الآذان سلاحٌ جديدٌ ووسيلةٌ أخرى للمقاومة – د. مصطفى يوسف اللداوي
بات الآذان سلاح الشعب الفلسطيني كله، كما كان الحجر يوماً في انتفاضته الأولى الباسلة سلاحه الوطني الأصيل، يلتقطه كل مقاوم، ويحمله كل طفلٍ، وتجهزه كل امرأة، ويتسلح به كل رجلٍ، ويملأ حقائب التلاميذ ويزين قبضات الأطفال، إذ كان سلاحاً وطنياً بامتيازٍ، يملكه كل الشعب، ولا يجد صعوبةً في الحصول عليه أو اقتنائه، ولا تقوى دولة الاحتلال على حصاره وتجفيف منابعه أو السيطرة عليه أو التقليل منه، أو مواجهته بالمعطف أو ببساط الريح أو بصواريخ الباتريوت والسهم بكل أجياله أو بالقبة الفولاذية أو غيرها.
كان الحجر متوفراً بكثرة، يصنعه الشعب، وتتوفر مواده الأولية بسهولةٍ وكثرةٍ، وتجود به الأرض بصخورها وحجارتها المقدسة، وإذا عزَّ وجوده وقلَّ انتشاره فإن الفلسطينيين يخلعون حجارة بيوتهم ويكسرونها لشبابهم، لتكون سلاحاً بأيديهم، يشجون به رؤوس العدو، ويرشقون به سيارات مستوطنيه، ويصنعون بها الحواجز ويضعونها عراقيل أمام حركة العربات العسكرية الإسرائيلية.
وقد أتقن الفلسطينيون جميعاً استخدام سلاح الحجارة وبرعوا فيها، حتى كان راشقوها يتنافسون ويتبارون في الشج والإصابة، ثم استخدموا “الشُدِّيدَة النُقيفة” والمقلاع في مواجهة جنود الاحتلال، وقد كان للحجارة الفلسطينية المقدسة أثرها السياسي والمادي في صفوف العدو الإسرائيلي، الذي ترنح جريحاً متألماً وسقط سياسياً متراجعاً، وقدم ما لم يكن يحلم أن يقدمه أو أن يتنازل عنه بغير القوة وقهر السلاح، فضلاً عن أن الحجر قد أصبح رمزاً للشعب الفلسطيني، يروي حكايته ويسرد قصته، ويفرض على المجتمع الدولي عدالة قضيته.
وكما كان الحجر قديماً هو السلاح وما زال، فقد أصبح الآذان مثله، سلاح الأمة كلها والشعب بأسره في كل مكانٍ، يستخدمه كل فلسطيني، ويلجأ إليه كل مقاوم، ويقوى على استعماله القادر وغير القادر، والمكلف وغير المكلف، والصغير والكبير والحر والسجين، في المسجد والسوق، وفي الجامعة والمدرسة، وفي البيت والشارع، وفوق المباني وعلى قمم الجبال، ولا عذر لأحدٍ في التخلي عنه وعدم استخدامه، في كل الظروف والأوقات، وأياً كانت الأزمات والنكبات، طالما أنه يكيد العدو ويغيظه، ويزعجه ويؤلمه، ولا يطيق أن يسمعه، ولا يقوى أن يوقفه، ويخشى منه ويخاف من صاحبه.
يذكرني التحدي بالآذان بالشيخ المجاهد المرحوم أبي أيمن محمد طه، وهو أحد مؤسسي حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وقد كان مدرساً، ومشهودٌ له بالكفاءة والقدرة العلمية في اللغة العربية وآدابها وفنونها، وقواعدها وإعرابها ومخارج حروفها، كما كان شيخاً عابداً، وعالماً عاملاً، ومتحدثاً خطيباً، وكان كثير السجن الاعتقال، وقد خبره العدو الإسرائيلي عنيداً لا يقاوم، وصلباً لا يكسر، إذ جربوا معه مختلف وسائلهم في التحقيق والتعذيب، وأدخلوه لأيامٍ طويلة غرف العصافير فثبت في الأولى ولم يضعف، وصمد أمام العملاء ولم يجبن، ولم ينبس لهم أو أمامهم ببنت شفه، بل بقي على عناده نظيفاً، وعلى صلابته طاهراً، فأعيا العدو وأزعجه.
في معتقل النقب الصحراوي، حيث كنا معاً في العام 1989، كان الشيخ محمد طه يصر على الآذان فجراً بصوتٍ عالٍ تسمعه الأقسام الأخرى، ويصحو معه المعتقلون لأداء صلاة الفجر، فكان حراس السجن يهبون أمام بوابة القسم، يصرخون على أبي أيمن ليكف عن الآذان، وليسكت عن النداء، ولكن جهودهم باءت كلها بالفشل، فلم يجدِ معه تهديدٌ بالعقوبة، ولم تنفع تحذيراتهم له، ولما عزلوه في زنزانةٍ بعيدة، كان يصدح بالآذان في وقته، ويرفع عقيرته مكبراً خمس مراتٍ في اليوم والليلة، فيدخل عليه الحراس ليسكتوه ولكنه يصر على تمام الآذان حتى نهايته، ويؤديه أمامهم بكل طمأنينةٍ رغم البنادق التي تحيط برأسه، وتهدد بتفجيرها إن لم يسكت، ولكنه العنيد بالحق، والصلب في العقيدة يواصل مكبراً وينهي موحداً.
ولكن الأكثر جرأةً وشجاعةً في أبي أيمن طه، ويشهد على ذلك عددٌ كبيرٌ من الأسرى والمعتقلين، أنه كان يصر على الآذان وقت تعداد الأسرى “السفيرا”، حيث يكون جميع الأسرى والمعتقلين وقوفاً أو وجوههم إلى الخلف، أو قعوداً بعد انتهاء العدد، فإذا ما حان وقت الآذان، هب أبو أيمن من مكانه واقفاً، وكبر عالياً، ورفع الآذان واثقاً، في الوقت الذي كان فيه الجنود يهربون من القسم، ويغلقون بوابته، وينادون على جنودٍ آخرين فيأتون مسرعين، يحملون اسطوانات الغاز الخانقة، وأحياناً يفتحون فوهاتها السامة عليهم، علهم يتمكنون من إسكات أبي أيمن، ولكن هيهات لأي قوةٍ في الأرض أن تخرس الحق وأن تسكت الأحرار.
الإسرائيليون قد عضوا أصابعهم ندماً على ما أقدموا عليه، وشعروا أنهم سببوا لأنفسهم أرقاً وقلقاً كانوا في غنىً عنه، فقد باتوا يسمعون الآذان في كل مكانٍ، أينما التفتوا وتحركوا، وحيثما توجهوا وذهبوا، في أوقات الصلاة وخارجها، وفي مناطقهم أو بعيداً عنها، فقد باتوا يسمعون أصوات المؤذنين وصيحات الله أكبر في كل مكانٍ تحيط بهم وتكاد تخنقهم، وتضيق بهم الأرض وكأنها ستبتلعهم، فهذا حاخامٌ إسرائيلي يصرخ ويقول “حاولنا منع الآذان في القدس فتحولت كل شوارعها وبيوتها إلى مساجد تصدح بالآذان، حتى شعرنا بالرعب منه”.
كانت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تشكو من مساجد المسلمين التي تصدح كل يوم مآذنها بالآذان، فباتت اليوم تشكو من كنائس المسيحيين الفلسطينيين الذين أعلنوا تضامنهم مع إخوانهم المسلمين فرفعوا الآذان من أعلى قباب كنائسهم، وجعلوه جنباً إلى جنبٍ مع أصوات أجراسهم، في الناصرة ورام الله وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور، في ممارسةٍ نضاليةٍ تضامنيةٍ رائعةٍ غص بها الاحتلال وبكى، وتألم ندماً على أن الحربة التي أطلقها قد ارتدت إلى نحره وأصابته في قلبه، وبات له مع كل يومٍ مفاجئة جديدة، لا يعرف من أين تأتيه ولا كيف تباغته، ولكنه يعلم يقيناً أنها ستصيبه وستضره وستضعفه.
لن يسكت الآذان لأنه شعارنا، ولن يخفت صوت المؤذنين لأنهم يتنفسون الآذان ويتعبدون إلى الله به، وسيبقى في أرضنا خالداً وعالياً يصدح لأننا سنبقى فيها ما بقيت الأرض والسماء، وسنحرص عليه لأنه هويتنا وشارة وجودنا وعلامة بقائنا، شاء من شاء وأبى من أبى، ومن ضاق بالآذان ذرعاً فليرحل، ومن يزعجه نداء الله أكبر فليذهب.