اضرابان…وملهاة بالتزكية! – عبداللطيف مهنا
لم تك تخطر ببالي العودة مجدداً للكتابة حول الانتخابات الأوسلوية في ظل الاحتلال. ذلك لسببين: أولهما، أنها من حيث المبدأ تجري تحت احتلال ولا تعقب تحرراً منه، ثم أنها، وبغض النظر عن نتائجها، والمشاركين فيها، انهزاميين أم مقاومين، فصائليين أم مستقلين، واختلاف الاسباب والاجتهادات والحسابات، محكومة بسقف معاهدة أوسلو الكارثية وتجري في ملعبها وتتم داخل قفصها الاحتلالي. تلكم التي موقفي منها وما افرزته معروف منذ أن عقدت، وهو كان ولا يزال، ولطالما عبَّرت عنه، كما ولن يتغير. يضاف اليه، أنه في ظل الظروف القهرية وفداحة الواقع الاحتلالي الذي تشهده الضفة، والمعطيات الانقسامية في الساحة الفلسطينية عموماً، تشكِّل الانتخابات عموماً مفارقةً لم يعهدها مطلق صراع يفترض أنه يدور بين غاز محتل وشعب يكابد احتلاله، أو ما يفترض أنها مواجهة بين حركة تحرر ومستعمر استيطاني اقتلاعي احلالي يستهدف نفي أصحاب الأرض مادياً ومعنوياً ووجوده اصلاً نقيض لوجودهم. وثانيهما، أنني كنت قد عالجت الموضوع مؤخراً في مقالين متلاحقين وبعنوانين كانا على التوالي: “في ملعب أوسلو”، و”ديموقراطية اوسلوية”، وكانا وبما لا يخلو من تفصيل قد تضمنا هذين السببين المشار اليهما.
لاحقاً كنت أميل لما ذهب إليه البعض حين توقَّع تأجيلاً للانتخابات راداً ذلك لبائن الخلافات بين اجنحة وعشائر “فتح السلطة”، وتعالي المطالبات من داخلها، وبعض عرب التصفية، بتأجيلها تفادياً لخسارتها، لاسيما، وربما على غير ما كان المتوقع، اعلان حماس والفصائل الأخرى باستثناء الجهاد الإسلامي نية خوضها. البعض كان يرى أنها لم تُطرح اصلاً إلا لكي ترفض الأخيرة خوضها وبالتالي احراجها. كما وذهب البعض إلى التحذير من انعكاسها سلباً على “الوحدة الوطنية”، في حين أن آخرين تفاءلوا بأنها رغم محليتها قد تسهم في التجسير بين طرفي الانقسام، وحتى كان هناك من حلم بكونها فاتحة تواتر لما بعدها تشريعياً ورئاسياً، وتعداهما إلى المجلس الوطني وإعادة احياء رميم المنظمة.
ها هنا مغالطة تمرر عادة في جلبة معتاد تكاذب فلسطيني مزمن حول منشود وطني واستحقاق ضرورة ممنوع من الصرف اوسلوياً، ذلك أن الانقسام، وفقما هو المفترض، أو ما يزعم، يقوم على تناقض لا يمكن جسره لأنه يفصل بين برنامجين لا يلتقيان، احدهما انهزامي مساوم والآخر رافض مقاوم. وعليه، فالوحدة الوطنية تستحيل هنا في غياب ما هو أقل من برنامج حد ادنى مجمع عليه وطنياً، وبالتالي، وبالضرورة، هو لن يكون في هذه الحالة إلا مقاوماً. أما عكسه فليس سوى التحاق احد الطرفين ببرنامج بالآخر، وهذا الآخر، وفق واقع الحالة الأوسلوية المستعصية، لن يكون إلا المهزوم المساوم.
بالإعلان عن قوائم مرشحي المحليات قطعت جهيزة قول كل خطيب. ثبت ما كنا لا ننفك نردده، وهو أن الأوسلويين قد ذهبوا بعيداً في هاوية نهجهم وليس في نيتهم ولا في مقدورهم العودة عن ما هم هووا باتجاهه. أما كيف سيخرجون عبثية انتخاباتهم؟ فليس هناك ما يمنعهم ولا ما يردعهم من أن يقرروا سلفاً نتائجها ويعلنوا لاحقاً فوزهم فيها. لقد احتاطوا للأمر سلفاً ويقومون باللازم. أي مرشح في الضفة الغربية خارج قوائمهم هو مرشح للاعتقال، وعلى مثل هؤلاء انهالت التهديدات المباشرة وغير المباشرة، وصل الترهيب حد الوعيد بسجن اربع سنوات بدلاٍ من السنين الأربع لمن يطمح برئاسة مجلس محلي خلالها!
هذا السياق يبدو ناجعاً ويأتي أُكله. وما الذي يمنع ؟ فالفصائل أسيرة عجزها، والاحتلال المهيمن هو إلى جانب من ينسِّق أو يتخادم معه، بل باتت المنافسة موضوعياً هي بين السلطة والمحتل، وسنبين هذا لاحقاً، كما أن ثنائي الغرب المتصهين وعربه يباركون نتيجته سلفاً…لقد افضى عن 180 قائمة فائزة من الآن بالتزكية من بين 416 هيئة محلية، واسفر عن قوائم واحدة ل”فتح السلطة” بعد أن قررت مركزيتها فصل كل من يرشح نفسه من منتسبيها خارج قوائمها، بل تم التوافق، بضغط من عرب الاعتدال والتصفية، إلى توحيد قوائم جناحيها في غزة، ابومازن-دحلان، بقدرة قادر وبعد كل ما صنع الحداد بينهما…هنا ما يذكِّرنا بعملية فرض أبو مازن خليفةً لعرفات!
…لعل هكذا واقع هو ما اسهم في دفع الفصائل لأن تحجم عن المشاركة بقوائمها الخاصة وتلجأ لدعم مشتركة مع مستقلين، الأمر، الذي في ظل هكذا أجواء تعززت فيها العشائرية والجهوية، قد دفع بالمشهد لأن يتكشَّف عن خطورة ما قلنا آنفاً أننا سنبيَّنه وهو تنافس السلطة مع محتلها في انتخاباتها، هذا المحتل الذي لم يعد بخاف على أحد دعمه المباشر لشخصيات وعائلات ممن يصفهم ليبرمان ب”العرب الأخيار”، أي ممن باتت مصالحهم ترتبط مع المحتلين، أو ينتمون إلى تلك الشرائح التي نمت وتكوَّنت في ظل سلطة اقتاتت على هامش تخادمها معهم، أما الهدف فابتزاز السلطة بالتلويح لها بفزاعة روابط القرى بديلاً إن هي لم تحسن ما درجت عليه من تخادم.
…هَزُلت حد أن نشهد تزامناً لإضرابين في سياق المتعارف عليه بمقاومة “الأمعاء الخاوية”، واحدهما المعهود في سجون الاحتلال، والآخر المستجد في سجون سلطة الحكم الذاتي الإداري في خدمة الاحتلال، وكليهما احتجاجاً على اعتقال اداري دون تهمة ولمدد تجدد، أي غير محدودة…وأن تبرر السلطة اعتقالها لمضربي سجن بيتونيا، ومن بينهم اسير محرر، بسببين نقيضين: “لتشكيلهم خطراً على الأمن العام الفلسطيني”، و”لحمايتهم من الاحتلال”!!!