الأرشيففلسطين

الأسير المقاتل – زهير كمال

وأطول أهل الحرب عمراً شهيدها

                تميم البرغوثي 

بتاريخ 9 أكتوبر 1967، استشهد تشي جيفارا، استطاعت المخابرات المركزية الأمريكية الوصول إليه في جنوب بوليفيا، كان آخر ما قاله قبل اعدامه:

(أطلق النار يا جبان، انك لن تقتل سوى رجل).

ما الذي يجعل وزير الصناعة ترك منصبه المريح في كوبا بعد تحريرها، ثم الذهاب الى أدغال بوليفيا ليعيش حياة الثوار المتقشفة مرة أخرى؟ إنها الفكرة، فالمناصب والحياة العادية لا تناسب تفكير رجل ثوري.

سجل جيفارا اسمه في سجل الخالدين وأصبح علامة فارقة في التاريخ الإنساني، أصبح أيقونة للثورة ضد الظلم والقهر والاستغلال.

المؤكد أن الأسير يحيى السنوار، القارىء النهم، قد قرأ سيرة حياة جيفارا وبقيت عالقة في ذهنه فكرة التخلي عن المنصب الذي لا يعني شيئاً لثائر.

كما أن منصب وزير الصناعة الكوبية سعى لجيفارا ، فإن منصب رئيس المكتب السياسي لحماس سعى ليحيى السنوار، فالصفات القيادية المتوافرة في الرجلين تفرض نفسها على المحيطين بهما فيكلفون بتولي المناصب الرفيعة. وهذا مثل حي على أن المنصب تكليف لا تشريف.

كل عظيم مر على البشرية كانت له شخصيته المميزة، لكن أحياناً يمر هؤلاء العظام، في مراحل معينة من حياتهم، بظروف متشابهة، لننظر مثلاً إلى نلسون مانديلا حيث قضى في السجن 27 عاماً، خرج بعدها ليعيش في قصر مخصص لرئاسة جنوب أفريقيا، بينما نجد أن يحيى السنوار قضى في السجن 22 عاماً، تدرج بعد خروجه ليصبح زعيماً لحماس بلا منازع. الفرق هنا، ونظراً للمرحلة التي وصل اليها الصراع، أن السنوار عاش في الأنفاق طيلة عام كامل، أي أنه انتقل من السجن الإسرائيلي الى سجن آخر من صنعه، لكن لا نستطيع في هذا التحليل أن نفرض وجوده طيلة المدة  حبيساً في النفق، فاكتشافه بالصدفة مقاتلاً متخفياً يفترض أنه كان يلجأ للأنفاق إذا دعت الضرورة فقط.

استكمالاً للمقارنة مع مانديلا، اكتفى الرجل بفترة رئاسية واحدة، وضع فيها الأسس لبناء دولة طبيعية بدون عنصرية، أكثر من ذلك أنها دولة تحارب العنصرية في هذا العالم كما شاهدنا في القضية التي رفعتها ضد إسرائيل. بينما نجد أن السنوار كان ما زال على رأس عمله عند استشهاده.

في 13 فبراير 2017 أنتخب السنوار رئيساً لحركة حماس في غزة، يعتبر هذا المنصب من أهم المناصب في الحركة نظراً لسيطرة حماس على القطاع،  ظهر بعدها تغيراً استراتيجياً في توجهات الحركة بوجه عام ، هذا التوجه لم يكن موجوداً خلال فترة تولي اسماعيل هنية لهذا المنصب، ولكن اختيار هنية كرئيس للمكتب السياسي لحماس، كخلف لخالد مشعل، ساعد في بلورة هذه السياسة الجديدة، وهذا دليل أن أهل غزة ( هنية والسنوار) المحاصرين والمهمومين بالشأن الفلسطيني فقط يهتمون بالهم الوطني قبل أي اعتبار آخر.

أول فعل على الأرض في التوجه الجديد، كان توحيد الفصائل الفلسطينية في الغرفة المشتركة التي يتم تفعيلها أثناء المعارك مع إسرائيل، هذا أمر منطقي أن يكون هناك قيادة موحدة تسيّر الوحدات المقاتلة وتنسق عملها.

في رواية الشوك والقرنفل التي كتبها السنوار أثناء وجوده في سجون الاحتلال، كان محور القصة، عائلة فلسطينية تعيش في أحد مخيمات القطاع ، كان الانتماء السياسي للأبناء الكبار موزعاً بين الفصائل الفلسطينية المختلفة ولكنهم كانوا موحدين عندما يجتمعون في غرفة الأم التي تحبهم كلهم بالرغم من مناقاشاتهم الصاخبة بعض الأحيان. والأم في هذه الحالة هي فلسطين التي تحب كل أبنائها.

توسع التوجه الوحدوي ليشمل توثيق العلاقة مع حزب الله وإعادة الاعتبار للعلاقة مع سوريا بعد أن شابها الكثير في المرحلة السابقة، كما تم الاعتراف بفضل إيران في الدعم المستمر للمقاومة الفلسطينية.

عززت هذه الاستراتيجية الجديدة دور حماس في المنطقة فأصبحت لاعباً رئيسياً فيها. وهكذا برز اصطلاح وحدة الساحات الذي تم بروز دوره الفاعل فيما بعد، بعد طوفان الأقصى.

في خطابه الذي استهل به محمد الضيف طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر، كان أول بند على جدول الأعمال موضوع الأسرى الفلسطينيين في داخل السجون الإسرائيلية، معاناتهم وعذاباتهم المستمرة ، التي ذاقها السنوار نفسه والتي قضى زهرة شبابه فيها، كان هذا وعد السنوار لهم بعمل كل ما يستطيع للإفراج عنهم.

تم تطبيق شعار وحدة الساحات على الأرض، إذ بدأ الشهيد حسن نصر الله في اليوم التالي شن الهجمات على إسرائيل إسناداً لغزة. ظهر هنا معدن نصرالله الحقيقي، الذي شكك فيه كثير من الجهلة، كان بإمكانه القول إن حماس لم تستشره في الأمر ولهذا فهو لا يستطيع نظراً للظروف الداخلية اللبنانية أن يسند هذا القرار المتسرع والى آخر مثل هذه الادعاءات والمزاعم.

علينا أن نسجل هنا نقطة في غاية الأهمية، أنه لولا قرار حسن نصر الله الهجوم وإسناد غزة، لما كان هناك شيء اسمه طوفان الأقصى. كانت الضربة الأولى أقسى مما يمكن أن تهضمه إسرائيل وقادتها، كانت هذه أول مرة تستطيع قوة عربية دخول (أراضيها) بالقضاء على فرقة عسكرية باكملها، وهي فرقة غزة، ثم احتلال مستعمرات الغلاف المحاذي الذي سمح  بتدفق أهل غزة المدنيين على هذه المستعمرات وأسر بعض من يعيش هناك.

لأول مرة ترفض وتماطل إسرائيل في موضوع تبادل الأسرى، وطالما غنت إسرائيل على أهمية الفرد فيها وطالما اسمعتنا مدى تحسرها على آرون أراد ومصيره ، لم يكن يهمها مثلاً استبدال ما يزيد عن ألف معتقل فلسطيني مقابل جندي بسيط اسمه جلعاد شاليط، رغم أن ما أسرته حماس والمقاومة ليس بالعدد القليل. كانت عين إسرائيل هذه المرة على أهمية المعتقلين الفلسطينيين لديها، لو تم إطلاق سراحهم فإن هذا سيؤدى إلى تغير بنية فتح في الضفة الغربية، وهي بنية مريحة للاحتلال. وقد لوحظ في خلال المفاوضات العبثية بين حماس وإسرائيل موافقة الأخيرة على اطلاق سراح المعتقلين بشرط ذهابهم الى أي مكان في العالم سوى الضفة الغربية، الأمر الذي رفضته حماس. فإحداث تغيير في هرم السلطة الفلسطينية ووقف التنسيق الأمني (الذي ذكره الضيف في الخطاب بداية)،  هو تمهيد لكنس الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية. وكان هو الهدف الاستراتيجي لحماس من بدء معركة طوفان الاقصى، وهو هدف يجمع عليه كل الشعب الفلسطيني بعد انحراف شلة رام الله وارتمائها في أحضان إسرائيل.

مع انضمام اليمن والعراق إلى طوفان الأقصى أصبح واضحاَ استمرار وقوف الشعوب العربية من المحيط الى الخليج الى جانب الحق الفلسطيني، وقد أظهر إغلاق باب المندب في وجه الملاحة المتجهة الى إسرائيل مدى الإمكانيات التي تملكها دول المنطقة والتي تستطيع توظيفها ضد المحتلين الأجانب، ظهرت بوضوح هذه الأهمية بإسراع الولايات المتحدة وبريطانيا الى البحر الأحمر ومشاركتهما مع آخرين في شن الهجمات على أنصار الله .

ولأول مرة في التاريخ، تهب شعوب العالم لتأييد الحق الفلسطيني والوقوف ضد الابادة والإجرام الإسرائيلي غير المسبوق. ولا شك أن التغيير الجوهري في تلقي المعلومات في عصرنا هذا لعب دوراً حازماً في هذا التغيير، سابقاً كانت المعلومات تصل الى المتلقي عبر التلقين من وسائل مسيطر عليها من الأخطبوط الرأسمالي الصهيوني مثل التلفزيون والصحافة، أما اليوم فكل من يحمل هاتفاً محمولاً يمكن أن يصبح صحافياً يوصل الخبر لكل العالم من خلال شبكة الإنترنت.

تحليل استشهاد يحيى السنوار:

ما يعرف عن السنوار مثلما وصفه رفاقه أنه لا يستطيع الوقوف ساكناً لفترة طويلة (مقابلة مامون أبو عامر)، ولهذا من المتوقع أنه كان ينتهز الفرصة للخروج والقتال، رغم أنه ناهز الستين من عمره، أمر كهذا يشجع رفاقه الشباب على بذل الجهد الكبير من أجل الانتصار في المعارك وكذلك من أجل حمايته. هكذا تفوق السنوار على جيفارا الذي استشهد وهو يقترب من الأربعين في العمر، ولا أتوقع أن صحة السنوار تساعده على سرعة الحركة بعد أن قضى شبابه على طعام السجون، ولكن ما يعوض هذا قوة إرادة غير عادية لاحظناها حتى النفس الأخير من حياته. وإن كان من لوم يوجه لشهيد فانني ألومه على مشاركته في القتال الفعلي، فهناك قيادات تاريخية لا تتكرر ومسيرة الكفاح ما زالت طويلة. ترى هل كان مرتاحاً أن رفاقه في الدرب سيكملون المسيرة بعده كما خطط لها؟ لن نعرف الإجابة على هذا السؤال الآن، ولكن المؤكد أننا نحتاج الى عناده وتصميمه أكثر من أي وقت مضى.

ترك السنوار إرثاً عظيماً لا ينسى في التاريخ الفلسطيني. كان القرار السياسي ببدء طوفان الأقصى هو قراره، وهو قرار صائب ولكن في منتهى الخطورة. وكان التحضير ليوم 7 أكتوبر من صنعه كرئيس لحماس في غزة، شاركه في هذا التحضير الذي استمر فترة طويلة قيادة القسام محمد الضيف ومروان عيسى ومحمد السنوار. والمؤكد أن صورته جريحاً مقاتلاً حتى النفس الأخير ستطبع في أذهان الملايين ولأجيال عديدة قادمة. وعندما نصف يحيى السنوار فلن نقول إنه جيفارا الفلسطيني أو مانديلا الفلسطيني بل إنه السنوار الأممي.