الألوان والأسرى الفلسطينيون وخبراء الهندسة البشرية – د. رأفت حمدونة
أثناء مطالعتي لقضية تأثير الألوان على النفسية والأعصاب ، لفت انتباهي بالتجربة كأسرى ومحررين مخزون تأثير تلك الألوان التي صاحبتنا طوال فترة اعتقالنا وصاحبتنا بعد التحرر ، وبقيت على فترة طويلة من الزمن ترتبط شرطياً بوقائع وأحداث وهموم ومعاناة ، وحينما راجعت تلك القضية علمياً وجدت أن الدراسات النفسية لعلماء النفس بالفعل أثبتت أن الألوان لها تأثير كبير يصل إلى أعماق النفس البشرية وتصاحبه لسنوات طويلة، فمن الناس من يحب ارتداء طقم أو لون معين كونه أبدع ونجح وتجاوز صعوبة كبيرة وهو يلبسها والعكس، ومن الناس من يكره اقتناء سيارة بلون كونه مر بحادث سابق فى سيارة بنفس اللون ، وعموماً قال علماء النفس أن الألوان من لها انعكاس إيجابي يعبر عن الراحة والسعادة والطمأنينة ، ومنها السلبي الذي يثير مشاعر القلق والاضطراب والاكتئاب والحزن والكره عند أي ارتباط بأمر ما ،بالإضافة إلى تأثير الألوان بشكل واضح على الحالة المزاجية والصحية والنفسية للبشرية، فالألوان استخدمت قديماً وحديثاً للعقاب كما استخدمت للعلاج ، والألوان لها تأثيرها السلبي والإيجابي على سلوك وشخصية المستهدف ، إن كان اللون ( فاتح أو داكن، والفترة التي يتحملها الشخص بتكرار نفس اللون ، وانعكاس هذا اللون على الشخص على المدى البعيد .
فاذا كان العالم وفى دول أوروبية عدة خلال السنوات الأخيرة وعلى رأسها سويسرا تقرر اختيار ألوان السجون وطلاء زنازينها باللون الوردي الفاتح، كونه يعمل على تهدئة الأعصاب للأسرى ، عمل خبراء الهندسة البشرية في دولة الاحتلال “الإسرائيلي” والمتخصصين في أحوال الأسرى الفلسطينيين بشكل دقيق وعميق على انتقاء الألوان المعتمة والداكنة كالبنى والأزرق الداكن ، في مساحة ضيقة وخافتة الإنارة والمحاطة بالرطوبة ، وفرض أولئك على الأسرى اختيار الألوان ، على صعيد جدران السجن ، ولون الباب والشباك المصفح بالحديد ، واختيار لون واحد للملابس التي يسمح بدخولها من الأهالي أو عبر الكانتين ، ومحاولة فرض اللون البرتقالي في العام 2008 محاكاة للولايات المتحدة الأمريكية التي صورت الإرهابي مرتدياً هذا اللون لتشويه نضالات الأسرى الفلسطينيين وتحويلهم في نظر العالم كسجناء يرتكبون جنح ومخالفات قانونية، لا أسرى حرب لهم حقوق أساسية وإنسانية وأن نضالاتهم مشروعة نصت عليها الاتفاقيات والمواثيق الدولية ، عملاً بتوصية الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووجود مادة تنص على حق تقرير المصير للشعوب ،وأهمية مساندة الدول على احترام وتأمين ممارسة هذا الحق .
ويؤكد الخبراء إن للألوان تأثيرا كبيرا على المزاج والنفسية وراحة الأعصاب، وأجمل الألوان وأهداها فيما لو تكررت لساعات أو أيام ستفقد خاصيتها ، وستتحول من الخاصية المريحة إلى الخاصية المنفرة والمستفزة ، وستؤثر سلباً على المدى البعيد في نفسية المستهدف ، ولهذا فدولة الاحتلال تجعل الأسرى يعيشون نفس اللون المعتم والداكن لعشرات السنين فيما يتعلق بالاحتياجات الخاصة كالملابس والأبواب والشبابيك والجدران وغيرها، حتى أن هنالك من الأسرى القدامى ومن له ما يقارب من الأربعين عاماً في السجون لم يرتدى إلا لوناً داكناً واحداً طوال فترة اعتقاله ، وعلى صعيد طلاء جدران الزنازين قامت عالمة النفس السويسرية دانييلا سبات على إجراء تجارب لمعرفة تأثير اللون على الأسرى، وطبقت تجاربها في 10 زنازين في جميع أنحاء سويسرا ، وعلى مدار أربع سنوات من التجربة، أبلغ موظفو السجن عن سلوك أهدأ بشكل ملحوظ في صفوف الأسرى الذين تم وضعهم في الزنازين الوردية مقارنة بالزنازين العادية ، في حين أن زنازين دولة الاحتلال تنتقى بشكل ملحوظ بألوان ذات الانعكاس السلبى.
وبتجربة خاصة بعد اعتقال خمسة عشر عام أؤكد على نظريات العلماء التي تقول أن هنالك ارتباط شرطي بالعلاقة بين الألوان وبين الانطباعات التي تعطيها، فالفكرة تكمن في أنه إذا ما مر شخص ما بخبرة معينة بصورة متكررة، وكان يحيطه خلالها لون بعينه، فإنه سيبدأ- في نهاية المطاف- في الربط ما بين هذا اللون والشعور الذي انتابه ، والدليل أنني لفترة ليست بقليلة لم أحبذ ارتداء اللون البني حتى بعد تحرري على صعيد ملابسي وأثاث بيتي ، وارتبط هذا الأمر بتذكار كل المآسي والآلام التي مررت بها أثناء ارتدائي لهذا اللون في السجون الإسرائيلية، وينطبق هذا الأمر على الغالبية العظمى من الأسرى المحررين في بدايات تحررهم وتخفت الظاهرة تدريجياً مع مرور الزمن .
وأؤكد على دراسة مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة أن قيام إدارة السجون الإسرائيلية بإلزام الأسرى بألوان محددة من الملابس داخل السجون له آثار خطيرة على صحتهم وتكوينهم النفسي ، وأن فرض لون معين داخل غرف السجون الضيقة وفي أمكنة محدودة المساحة ولفترات طويلة له تأثيرات نفسية سلبية على الأسير مثل القلق والاكتئاب الاضطراب النفسي والعصبية والعزلة , كما أن جعل الأسير يرى لون واحد خلال سنوات أمر يعرضه لانعكاس نفسي سلبى, ويؤدي أيضاً إلى مشاكل صحية في النظر، وأن الأسرى الفلسطينيين حاربوا بما أمكن تلك السياسة الإسرائيلية وناضلوا في السابق وفي الوقت الحاضر ضدها, الأمر الذي يتطلب إثارة هذه القضية دولياً, ودعم موقف الأسرى وضرورة تدخل المنظمات الحقوقية والمجتمع الدولي لوقف الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأسرى في السجون.
مدير مركز الأسرى للدراسات
rafathamdona@yahoo.com
d.rafathamdona@gmail.com
00972599111303