الأرمن ضحيّة التاريخ والمصالح الدولية – حسني محلي
أثبتت تطورات السنوات الأخيرة أن الدول الغربية، وروسيا، لم تستوعب مخططات إردوغان الإقليمية والدولية، هذا بالطبع إن لم يكن لهذه الدول حسابات أخرى تريد أن تصفيها مع تركيا في الزمان والمكان المناسبين.
نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبعد اتصالات متتالية مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في إقناع الطرفين الأذربيجاني والأرميني بالتوقيع على اتفاق شامل لإنهاء الاقتتال والجلوس على طاولة المفاوضات. إذاً صحّت التوقعات التي تم التطرق إليها في مقال سابق نشر في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي تحت عنوان “بعد سوريا.. هل من أستانا جديدة للقوقاز؟“.
وشمل الاتفاق، كما حصل في اتفاق “أستانا”، بنوداً تتعلق “بمناطق خفض التصعيد، ونشر قوات حفظ سلام روسية على طول خطوط التماس بين الطرفين، ومشاركة المراقبين الأتراك في هذه القوات” وفق ما أعلن الجانب التركي، كما هو الحال في نقاط المراقبة في جوار إدلب، وفق اتفاق “سوتشي”.
وقد أثبتت هذه التطورات صحة المعلومات التي كانت تتحدَّث عن اتفاق مسبق بين إردوغان وبوتين، الذي عبّر أكثر من مرة، ومعه وزير خارجيته سيرغي لافروف ورئيس مخابراته سيرغي ناريشكين، “عن القلق من نقل المرتزقة من سوريا والشرق الأوسط إلى كاراباخ”، وهو ما نسوه جميعاً بعد إلحاق الهزيمة بالأرمن، على الرغم من تضامن لافروف العاطفي معهم، لأن والدته أرمنية الأصل، وإلا لم يكن سهلاً على أذربيجان المدعومة من تركيا بكل أنواع الأسلحة أن تتوغل داخل كاراباخ بمناطقها الوعرة جداً، مع وجود اتفاقية للدفاع المشترك بين موسكو ويريفان.
كما ليس سهلاً على تركيا أن تتواجد في منطقة القوقاز عبر أذربيجان بهذه السهولة لولا الضوء الأخضر الروسي، كما كان في آب/أغسطس 2016، عندما دخل الجيش التركيّ إلى جرابلس، وفي كانون الثاني/يناير 2018 عندما دخل إلى عفرين، وفي تشرين الأول/أكتوبر 2019 إلى شرق الفرات، ليصبح إردوغان صاحب القول النهائي في مجمل أحداث سوريا وتطوّراتها.
ومهما قيل عن انتقام بوتين من رئيس الوزراء الأرميني باشينيان، لأنه تحدى روسيا بعد أن أصبح رئيساً للوزراء قبل عامين، فقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن الأرمن كانوا مرة أخرى “ضحية الصراعات الإقليمية والدولية”، وفيها لموسكو دائماً حساباتها الخاصة!
وللتذكير، فقد شجعت كل من روسيا وبريطانيا وفرنسا وحرضت الأرمن على التمرد ضد الدولة العثمانية التي كانوا مواطنين فيها، إلا أن الجميع ضحى بهم قبل وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي هزمت فيها الدولة العثمانية.
وقد تعرّض الأرمن لعمليات تشريد اعتباراً من نيسان/أبريل 1915 حتى نهاية الحرب العام 1918، من دون أن تحرك الدول المذكورة ساكناً لمنع هذه العمليات التي يسميها الأرمن “الإبادة الجماعية”، ويقولون إن 1,5 مليون أرمني راحوا ضحية لها.
ترفض أنقرة هذه الاتهامات، وتقول إن الأرمن تمردوا على الدولة العثمانية، وإن عملية التهجير باتجاه سوريا، وقليلاً إلى العراق وإيران، كانت بصدد إبعادهم عن جبهات القتال مع روسيا، وإن مئات الآلاف من الأرمن والأتراك لقوا مصرعهم في المعارك، ومات الكثيرون بسبب المجاعة والأمراض.
ورغم أنّ اتفاقية “سايكس بيكو” (1916) لم تتبنَّ حقوق الأرمن، ورجَّحت عليها منح بريطانيا فلسطين للصهاينة، فإن اتفاقية “سيفر” (آب/أغسطس 1920) تحدثت عن دولة كردية وأخرى أرمنية في جنوب الأناضول وشمال شرقها، من دون أن تلتزم فرنسا وبريطانيا، ومعها أميركا أيضاً، بهذه التعهدات، بعد انسحاب روسيا الشيوعية (1917) من التحالف الاستعماري.
وقد سقط اتفاق “سيفر” بعد قيام الجمهورية التركية في العام 1923، وأغلق الجميع ملف الأرمن، وبقي لهم ما بقي (29,743 كيلومتراً مربعاً) داخل حدود الاتحاد السوفياتي، أي أرمينيا الحالية، بإمكانياتها الفقيرة، إذ ليس فيها زراعة أو صناعة أو أي من المقومات الاقتصادية، بل وحتى البشرية، وسكّانها الآن أقل من 3 ملايين، وهناك حوالى 7 ملايين في الخارج.
ولم يمنع ذلك يريفان من استغلال الفراغ السياسي والعسكري بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فسيطر الأرمن في العام 1992 على إقليم ناغورنو كاراباخ، وهو داخل أراضي أذربيجان، كما احتلوا 7 مدن أذربيجانية خارج حدود الإقليم المتنازع عليه.
وقد فشلت أذربيجان طيلة السنوات الـ28 الماضية في استرجاع أراضيها، بسبب دعم واشنطن والعواصم الغربية وموسكو للأرمن. وكان اللوبي الإسرائيلي دائماً ضدهم، حتى يستمر احتكار اليهود للتعاطف الدولي مع ضحايا ما يسمى بـ”المحرقة النازية”، ليقال عنهم إنهم الوحيدون في التاريخ الذين تعرضوا لمثل هذه الإبادة.
ورغم ذلك، لم يستخلص رئيس الوزراء باشينيان الدروس والعبر من تجربة الجارتين جورجيا وأوكرانيا، عندما أوصل الغرب أتباعه إلى السلطة عبر الثورات الملونة، إلا أن حكامها الجدد أرادوا أن يتحدوا روسيا التي تدخّلت في اوكرانيا فسيطرت على شبه جزيرة القوم كما سيطرت على اوسيتيا الجنوبية وابخازيا في جورجيا التي تنافسها فيها فرنسا ( الرئيس المشترك لمجموعة مينسك مع روسيا وأميركا) بعد أن تمّ انتخاب زورابيشفيلي في أيلول/سبتمبر 2018 رئيسة لها وقد ولدت في باريس وتحمل الجنسية الفرنسية.
وحتى لو لم يكن واضحاً الثمن الذي سيدفعه باشينيان الذي سيطاح به قريباً، فالحديث عن “صفقة روسية-تركية” هو الأهم في مجمل أحداث كاراباخ الأخيرة التي راح الأرمن ضحية لها، ليكرر التاريخ نفسه من جديد. فلو استخلصوا الدروس اللازمة من كل ما عاشوه منذ العام 1915، لما سمحوا للتاريخ بأن يكرر نفسه، وبهذا الشكل، فقد راحوا ضحية “صفقة” جديدة بين الأتراك والروس، وبتجاهل العواصم الغربية، أي باريس ولندن وواشنطن، التي وقفت موقف المتفرج تجاه الأحداث الأخيرة، كما تخلت قبل 100 عام عن “سيفر”، واعترفت لاحقاً بالجمهورية التركية الحديثة التي أعلن عنها مصطفى كمال أتاتورك.
وأياً كانت حسابات بوتين في نشر قوات حفظ سلام على طول حدود التماس بين الأرمن والآذريين، تحت قيادة الجنرال رستم عثمانوفيتش مرادوف (من مواليد داغستان التي تجاور أذربيجان)، الذي عمل سابقاً في سوريا وأوكرانيا، فقد كذّب الكرملين تصريحات إردوغان والرئيس عالييف اللذين تحدثا عن اتفاق مع موسكو لنشر مراقبين أتراك في المنطقة وهو ما يتحدث عنه كل المسؤولين الاتراك ويسوق له الاعلام الموالي وكانه انتصار قومي عظيم كما هو في سوريا!، ليكون واضحاً أن موسكو لن تدخل بعد الآن في أي مواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع تركيا، سواء كان في سوريا أو القوقاز، وربما في أماكن أخرى مرشحة إلى مثل هذا الاحتمال.
وهنا، يتحدث البعض في موسكو عن اتفاق محتمل بين بوتين وإردوغان للتعاون “في السراء والضراء” في كل المناطق التي تتناقض فيها مصالح الطرفين، كما هو الحال في سوريا، والآن في كاراباخ، ولاحقاً في ليبيا، في حال فشل المخطط الأميركي – الألماني لتحقيق المصالحة الوطنية فيها، على أن يبقى الحديث عن نية ومساعي بوتين للاتفاق مع إردوغان على إقامة تكتل إقليمي جديد هو الأكثر إثارة، ما دام مضطراً إلى أن يضع مصالح روسيا، وقبل الآخرين، بعين الاعتبار في علاقاته مع إردوغان، وإن كانت هذه المصالح على حساب الآخرين، كما هو الحال في سوريا، والآن في أرمينيا، في الوقت الذي تستبعد ذكريات التاريخ مثل هذا الاتفاق الاستراتيجي الذي سيغير من مجريات الأحداث في المنطقة والعالم، والسبب في ذلك بسيط، وهو أن إردوغان، بدوره، يحسب أكثر من حساب في علاقاته مع روسيا، فهو بعد أن تبنى ورقة الإسلام السياسي عالمياً، وتحت غطاء السلطنة والخلافة العثمانية، يعتقد أنه الأقوى، وأن الأوراق التي يمتلكها تفوق الأوراق التي يملكها بوتين، كما أنه أقوى من الدول الأوروبية، شرط أن يحظى بدعم واشنطن أو يضمن حيادها.
وقد أثبتت تطورات السنوات الخمس الأخيرة أن الدول الغربية، وروسيا أيضاً، لم تستوعب مخططات إردوغان الإقليمية والدولية ومشاريعه. هذا بالطبع إن لم يكن لهذه الدول حسابات أخرى تريد أن تصفيها مع تركيا في الزمان والمكان المناسبين.
وسيكون هذا هو الرهان بعد الآن على كل ما سنراه ونسمعه من أحاديث مكشوفة، وفي الخفاء، عن حوار وتنسيق وتعاون وتحالف بين بوتين وإردوغان، اللذين أديا معاً دور البطولة في مسرحية كاراباخ التي قد تتحول إلى إدلب ثانية، ودون أن يكون واضحاً كيف تنظر طهران الشريك الثالث في استانا إلى مجمل هذه التطورات، وهي جارة لكل من أذربيجان وأرمينيا وتركيا.
- حسني محلي
- 13 تشرين ثاني 2020
باحث علاقات دولية ومختصص بالشأن التركي