الأزمة السّودانية ومراهقة الحلول: دروس من تجربة النميري – معمّر نصّار
إمتدّ حكم الرئيس جعفر نُميري من مايو 1969 وحتى أبريل 1985، ولا بد من تقسيم فترة حكمه إلى مرحلتين متمايزتين إلى حدّ بعيد، لأن كلًّا منهما شهدت توجّهات وتحالفات وسياسات نقيضة للأخرى. فبينما قام انقلاب العقيد جعفر نميري فترة صعود الخطاب الوحدوي والقومي العربي، الذي قاد حركة التحرر من الإستعمار وتحت قيادة جمال عبد الناصر، تمثّل النميري خطوات الحكم الناصري وفق ممارسة كانت شائعة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي تجارب الإستقلال الناشئة. وهكذا حلّت الأحزاب وتكوّن الإتّحاد الإشتراكي العربي وحاول النميري إرغام الحزب الشيوعي السّوداني وكوادره على الدّخول إلى تنظيمه الجديد بحيث يبقى تنظيمه التنظيم السياسي الوحيد في البلاد. وأمام مقاومة الشيوعي لعملية الدمج نشبت الخلافات الّتي تفجّرت في انقلاب هاشم العطا 1971 (هاشم العطا هو العضو رقم 9 في مجلس قيادة ثورة مايو 1969) ثم عودة النميري في انقلاب مضاد حظي بتأييد القوى الثورية العربية، خصوصًا العقيد القذافي الذي نظر للانقلاب ضد نميري كمحاولة ارتدادية ضد الوحدة العربية والقومية العربية. وأيّاً كان تقييم الأطراف بدا النميري شاباً ثورياً قومياً يكافح مع زملائه في حركة التحرّر الوجود الاستعماري، ويحاول بناء قاعدة صناعية، فقام بتأميم عدد من الصناعات الأجنبية مثل سكر كنانة (الذي أنشأ كمنصة مخابراتية للولايات المتحدة الأميركية بالأساس عن طريق شركة ألمانية في الظاهر)، كما ومساعدة الاتحاد السوفييتي في بناء مصنع للصلب وعدد من مصانع النسيج. قام أيضاً بدفع مشروع الجزيرة إلى الأمام، وسعى إلى تكوين وحدة عربية تمثّلت في مفاوضات الاتحاد الثلاثي بين مصر وليبيا والسودان بدفع وإلحاح من معمر القذافي، وهكذا شرع النميري في تأسيس القطاع العام وأجهزة الرقابة والتسعير وتحسين نظام التعليم ونشر المدارس الثانوية في الولايات البعيدة وراحت الداخليات الحكومية للطلاب تقدّم السّكن والطعام والملابس والكتب لطلاب الجامعات الثانويات.
كذلك عرف السّودان بطاقات الدعم السّلعي، وأوليّات الرعاية الصحية، بإنشاء مستشفيات الخرطوم الكبرى التي لا تزال قائمة حتى اليوم. بعد وفاة عبد الناصر واحتدام الأزمة بين نميري ورفقائه الشيوعيين القدامى من جهة وجفوة العلاقات مع السوفييت وتصاعد سياسة السادات النقيضة من جهة أخرى، وجد نميري نفسه بلا ظهير مدني يسانده في ظلّ الضعف الذي بدا واضحاً في الاتحاد الاشتراكي، الأمر الذي دفعه للانقلاب على نفسه.
عام 1975 بدأت أول عمليات تفكيك القطاع العام وتخفيف قبضة الدولة عن السوق وبدأ السودان يدخل في الأزمات المتوالية. بُعيد توقيع السادات معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني قاطعت جميع الدول العربية مصر ونقلت مقر الجامعة العربية إلى تونس. لكن الخرطوم وحدها أبقت على علاقاتها مع مصر، واستمرّ النميري في دعم السادات والثناء على مبادرته للسلام، وبدأ السودان منذ ذلك الوقت يتلقى معونات أمريكية وأوروبية متقطّعة ساهمت في الابقاء على شعبيّته. كما اقترض النميري من المؤسسات الدولية لكنّه كان يتصرف في تلك القروض بطريقة شراء الأصوات فكان يوزع السلع الغذائية مجاناً على الشعب لتعود الأوضاع مرة أخرى إلى ما كانت عليه. وهكذا بقيت الأمور بين شدّ وجذب حتى وجد النميري ضالته في نصيحة الترابي بتغيير الدستور، بحيث يصبح رئيساً مدي الحياة مسؤولاً أمام الله لا أمام الشعب، فأعلنت قوانين سبتمبر 1983 بتأييد من الحركة الإسلامية. التي عمدت إلى إعادة إحياء عقوبات توقفت الدولة الإسلامية عن تطبيقها منذ القرون الأولى للفتوح الإسلامية، واختراع أخرى بناء علي قياسات تحيزية مغرضة فلسفها الترابي بطريقة سخّرت الدين في سبيل تثبيت سلطة نميري والتنكيل بكلّ من اعترض عليه. وهكذا حدّد النميري توجّهه للمرحلة التي تلت بتحالفه رسمياً مع الإخوان المسلمين وتعيينه الترابي مستشاراً عام 1977. منذ ذلك التاريخ استمرّ النميري في تفكيك تركته وشطب إنجازاته لينتهي به المطاف في فضيحة نقل يهود الفلاشا إلى الكيان الصهيوني. كان كلما أوغل النميري في علاقاته بالأمريكان كلما اشتدّت الأزمات الاقتصادية حتي وصلت الأوضاع عشية انتفاضة نيسان/أبريل 1985 إلى حدّ لم تعد الحكومة فيه قادرة حتى على توفير الوقود لعربات الشرطة، فأصيبت الدولة بحالة من الشلل. والمفارقة، أنّها كانت ذات القرارات التي كتبت نهاية حكم عمر البشير لاحقاً. وللحقيقة فهذه كانت نهايات حكومات في بلدان متعددة من العالم أيضاً. وهي نفسها تسببت في إعلان إفلاس المكسيك سنة 1978، وأسقطت المكسيك في وحل الجريمة والمخدرات والبطالة الشاملة المزمنة. والمحزن إنه لا تزال تلك السياسات تجد من يدافع عنها بل وينادي بها من قبل أولئك الذين تصدروا المشهد السياسي والفكري منذ يناير 2011 في المنطقة، وكأنها سياسات غير موجودة أو مفتقدة بطريقة تبعث على الحنق. على أننا يجب أن نرصد أن الحنق ضد النميري لم يكن شاملاً كل الخريطة السكانية للسودان فكما قلنا بقيت اقتصادات الريف والبادية، وهي تضم الغالبية السكانية تحظى باستقلال كبير، وتعيش نوعاً من الاكتفاء الذاتي. فلم تتأثّر بموجات الغلاء الفاحش كثيراً، بل جاء التأثّر محدوداً ومقتصراً على عاداتها المحدثة مثل استخدام سكّر المائدة مع شحّ المواد، فعاودت استعمال المُحَلِّيات البيئية التقليدية، وهذا مثال بسيط على أن النميري في سياساته الاقتصادية الاجتماعية في مرحلته الثانية إنما أضرّ سكّان المدن الكبيرة وهي التي تحرّكت ضدّه في أبريل 1985 لأن تلك المجتمعات المدينية كان ظهرها للحائط واقتصادياتها مرتبطة بالسوق بشكل كامل.
* دكتور مصري مقيم في السودان
المصدر: موقع “الخندق” + كنعان