اغتصاب فلسطين.. وقراءة لما حدث – المستشار رشيد موعد
في تاريخ 15/5/1948 كانت النكبة… فلسطين تضيع نتيجة التواطؤ الدولي والأممي معاً.. هذه النكبة، أو بالأحرى «التغريبة» الفلسطينية، حصلت بعد الجولة العسكرية الأولى التي خاضها العرب ضد الغزاة الصهاينة مغتصبي الأرض المقدسة، فلسطين، شارك فيها خمسة جيوش عربية من مصر، سورية، الأردن، العراق ولبنان.
بدأت الحرب في الخامس من أيار وانتهت بعقد اتفاقيات الهدنة، كان السبب المباشر لنشوب هذه الحرب تصميم الصهاينة والقوى الدولية المؤيدة لهم على إقامة الكيان الإسرائيلي في فلسطين بناء على قرار التقسيم رقم (181) الذي أصدرته الأمم المتحدة في تاريخ 29/11/1947 وقد سعت الجيوش العربية التي دخلت الحرب إلى حماية الشعب العربي الفلسطيني من الاحتلال الصهيوني من جراء الغزوة الصهيونية، كما هدفت –في الوقت ذاته- إلى إعادة الأمن والسلم إلى فلسطين. وفي تاريخ 16/9/1947 عقدت جامعة الدول العربية اجتماعاً في مدينة صوفر في لبنان قررت فيه تقديم أقصى ما يمكن من الدعم، وبشكل عاجل، لأهالي فلسطين في حال تنفيذ قرار التقسيم، وفي اجتماع آخر عقد في عاليه- لبنان يوم 15/10/1947 قرر العرب أيضاً تقديم 10آلاف بندقية مع ذخائرها وتأليف لجنة عسكرية لإعداد الدفاع عن عروبة فلسطين.
وعند صدور قرار التقسيم، وفي غمرة الغضب الشعبي، دعت الجامعة العربية إلى عقد اجتماع في القاهرة يوم 8/12/1947 حضره رؤساء وزراء الدول العربية صدر في ختامه بيان جاء فيه: «إن الحكومات العربية لا تعترف بقرار الأمم المتحدة، وتعدّ التقسيم باطلاً من أساسه وهي تقف إلى جانب استقلال فلسطين وسيادتها، وستتخذ من التدابير الحاسمة ما هو كفيل بإحباط مشروع التقسيم وخوض المعركة من أجل ذلك».
وهكذا أعلن العرب الحرب، ووقوفهم إلى جانب إخوانهم في فلسطين، وفي الوقت ذاته عقد الصهاينة عزمهم على إنشاء كيانهم الغاصب في فلسطين بعد أن استمدوا قوتهم من قرار الأمم المتحدة، عندها هبّ عرب فلسطين من خلال جيش الجهاد المقدس وكان تعداده آنذاك (8-10) آلاف مقاتل وبمساعدة جيش الإنقاذ الذي تعداده من (3-4) آلاف مقاتل يدافعون عن وطنهم ضد قوات الاغتصاب الصهيونية التي بلغ تعدادها آنذاك حوالي 67 ألفاً، اعتمدت هذه القوات في تسليحها على ما كانت تستورده من أوروبا وتحصل عليه من القوات البريطانية، وقد استعدت هذه القوات التي كانت مؤلفة في معظمها من عصابات الهاغانا والآراغون وشتيرن والبلماخ، فحصنت مستعمراتها تحصيناً قوياً، ودربت الصهاينة ضد أي هجوم عربي. كان البريطانيون، في هذا الوقت، وبصفتهم «الوصائية» على أرض فلسطين بموجب صك الانتداب الأممي الصادر في تاريخ 24/7/1922 يتظاهرون خلال هذا الصراع «بالوقوف على الحياد»، في حين كانوا يدعمون عملياً المنظمات الإرهابية الصهيونية ويزودونها بالسلاح والذخائر.
أعلن «دافيد بن غوريون» في تاريخ 14/5/1948 قيام الكيان الإسرائيلي على جزء من أرض فلسطين العربية وشكل حكومة مؤقتة لها، وبعد 11 دقيقة سارعت الولايات المتحدة الأميركية إلى الاعتراف بها, ثم توالت بقية الاعترافات من الدول الأخرى المؤيدة للصهاينة.
وقد أكدت لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين آنذاك أن الحكومة البريطانية، بوصفها الدولة المنتدبة، اعتزمت سحب قواتها العسكرية وإنهاء مهام قوة الشرطة الفلسطينية المحلية المتكونة من عرب ويهود يوم 15/5/1948، على أن تترك معداتها وأسلحتها ومستودعاتها للسلطات التي تخلفها.. وقد استغلت المنظمات الصهيونية حالة الفراغ الناجمة عن انسحاب السلطات البريطانية لتستولي على جميع مخلفاتها من المعدات والسلاح والمؤسسات والمنشآت، وإزاء هذا الوضع، وإزاء تكرار الاعتداءات الوحشية الصهيونية على القرى العربية الفلسطينية وارتكاب أبشع المجازر في كل من دير ياسين وكفر قاسم والطنطورة وصفورية وقبية، وقرى الشجرة ولوبية والدوايمة، وتقاعس السلطات البريطانية عن تنفيذ واجباتها في الإشراف على الأمن وحفظه حتى قيام سلطة فلسطينية وفقاً لما نص عليه صك الانتداب ولاسيما المادة 22 منه.
وبمواجهة هذه التحديات لم يعد أمام الدول العربية من خيار سوى التصدي لهذا الغزو الصهيوني الاستعماري لفلسطين بالقوة، فاضطرت إلى دفع قواتها النظامية المسلحة لحماية أرض فلسطين وشعبها من القتل والتشريد ولمنع قرار التقسيم.
إذا كانت الصهيونية قد وجدت في «وعد بلفور» الصادر في تاريخ 2/11/1917 وفي صك الانتداب الدولي في تاريخ 24/7/1922 غطاء لاغتصاب فلسطين بهجرات يهودية متتالية، فإنها عدّت قرار التقسيم «دعوة شرعية» لإقامة كيانها الغاصب، وسارعت في استكمال استعدادها لفرض كيانها بالقوة داخل «حدود مؤقتة» مرددة شعار «هاشومير» الذي نادى به دافيد بن غوريون: «بالدم والنار سقطت اليهودية.. وبالدم والنار سوف نعود من جديد»، وكان متزعمو عصابات الهاغانا قد قرروا وضع تفاصيل خطة عسكرية للاستيلاء على أوسع مساحة ممكنة من أرض فلسطين قبل انسحاب القوات البريطانية، وتمكنت العصابات الإرهابية الصهيونية خلال الشهر ونصف الشهر، أي حتى تاريخ 15/5/1948 من السيطرة على المنطقة «المخصصة» لكيانها الغاصب المشار إليه بقرار التقسيم رقم (181) لعام 1947 إضافة إلى مناطق أخرى وأتمت استعداداتها لمهاجمة القوات العربية النظامية عند تدخلها لنجدة عرب فلسطين.
أصرّت بريطانيا رغم الموقف الأمني المتدهور في فلسطين واستمرار مناقشة هذا الوضع في الأمم المتحدة على تنفيذ قرارها بالانسحاب النهائي من فلسطين في تاريخ أقصاه 15/5/1948، ونظراً لاقتناعها بعدم قدرتها على فرض هذا القرار بالقوة مع وجود المقاومة العربية العنيدة المتصاعدة، وضعت مخططاً جديداً يتلخص في تمكين العصابات الصهيونية من الاستيلاء على أكبر عدد من القوات والمعسكرات البريطانية في فلسطين خلال فترة وجودها وبدعم منها، مع خلق الظروف الدافعة لتشريد العرب من المناطق التي رأت بريطانيا أنها ضرورية لقيام الكيان الإسرائيلي.
وتنفيذاً لهذا المخطط بدأت القوات البريطانية تنسحب على مراحل بدءاً من تاريخ 19/2/1948، ولم تتم عملية الانسحاب من المناطق العربية ومناطق وجود الصهاينة في آن واحد، إنما بدأت الجلاء عن مناطق وجود الصهاينة بالتواطؤ مع تسليم السلطات الإدارية إلى الوكالة اليهودية، إضافة إلى تسليمها المعسكرات والمطارات ومستودعات الذخيرة، خلافاً لنصوص صك الانتداب والمواثيق الدولية.
أما في المناطق العربية، فقد ظلت جميع القوات البريطانية حتى آخر أيام الموعد المحدد للانسحاب، تمارس صلاحيتها واضطهادها للشعب العربي الفلسطيني ومنع استعداداته العسكرية للدفاع عن نفسه أمام الهجمات المنظمة التي أخذت العصابات الصهيونية تشنها على السكان العرب، ومنعت السلطات البريطانية إدخال الأسلحة إلى المناطق العربية ودخول المتطوعين العرب إلى فلسطين، وكانت تعتقل وتحكم بأقصى العقوبات كل من يثبت من العرب حيازته السلاح.
في منتصف ليلة 15/5/1948 دخلت الجيوش العربية أرض فلسطين، ورغم المعوقات التي واجهتها، حققت هذه الجيوش في الأيام الأولى من عملياتها العسكرية تقدماً ونجاحاً ملحوظين، فقد شن اللواء الأول في الجيش العربي السوري هجوماً على المواقع الصهيونية المحصنة قرب مدينة سمخ، ما اضطر الصهاينة إلى الانسحاب إلى مستعمرة «دغانيا» التي دخلتها القوات السورية في اليوم ذاته، بعدها انطلقت القوات العربية السورية نحو هدفها، تتقدمها الدبابات والعربات المدرعة، وسرعان ما اخترقت دفاعات مستعمرة «دغانيا» الصهيونية، وفي صباح السادس عشر من أيار قام سلاح الطيران العربي السوري بقصف أماكن وجود العصابات الصهيونية في مدينة سمخ ومستعمرات الحولة.
كما شنت القوات العربية السورية هجوماً منسقاً إذ نجح لواء المشاة الثاني في خرق دفاعات العدو الإسرائيلي، واستعاد ثلاث نقاط استراتيجية محصنة في مستعمرة «مشمار هايردن» وتابع ضغطه على العصابات الصهيونية، ونجحت المدرعات السورية في عبور واجتياز نهر الأردن، وتمكنت من التغلب على المواقع المعادية، ودارت رحى معركة قاسية وعنيفة هناك انتهت بسقوط مستعمرة «مشمار هايردن» في يد القوات العربية السورية، كما قام اللواء الأول السوري في الوقت نفسه بشن هجوم على مستعمرة «عين غيف» ما دفع الولايات المتحدة الأميركية، تحت وطأة الضربات العربية الموجعة لعصابات الصهاينة، أن تطلب من مجلس الأمن التدخل لوقف إطلاق النار، فجاء القرار رقم (50) تاريخ 29/5/1948 القاضي بوقف إطلاق النار، وكانت الهدنة الأولى بين العرب والعدو الصهيوني والتي امتدت من تاريخ 11/6 وحتى 9/7/1948، وخلال هذه الهدنة قامت العصابات الصهيونية بتعزيز قواتها بالأسلحة والذخيرة وبتحسين مواقعها خلافاً لنصوص الهدنة وقرار مجلس الأمن.
وفي تاريخ 15/7/1948 أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم (54) المتضمن فرض هدنة في فلسطين «للمرة الثانية» وقد بدأ تطبيقها في الساعة 17 من يوم 18/7/1948 بعد أن تمكنت العصابات الصهيونية خلال عشرة أيام من القتال من احتلال مساحات واسعة من أرض فلسطين.
لم يجعل مجلس الأمن، لهذه الهدنة، زمنا محدداً حيث تحولت مع مرور الزمن إلى هدنة دائمة، وما زالت إلى يومنا هذا.. فلسطين أرض عربية. طال الزمن على احتلالها أم قصر.