللاعبين الخصوم يستعملون الدعاية (بروباغندا) ووسائل أخرى من أجل تقويض مصداقيّة الديموقراطيّة. وهم يروّجون لآراء معادية للغرب ويروّجون لمعلومات مضلّلة من أجل خلق انقسامات بيننا، وبين حلفائنا وشركائنا». هذا هو موقف أجهزة الاستخبارات الذي رفضه ترامب علناً أكثر من مرّة، والذي يتبنّاه الرئيس الأميركي في التقرير مرغماً لحاجته لأجهزة الإمبراطورية في حكمه. هذا الموقف هو رسم لحدود قدرة الرئيس الأميركي على تغيير دفّة وجهة السياسة الاستراتيجية الأميركيّة. لقد أعلن ترامب بهذا هزيمته أمام أجهزة الاستخبارات والعسكرتاريا، والتي تريد أن تؤجّج الصراع مع روسيا ومع الصين ومع إيران. وقبول ترامب بهذه الرؤية هو بمثابة تشكيك بمصداقيّة فوزه في الانتخابات. وما قاومه ترامب على تويتر سلّم به هنا صاغراً.
وينتقل التقرير من الكلام عن معاداة الصين وروسيا إلى معاداة إيران وكوريا الشمالية ثم معاداة «القاعدة» و«داعش»، في سلّة متنوّعة من العداوات التي يريد الرئيس الأميركي – أو بالأحرى جهاز حكم الامبراطوريّة – أن يغذّيها وينميّها ويسخّر القدرات العسكريّة ــ الاستخباراتيّة للتصدّي لها. وتريد وزارة الدفاع الأميركيّة وأجهزة الاستخبارات أن تزيد من ميزانيّاتها ومن رصد أموال إضافيّة لعملها، وهذا يتطلّب إيجاد أعداء جدد، ويتوجّب أيضاً المبالغة في حجم ومؤامرات الأعداء. هذا كان ديدن وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات في تقديراتها السنويّة للقوّة العسكريّة السوفياتيّة في سنوات الحرب الباردة. ولا تجد الدولة التي ترصد لميزانيّة الدفاع أكثر من كل القوى المنافسة مجتمعة غضاضة في الشكوى من زيادة الانفاق العسكري لأعدائها.
والنزعة القوميّة الاستعلائيّة تجد طريقها في التقرير الذي يزهو بانتصارات أميركا ضد «الفاشيّة والامبرياليّة والشيوعيّة السوفياتيّة». لكن الاعتزاز الأميركي بالانتصارات العسكريّة يتغافل عن أدوار أخرى ساهمت في هزيمة هذه القوى (التقرير يثني على أميركا لهزيمة «داعش» متناسياً أن الذين هزموا «داعش» و«القاعدة» في سوريا هم أعداء وخصوم أميركا تحديداً). كما أن لأميركا استعمارها (المباشر وغير المباشر) وهي ورثت الاستعمار الغربي وزادت عليه أنماطاً جديدة من السيطرة العالميّة. والحديث عن الشيوعيّة وآثامها لا يزال مستمرّاً في أميركا، لكن لا تجد مَن يتحدّث عن الإرث الدموي الوحشي لحركات وأنظمة معاداة الشيوعيّة. لقد كلّفت حركة معاداة الشيوعيّة، والتي سبقت حتى ولادة النظام البلشفي، العالم أجمع أكلافاً بملايين من البشر، حتى أن أميركا تحتسب ضحايا حروبها (في جنوب شرق آسيا وفي الحرب الكوريّة، مثلاً) على أنها مِن ضحايا الشيوعيّة فيما هم من ضحاياها هي.
ويأخذ التقرير على الحكومات الأميركيّة المتعاقبة أنها سمحت لمنافسين بأن يتجرّأوا على منافستها وأن ذلك حدث بسبب التراخي الذي أصاب حالة «الثقة بالنفس» في الإمبراطوريّة الأميركيّة، وأثّر على أدائها.
يأخذ ترامب على أميركا فقدان صلابتها وحزمها في الدفاع عن المصالح الأميركيّة الاقتصاديّة. وتحدّي القوة العالميّة الأميركيّة في السنوات الأخيرة كان خطأ من قبل أميركا، وليس تطوّراً حتميّاً بحكم تغيير موازين القوى في العالم وصعود قوى جديدة لم تكن أميركا تأخذها في الحسبان.
ويردّد التقرير شعارات ترامب الانتخابيّة (وهذا جانب الموازنة بين آرائه الخاصّة ومصالح الإمبراطوريّة التي تتخطّى دور ترامب وأسلافه وخلفائه). يؤكّد التقرير أن الأولويّة هي للمصالح الأميركيّة ولحماية الشعب الأميركي والوطن الأميركي و«نمط المعيشة الأميركي». ويحب الأميركيّون اللهج بالحديث عن «نمط المعيشة الأميركي» وهو في عرفهم نمط معيشة مزدهر ومرفّه وأنه يشكّل هدفاً للضرب مِن قبل أعداء أميركا. وكما أن الشعب والساسة هنا يظنّون أن الديموقراطيّة الأميركيّة هي وحيدة من نوعها (تتفوّق الديموقراطيّات الاسكندنافيّة على النموذج الأميركي بمعايير مختلفة، كما أن مرتبة أميركا في تمثيل النساء السياسي وفي الحريّات الاعلاميّة متدنيّة جداً مقارنة بدول أخرى في العالم)، فإن الثقافة السياسيّة والشعبيّة الأميركيّة تبالغ في حالة الرخاء الاقتصادي السارية هنا مع أن التفاوت في توزيع الدخل هنا يماثل النسبة في روسيا.
وشعار حماية البلاد والشعب ليست إلا وسيلة للمطالبة بإنفاق إضافي على نظام التسلّح. وقد بدأت إدارة ترامب برصد 10.2 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة لإنشاء أنظمة رادار جديدة وأنظمة اعتراض الصواريخ البالستيّة. وهذا المبلغ يُضاف إلى ٤٠ مليار دولار سبق وأنفقته أميركا على نفس البرامج الدفاعيّة. ولاحظت جريدة «لوس انجلوس تايمز» أن ترامب تباهى في حديث إلى «فوكس نيوز» أن أنظمة الاعتراض الصاروخي تستطيع «ان تصيب وتدمّر الصواريخ بنسبة ٩٧٪» بينما لم تتعدَّ نسبة النجاح الخمسين في المئة في التجارب التي أجرتها وزارة الدفاع الأميركيّة على تلك الأنظمة. وهذا يذكّر بنظام «باتريوت» الذي كانت أميركا تقول إنه يصيب الهدف بنسبة ٩٧٪ فيما لم تتعدّ النسبة حسب دراسة لجامعة «إم.آي.تي» أكثر من ٥٪ على أبعد تقدير.
والحديث عن مكافحة الإرهاب لا يختلف عن تقارير سابقة، والوعود هي نفسها. لكن ترامب يزاوج بين أهداف الحماية الأمنيّة وبين شعاراته عن حماية الحدود من المهاجرين، فيجعل من المهاجرين خطراً مُرتبطاً بالخطر «الجهادي»، حسب ما يرد في التقرير. والرئيس الذي ربط بين المهاجرين من المكسيك وبين الاغتصاب والاجرام يحاول اليوم أن يربط بينهم وبين «الجهاد الداعشي». ترامب حسب المنطق الديماغوجي يقتات على مخاوف الجمهور وينمّيها ويبني عليها، لأن في ذلك فائدة سياسيّة له. هكذا أُعيد انتخاب جورج بوش في عام ٢٠٠٤: بحملة من التخويف والترهيب.
والغريب أن اميركا تشكو وتتذمّر من حروب «السايبِر»، أي تلك المحاولات لاختراق مواقع الانترنت وللتجسّس عبرها، وهي تؤشّر أيضاً إلى زرع فيروسات لاختراق المواقع والحسابات. لكن مثل أسلحة الدمار الشامل، ليس هناك مِن دولة استعملت هذه الوسائل أكثر من الحكومة الأميركيّة. والفيروس الالكتروني الذي زرعته أميركا، بالاشتراك مع دولة العدوّ، في البرنامج النووي الإيراني تسرّب في ما بعد إلى كل الحسابات العالميّة. والحكومة الأميركيّة هي بلا منازع أكبر خارق للحسابات والمواقع في العالم، ولقد كشف إدوارد سنودن لنا عن حجم السيطرة التوليتاريّة الأميركيّة الكترونيّاً. و«وكالة الأمن القومي» (المتخصّصة بالتجسس الالكتروني فيما تتخصّص «وكالة الاستخبارات المركزيّة» بالتجسّس البشري) استطاعت أن توجد طرقاً لتشغيل أجهزة تلفزيون «سمسونغ» واستعمالها كجهاز تجسّس ضد مالكها من دون أن يكون الجهاز مُشغّلاً. وهي تستطيع أيضاً أن تشغّل كاميرا الحاسوب من دون علم صاحبه. لكن مكمن الاعتراض هو أن دولاً أخرى باتت تنمّي قدراتها في الحروب السيبيريّة كي تلحق بخطر أميركا الداهم (أميركا استطاعت في عام ٢٠١١ أن تعطّل كل شبكة الانترنت في سوريا في تجربة لقدرات حربيّة الكترونيّة لها، فيما اتهم الاعلام الغربي النظام السوري بالتعطيل آنذاك).
ويحتل الجانب الاقتصادي حيّزاً أكبر من التقارير السابقة عن الاستراتيجية الأميركيّة. لكن التقرير يحمل عناوين عامّة عن الشراكة ومكافحة الفساد «الأجنبي» والعمل على توقيع اتفاقيّات تجارة جديدة من أجل تضمينها قدراً أكبر من المصالح الأميركيّة. ولا ينسى الرئيس الأميركي أن يعد بـ«تخفيض أعباء الضبط» في ما يتعلّق بالأعمال، وهذا يعني بالقاموس الأميركي الاقتصادي تخفيض معايير حماية البيئة وحماية العمّال، أي جعل الاقتصاد الرأسمالي أكثر تفلّتاً (على الطريقة اللبنانيّة).
لكن إيلاء أهميّة كبيرة للتقرير يغيّب طابع الاجراءات الروتينيّة في صياغة هذه التقارير. وهناك أقسام في التقرير منقولة عن تقارير سابقة حتى لو تضاربت مع برامج حاليّة للإدارة الأميركيّة. كيف مثلاً يتحدّث التقرير عن أهميّة العمل الديبلوماسي وعن «تطوير القدرات الديبلوماسيّة» فيما تشنّ الإدارة الجديدة حملة ضد وزارة الخارجيّة وموظّفيها، أدّت إلى تجميد التوظيف في الوزارة للمرّة الأولى منذ سنوات طويلة. والحديث عن التطوير في الديبلوماسيّة ضربٌ من الخيال في ظلّ اقتراح لترامب بتخفيض ميزانيّة الوزارة بنسبة ٣٢٪، وبعد أن ألغى وزير الخارجيّة الأميركي أكثر من نصف المبعوثين للوزارة، وترك عدداً من المناصب الرفيعة في الوزارة فارغة، بما فيها منصب نائب وزير الخارجيّة. ويفهم ترامب العمل الديبلوماسي على أنه ضغط وتهديد لصالح الاقتصاد والمصالح الأميركيّة بصورة عامّة. وديبلوماسيّته في دول الخليج أدّت إلى توقيع اتفاقيّات بمبالغ خياليّة لصالح مصانع السلاح الأميركي. وهذه الاتفاقيّات هي خوّات تدفعها دول الخليج مقابل حماية أميركا لها من التهديدات الخارجيّة والداخليّة (وهذا بالضبط ما كان ترامب يطالب به عبر السنوات. وكلّما زادت المشتريات الخليجيّة من السلاح والبضائع الأميركيّة كلّما تقرّب ترامب منها).
ويفرد التقرير أقساماً خاصّة بمناطق مختلفة في العالم، والقسم المتعلّق بالشرق الأوسط يمكن استخلاص عناوين المرحلة المقبلة منها. هي تحدّد ما لا تقبله أميركا في الشرق الأوسط: ١) نمو الإرهاب الجهادي (هل اميركا تقبل الإرهاب غير الجهادي؟ يبدو ذلك). ٢) سيطرة أي قوة معادية للولايات المتحدة. أي أن أميركا تصرّ على وحدانيّة هيمنتها ورفض أي تحدّي لها. هذا أفضل تعريف لما يسمّى بـ«الاستعمار الجديد». ٣) أي اهتزاز في استقرار أسواق الطاقة. والتقرير، على عادة جديدة توصّل إليها التحالف السعودي – (الإسرائيلي)، يربط بين التنظيمات الجهاديّة (من «قاعدة» و«داعش» وغيرهما) وبين النظام الإيراني. أي أن التنظيمات هذه تدين بالولاء إلى الولي الفقيه، ومَن يناقش هذه الفكرة يُتهم فوراً بالداعشيّة.
لكن التقرير ينمّ عن فكر ترامب حول حدود دعم التغيير في المنطقة فيطالب بـ«الواقعيّة» في النظر إلى الشرق الأوسط، ولعلّ ذلك هو إشارة إلى حروب بوش بعناوينها المختلفة (والمتغيّرة). والتقرير يسجّل «فرص جديدة» في المنطقة، في إشارة إلى التحالف الخليجي مع دولة العدوّ (الإسرائيلي) لمواجهة إيران. والتقرير يعتنق فكرة عريقة عند صهاينة أميركا مفادها أن وجود دولة العدوّ لا تشكّل مصدر مشاكل أو إزعاج في المنطقة، مع أن وزير الدفاع الأميركي الحالي كان قد قال في عام ٢٠١٣ أنه، كقائد للمنطقة الوسطى في القوات الأميركيّة، دفع ثمناً «عسكريّاً وأمنيّاً كل يوم» بسبب الانحياز الأميركي لإسرائيل. لكن نفوذ اللوبي (الإسرائيلي) في التقرير يفوق تأثير وزير أميركي، مهما علا شأنه. وإشارة التقرير إلى «توازن القوى» هو تدليل على الأهميّة التي توليها الإمبراطوريّة الأميركيّة للحفاظ على تشكيلة الأنظمة الرجعيّة في المنطقة لمواجهة أعداء أميركا. النظريّة هذه هي الاسم الحركي للثورة العربيّة المضادة. ويخلو التقرير من العداء التقليدي ضد النظام السوري لا بل هو يتحدّث عن عودة اللاجئين «إلى وطنهم» من دون الإشارة إلى المعارضة السوريّة. أما التغيير في المنطقة، فحدوده هي «تحديث الاقتصاد».
لن يقرأ هذا التقرير إلا قلّة من الخبراء والمهتمّين. حتى الشعب الأميركي لا يدري به. ومن المشكوك به أن يكون الرئيس الأميركي قد قرأ تقريراً صادراً باسمه، لكن هذا رئيس لا يقرأ. وما حاجتنا إلى تقرير عن الاستراتيجيّة الأميركيّة فيما القنابل والصواريخ الأميركيّة والمؤامرات الظاهرة «أصْدَقُ إنْباء» من التقارير الاستراتيجيّة؟