الأمة…وخرائط محارم غوركا الورقية! – عبد اللطيف مهنا
عندما أخذت الآلة التدميرية العدوانية لحلف الناتو تفعل أفاعيلها بليبيا، واكبت مثلي مثل سواي الحدث، وفي حينه كتبت عدة مقالات حوله. ومبكِّراً، في واحدٍ أو أكثر منها حذَّرت من أنهم، أي المعتدين الغربيين، أخطر ما يستهدفونه بعد أن فعلت عدوانيتهم ما فعلته بهذا القطر العربي، وتحت غطاء وفَّرته لهم الجامعة العربية آنذاك، ليس نفطه فحسب، وإنما وحدة الأراضي الليبية.
الحملة، التي كان رأس حربتها الدعائية والدموية الفرنسيون والبريطانيون، ومن بعدهم وبمعيتهم بعض مستأسدي الناتو ذوي الأحجام المتوسطة والهامشية، ومن خلف الجميع الولايات المتحدة، اسفرت عن هدم ما كانت حينها الدولة الليبية القائمة، وإلى جانب حرق الأخضر واليابس لإنجاز مهمتها هذه، حصدت من ارواح الليبيين ما تقول بعض الإحصائيات أنه قارب الخمسين ألفا.
لم اكن لا أنا ولا سواي ممن حذَّروا من مآلات التفتيت ومخططات التجزئة نتطير أو نضرب في المندل. لقد كان المثال العراقي المريع ماثلاً أمام الجميع، ناهيك عن دروس وتجارب القرون الثلاثة الأخيرة المريرة، بكل ما حبلت وحفلت به من مكائد استعمارية غربية كابدتها أمتنا، وكلها تشي بما انصبَّت عليه مخططاتها، أي ذات الاستهدافات التمزيقية الخادمة لاستراتيجية الهيمنة وسبل نهب الثروات العربية، والذي لا يستقيم لهم أمر تحقيقه إلا بالحؤول دون وحدة الأمة.
كل العالم اليوم يشهد تكراراً لذات السيناريوهات الجهنمية في بلادنا، التي تبدأ عادة بشيطنة النظام المستهدف، ورفع رايات الديموقراطية، والكلام عن حقوق الإنسان، واشهار سيف العدالة الدولية الأعوج، وكل هذه اليافطات الخداعية الفاقدة لمعانيها، لانتقائية الاستخدام أولاً، ولكونها تظل الجاهزة كذرائع لأي عدوان يبيَّت ثانياً، أو باتت بيارق لحملات الغزو المتنقلة التي تواجهها أمتنا في العقدين الأخيرين والأردأ في تاريخها، والتي تنتهي عادةَ بتدمير البلد وإعادة للوراء عديد القرون، ذلك بهدم أسس الدولة فيه، وإحلال “الفوضى الخلاَّقة” في ربوعه، هذه المتمظهرة راهناً في الفتن والتطييف وشرذمة المجتمعات، وكله على وقع تصاعد غوائل غول الإرهاب، الذي هو من نتاجهم أصلاً، بل وبات الشماعة المناسبة التي يعلِّقون عليها شعارات كافة حملاتهم الاستعمارية التدميرية.
في حينه، كتب لي أحد الأخوة الليبيين رسالةً غاضبة مستنكرة، ولا تخلو من “ردح”، واتهام لي، وكل ما دعاهم بالعروبيين، بأننا لا نحسن إلا سوء الظن بالغرب، وانتهى فيها إلى ما مفاده خاب فألكم، وأن ليبيا قد بدأت تنهض وطفقت تستقبل غدها المشرق العزيز ولو كره الكارهون…اذكر أنني قد رددت على رسالته بعبارة واحدة فقط هي: “الله يسمع منك”!
لم تطل، أنجز الناتو المهمة في ليبيا تاركاً إياها نهباً لتداعيات استهدافه لها، وأكمل الليبيون المتناحرون الذين انتجتهم عقابيل كارثة الغزو، فرقاً وفصائل وقبائل وجهويات، المقتلة الفجائعية المستمرة، وبات البلد الرابض على بحيرة من نفط وصحراء حبلى بالمعادن، على شفا المجاعة، وبدأ الغرب إياه، الذي أوصلها إلى ما هي فيه، يتحدث عنها كدولة فاشلة، مفرِّخة للإرهاب وحاضنة للتطرف، وموئل للفساد، الذي أتى على ما تقول بعض ارقامهم ما مقداره مئتي مليار دولار…كانت مودعةً قبل الغزو في بنوك الغزاة أنفسهم، وعندما نُهبت أُعيد إيداعها ايضاً في بنوكهم…بالإضافة إلى النظر اليها كنقطة انطلاق لجيوش المهاجرين “غير الشرعيين” القادمة من كل فج افريقي عميق وسواه عبر البحر المتوسط إلى اوروبا لتسلب من الأوربيين رفاههم وتعكِّر صفاء ثقافتهم ونقاء حضارتهم.
لازلنا نذكر اطروحات نائب الرئيس جو بايدن وسواه من رجال الكونغرس ومراكز الأبحاث الأميركية حول تقسيم العراق، وها نحن نسمع اليوم مثلها لفدرلة سورية، وكان الدور الأميركي في فصل جنوب السودان عن شماله بيِّناً وغير خافٍ على أحد، بيد أن آخر حديث عن الوصفات التجزيئية التفتيتية لبلاد العرب هو ما يخص ليبيا وكشفت عنه صحيفة “الغارديان” البريطانية، ومفاده أن سبستيان غوركا أحد رجالات الإدارة الأميركية الجديدة، والمقرَّب من ستيف بانون كبير المستشارين في البيت الأبيض، وأحد المرشحين لأن يكون مبعوث الرئيس ترامب الخاص إلى ليبيا، قد رسم “على منديل ورقي” خارطةً لليبيا المقسَّمة إلى ثلاث دول مستنداً في تحديد حدودهن إلى حدود المقاطعات العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى، وهن برقة في الشرق وطرابلس في الغرب وفزَّان في الجنوب…بالمناسبة سبستيان غوركا كان وحتى العام 2007 مؤسساً لحزب يميني متطرف في المجر.
إنه إذا ما كانت الوحدة العربية قبل وبعد راهن الهجمة العدوانية الأخطر، التي تستهدف تفتيت الأمة العربية بتجزئة المجزأ فيها، وكل ما يؤدي إلى تثبيت الكيان الصهيوني في فلسطين مركزا مقرراً وقطباً تدور شظاياها في فلكه، قد باتت ضرورة وجود وملاذ بقاء، وليس مجرَّد سبيل نهوض وخيار تطوُّر وتقدم فحسب، فإن المقابل المضاد لهذه الوحدة، هو كل هذا الغير المستور والماثل عياناً، والملموس واقعاً، في المشهد العربي المتردي، من فتن تحيكها وتنفِّذها مخططات تفتيت قد لا تستثني قطراً واحداً من أقطارها، لا سيما تلك المؤهلة منها لأن تشكِّل تاريخياً روافع لاحتمالات نهوض هذه الأمة ووحدتها…بمعنى أن كامل خارطة الأمة من محيطها إلى خليجها هي الآن برسم خرائط مناديل أمثال سبستيان غوركا الورقية!