الأردن.. الخلفية السياسية للاحتجاجات الشعبية – موفق محادين
في هذه اللحظة تحديداً، يبدو أن الرفع الجنوني لأسعار المحروقات في الأردن، الذي يكاد يكون الأكبر في العالم، هو السبب المباشر وراء حركة الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي عمّت الأردن انطلاقاً من الجنوب (معان والكرك والطفيلة)، وخصوصاً احتجاج قطاع الشاحنات الذي يتعرض لتصفية مبرمجة منذ سنوات لمصلحة مشروع السكك الحديد، الذي يربط حيفا بالخليج عبر الأردن، ومن مظاهر ذلك، إضافةً إلى السياسات الرسمية للأوليغارشية النافذة الفاسدة، قرار السعودية ودول الخليج تقليص عمر الشاحنات إلى 5 سنوات، وهي فترة لا تكفي لسد أقساطها.
أما الحقيقة، إضافةً إلى تغول الأوليغارشية الحاكمة على الطبقات الشعبية برفع الأسعار وغيرها، فتتمثل في أن الاحتجاجات الشعبية ليست سوى محطة أخرى على طريق متراكم طويل من الانتفاضات المماثلة ابتداء من نيسان 1989، وغالبيتها ذات طابع مطلبي بحت بخلاف الشعارات السياسية المعروفة للثورات الملونة، مع أن الإجراءات الحكومية نفسها إجراءات سياسية شديدة الصلة بالسيناريوهات الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية عبر الأردن.
فبإضافةً إلى السياق العام لفلسفة السوق والليبرالية المتوحشة وتحويل الدول إلى بلديات كبيرة، ثمة ما يقال عن السياق الصهيوني المذكور، وذلك بتوفير الشروط الموضوعية لأجندته المعلنة المعروفة، ومنها سيناريو البنيلوكس (مركز إسرائيلي ومحيط أردني فلسطيني تابع و “جسر ستيت” مع الخليج).
ولقد صار متداولاً في الأردن التساؤلات الشعبية المعروفة، في كل مرة يقوم فيها الإعلام الرسمي بالإساءة إلى الاحتجاجات الشعبية والتعاطي معها كأعمال شغب واعتداءات على الممتلكات والموارد العامة وزعزعة الاستقرار وتهديد الأمن الوطني.
من هذه التساؤلات، تلك التي تحيل الاعتداءات إلى مصدرها الحقيقي ممثّلاً في الأوليغارشية النافذة الفاسدة، فهي الجهة الوحيدة التي تطاولت على الموارد العامة مثل الفوسفات والبوتاس ونهبتها باسم الخصخصة، فضلاً عن قيامها ببيع قطاع الاتصالات وتأجير أماكن أثرية مثل البتراء وعدد من القلاع التاريخية.
وهو ما لم يقتصر على حرمان الموازنة هذه الموارد وإخراج مئات الآلاف من سوق العمل، بل زاد على ذلك استبدالها بمنظومة جائرة من الضرائب لا مثيل لها في العالم، وتقع على كاهل الطبقات الشعبية في مقابل نسبة ضئيلة من مشاركة النهابين والكومبرادور في الدخل العام للدولة، ويشار هنا إلى أن رفع أسعار المحروقات الذي فجّر الغضب الشعبي، هو الأعلى في العالم وتشكل عائداته ملياراً وربع مليار دينار (1.75 مليار دولار) كما يشكّل نسبة عالية من عائدات الضرائب الجائرة بحد ذاتها (6 مليارات دينار).
من التساؤلات الأخرى، تلك الخاصة بالمعزوفة الدارجة في الإعلام الرسمي عن تهديد الأمن الوطني، فيما الحقيقة أن تهديد هذا الأمن وانتهاكه جريا ويجريان بسبب معاهدات وادي عربة وتبعاتها في كل الحقول والنشاط الصهيوني وشبكاته بأقنعتها المختلفة، وفتح البلاد للقواعد الأميركية بلا حسيب ولا رقيب، وذلك إضافة إلى الخضوع التاريخي لإملاءات البنك وصندوق النقد الدوليين، وهي الإملاءات المسؤولة عن اتساع دوائر الجوع والبطالة المتزايدة وحرمان الطبقات الشعبية الحد الأدنى من الأمان الاجتماعي للسلع والخدمات الأساسية.
الخلفية السياسية العامة.. من الدولة الوظيفية الريعية إلى دولة الجباية
إلى ما قبل “سايكس بيكو” و”وعد بلفور”، كان الأردن كما فلسطين ولبنان جزءاً من سوريا الطبيعية، وكانت هذه المناطق مقسمة إلى متصرّفيات مرتبطة بولايات دمشق وحلب، وكان بعضها يحول إلى مراكز ولايات بين الحين والحين مثل صيدا وطرابلس، أو إلى إدارات مستقلة مثل جبل لبنان (كسروان والمتن والشوف).
بعيد الاحتلالين البريطاني والفرنسي لسوريا الطبيعية، وبخاصة بعد سقوط أول دولة سورية موحدة إثر معركة ميسلون، اقتُسم الشرق العربي برمته بين هذين الاحتلالين، ومن ذلك وضع شرق الأردن تحت الانتداب البريطاني وإقامة إمارة هاشمية فيه، تحوّلت إلى مملكة تمهيداً لإلحاق ما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية لنهر الأردن) بالمملكة.
وعلى الرغم من تكامل أجنحة البرجوازية البيروقراطية والكومبرادور أو تعبيراتها الأردنية والفلسطينية داخل المطبخ السياسي للمملكة، إلا أن ثمة مسافة ظلت قائمة بينها فيما يخص الكوتا السياسية والاقتصادية لكل منها، واللعب على الشحن الإقليمي لهذه الغاية.
وعلى وجه العموم، اتّسمت الدولة بكل أجنحتها وعلى مدار سنوات تأسيسها بالسمات التالية:
- السمة الوظيفية، وكان من أبرز تجلياتها أن الدولة قامت على الفيلق الذي أسسه الإنكليز، وأن المجتمع انبثق من الدولة وليس العكس.
- السمة الريعية، المرتبطة بالسمة الأولى؛ فمع أن الاقتصاد الأردني لم يكن ريعياً بالمعنى المتعارف عليه الناجم عن النفط أو الغاز أو غيرهما من الموارد، إلا أن طابعه الريعي (الإنفاق الحكومي) كان مستمداً من المساعدات البريطانية ثم الأميركية في إطار وظيفته الإقليمية.
- السمة العمودية، وذلك في مقابل العلاقات الأفقية السابقة على تأسيس الإمارة، التي كانت تربط شمالي الأردن بشمالي فلسطين وجنوبي الأردن بجنوبي فلسطين، وهكذا، وهو ما يتضح في الموروث المحلي لهذه المناطق، ويؤكد أن الأردن وفلسطين قبل “سايكس بيكو” و”وعد بلفور” لم يكونا تشكيلات كيانية قطرية بالمعنى المتعارف عليه حالياً، خارج سوريا الجنوبية.
في الحصيلة أخذ الأردن شكله الرسمي العمودي الجديد على إيقاع وعد بلفور، وإقامة كيان صهيوني على امتداد الساحل الجنوبي السوري.
- السمة العازلة للأردن (البافرستيت) الذي يفصل فلسطين المحتلة عن المحيط العربي.
أما التحوّل الكبير الذي طرأ على هذه السمات، فجاء مع التحولات الدولية والإقليمية في نهاية عقد ثمانينيات القرن الماضي، وهي التحولات التي يمكن مقاربتها ضمن الأطر التالية:
1- الإطار العام الذي ترافق وانهيار الاتحاد السوفياتي وسيناريوهات تفكيك الدول التي توصف بالشمولية، وأدى إلى انهيار سياسات الدعم الاجتماعي في معظم بلدان العالم، وهي السياسات التي كانت تعرف بالسياسات الكينزية (نسبة إلى الاقتصادي البريطاني كينز، الذي كان يدعم هذه السياسات المعروفة برأسمالية الدولة – الاشتراكية الدولية).
هكذا أدى الانهيار السوفياتي إلى إطلاق الوحش الليبرالي وحرية الأسواق وتحجيم الدولة وسياسات الدعم الاجتماعي وملاحقة ما يعرف بالدول الشمولية في كل مكان.
2- الإطار الإقليمي، فبعد تفكيك الدولة الكنزية، بدأ تفكيك دول الشرق العربي ذات الصلة بالصراع العربي – الصهيوني، وإعداد المنطقة لصفقة القرن، وقد كان ربيع الفوضى وأدواته التكفيرية والأصولية والبرتقالية عنوان هذه المرحلة.
3- الإطار الخاص، الذي يتعلق بتفكيك الدولة الأردنية وتحويلها إلى اتحاد كانتونات جهوية في إطار مشروع البينيلوكس (مركز إسرائيلي ومحيط أردني فلسطيني) وذلك من خلال تصفية التعبيرات الثلاثة للمجتمع:
- المجتمع عموماً وبخاصة الطبقة الوسطى، بما هي القاعدة الاجتماعية للدولة القديمة.
- المجتمع السياسي ممثلاً في الدولة.
- المجتمع المدني ممثلاً في الأحزاب والنقابات عبر إضعافها واستبدالها بخليط من المجاميع ما قبل الرأسمالي وجماعات المجتمع المدني (NGOs).
فقد تولى فريق البنك وصندوق النقد الدوليان هذه المهمة عبر آليات الخصخصة ومشروعات الضرائب المختلفة وإنهاء الدعم الاجتماعي للسلع والخدمات الأساسية.
والنتيجة، تحوّل الحكم من جهة ريعية، إلى جهة نهابة تريد من الفقراء أن يمولوا فسادها الذي دفع مديونية بلد صغير مثل الأردن إلى 30 مليار دينار وهو ما يعادل 40 مليار دولار تقريباً.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.
المصدر الميادين