الأم الحنون مستعجلة في لبنان – حياة الحويك عطية
الأم الحنون مستعجلة في لبنان
لسان حال ماكرون: إمّا أن تضعوا في الوزارات من يبيعنا البلد ويحقّق طموحات شركاتنا، وإما نشتمكم وتتبدّى فصاحتنا في مكافحة الفساد وفي عشق الشعب اللبناني؛ عشق لا نصيب فيه لأصحاب السترات الصفر من الفرنسيين.
الأم الحنون يتفطَّر قلبها على الابن الضال. مرة تبدي القلق، ومرة تعنف، ومرة تهدّد، وتفقد أعصابها عندما لا ينفع ذلك كله في الاستجابة من دون شروط، فتلجأ إلى العم سام، لعلّه يرفع بدوره سقف الضغط، ويترك سفيرته، قليلة الأدب في الأعراف الديبلوماسية، “تفشّ خلقها” بما حملته من حقد وغضب خلال إقامتها الودودة في “إسرائيل”.
الأم الحنون تقف على ساقين: “توتال” و”داسو”. وبما أن طموح “داسو” في لبنان لا يتجاوز منحة سعودية حوّلت رئيس الجمهورية التوافقي إلى هتّاف بحياة المملكة، من دون أن تحوّل الجيش اللبناني إلى قوة يحلم بها قادته، فكان كل إنجازها تخليص فرنسا من بعض الخردة والأسلحة النافقة (كما الجمل العجوز) وبعض “الكوميسيونات”، بما أن الأمر كذلك، لم يتبقّ إلا “توتال”.
كانت “توتال” في وقائع السنوات الممتدة من العام 2005 إلى العام 2011 عقدة الرهان الفرنسي على سوريا، يعلو الموج ويهبط بحسب مصالحها وآمالها، إلى أن حصل الطوفان، لكنها أيضاً عقدة الرهان على شرق المتوسط كلّه، وخصوصاً لبنان، لأنّ أمور الآخرين محسومة، اليونان ومصر و”إسرائيل” وقبرص وسوريا، ويبقى الصراع مع تركيا على ليبيا وشمال قبرص.
تحولت “توتال” في العام 2018 إلى الشركة الثانية في العالم في مجال الغاز الطبيعي المسال بنسبة 10% من الإنتاج، وذلك بعد أن استحوذت على “إنجي” الإيطالية (مقابل 1،49 مليار دولار)، التي كانت قد شاركتها في “كونسورتيوم” يضم أيضاً “نوفاتيك” الروسية في عقود التنقيب عن الغاز على الشاطئ اللبناني.
كذلك، شملت الشراكة مع “نوفاتيك” حقل “يامال” الضخم في سيبيريا ومشروع “إيختيس” في أستراليا، وكلا المشروعين موجّه إلى السوق الآسيوي. كذلك، استحوذت “توتال” على الشركة الدنماركية “مارسك أويل”، وكرَّست التعاون مع “أدكو أبو ظبي”، وأبرمت تحالفاً مع البرازيلية “بتروبراس”، ما يؤمن لها رفع الإنتاج بمعدل 5% حتى العام 2022.
بعدها، صدرت عدة تصريحات عن باتريك بويانيه، رئيس مجلس إدارة “توتال”، نتوقّف منها عند ثلاثة:
الأول: توقّعه بأنَّ الاستثمارات الكبرى في الغاز والنفط لم تحصل بعد، لكنها قد تواجه بعد العام 2020 خطر تناقص النفط، فيما يتنامى الطلب بسرعة كبرى ليبلغ ضعفي ما كان عليه في السنوات الثلاث السابقة. وعليه، فإنَّ “توتال” يجب أن تعوّض في الاستثمار بكثافة في مختلف مراحل استثمار الغاز على حساب أنشطتها في مجال النفط.
الثاني: الإعراب عن نيَّة الشركة في الاستمرار بالاستثمار في الطاقة المتجدّدة، مع النية الصّلبة في إنتاج الكهرباء من الغاز والطاقة المتجددة، وفي بيعها على أساس قاعدة بسيطة: معدل الطلب على الكهرباء ينمو بنسبة أسرع مما ينمو معدل الطلب على الطاقة.
الثالث: حديث عن نقل الغاز بالناقلات العملاقة بدلاً من الخطوط، كما تفعل قطر في ما تصدّره، وخصوصاً إلى كوريا واليابان.
والسؤال هنا عما تعنيه هذه النقاط الثلاث من انعكاس على المستوى اللبناني:
– إنّ التعويض الذي تحتاجه الشركة بعد العام 2020 في مجال الغاز يعني الإسراع في التنقيب على شاطئ لبنان وفلسطين المحتلة، ما يعني الحاجة الملحة إلى الإسراع في حل النزاع القائم حول الحدود البحرية.
-إن استثمار الطاقة المتجددة في إنتاج الكهرباء يعني فتح الشهية على سوق الكهرباء اللبناني، الذي يعاني جوعاً مطلقاً ويحتاج إلى كميات كبيرة ستتنامى أكثر مع الاستثمارات في التنقيب.
– إن نقل الغاز بالناقلات البحرية يعني هيمنةً ما على المرفأ الأكبر في لبنان، وواحد من الأكبر في المنطقة، وربما أيضاً هيمنة على مرفأ طرابلس الذي يتمتّع بميزات من حيث عمق المياه وغيره على وجه الخصوص، إن لم يكن مباشرة، فبواسطة أو بشراكة إماراتية.
يُضاف إلى المحطّات الثلاث تخصّص فرنسا في تعهّد الاتصالات في معظم الدول التي خصخصت هذا القطاع، من الكيان المحتل إلى مصر إلى الأردن، إذ تستثمر الاتصالات الفرنسيّة، إضافة إلى شركة الاتصالات “أورانج تلكوم”، مطار الملكة علياء الدولي، وتشارك في شركة الطيران الملكية، من دون أن ننسى تداول اسم رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي في العام الفائت في مساءلة في مجلس النواب الأردني حول استثمار الأخير في الشركة وفي طرح شراء المطار، إضافة إلى استثمارات آل الحريري في وسط عمان الجديد، والسنيورة في البنك العربي وغيره.
وبذلك، لا نفهم لهفة إيمانويل ماكرون تجاه لبنان فقط، وهو الرئيس الذي عنونت “لوموند ديبلوماتيك” موضوع انتخابه بـ: “صنعوه ليخدمهم”، وتقصد بـ”هم” الشركات واللوبيهات المالية، بل إننا نفهم أيضاً إصرار فرنسا على الوزارات الثلاث: الطاقة والاتصالات والأشغال، ولسان حالها يقول: إمّا أن تضعوا في الوزارات من يبيعنا البلد ويحقّق طموحات شركاتنا ما بعد العام 2020، وإما نشتمكم وتتبدّى فصاحتنا في مكافحة الفساد، وفي عشق الشعب اللبناني؛ عشق لا نصيب فيه لأصحاب السترات الصفراء من الشعب الفرنسي.
كما نفهم أيضاً تشدّد سعد الحريري وعناده في ألا يستشير أحداً، لأنّه ملزم بالوفاء لوعود قطعها ثمناً لإطلاق سراحه من الأسر السّعودي، ديْن يلزم به نفسه تجاه فرنسا ماكرون وإمارات محمد بن زايد، ولا يلتزم به تجاه لبنان برئيسه ووزير خارجيته وقواه الشعبية، وعلى رأسها معسكر المقاومة، الذين تعاملوا مع الإفراج عنه كمطلب وطني، لا كصفقة تجارية وارتهان سياسي.
وربما يضاف إلى الدين المسجّل طمع في استعادة شيء من مجد ثروات ضاعت (وأي فتى أضاعوا!)، في مقابل أخٍ عكف على تنمية ثروته، ليسير على خطى أبيه في العودة إلى بلد مفلس مدمّر وشرائه بالملاليم.
ونفهم كثافة الضغوط كلّها باتجاه مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، وجنون تلك الضغوط، عندما وجدوا أنّ الوفد المفاوض لم يبصم على بياض “للإسرائيلي” وللشركات التي تريد البحر، وعلى رأسها “توتال”. ما همّ “توتال” ورئيس بلادها ووزير خارجيته، السمسار الأشهر والأقدر في فرنسا، إن خسر لبنان 860 كلم مربعاً أو ربح 2600 كلم مربع، إذا نقّبت في تلك المياه لحساب “إسرائيل” أو لحساب لبنان! لا بل يهمّها، لأنّ سادة اللوبي اليهودي في فرنسا ليسوا كسادة سماسرة ومتسوّلي لبنان. هم يضغطون بكل قوة لوبيهم لمصلحة الدولة العبرية وماكرون و”توتال”، والشركات ترضخ.
فاجأهم مفاوضو الجيش، وفاجأهم دعم من يقف وراء الوفد، فرفعوا السّيف عالياً، وراحوا يهدّدون في العلن، ويلوحون به في السر فوق رأس “أصدقائهم”، وفي مقدّمتهم رئيس الحكومة المكلّف، لكن للرجل فضل أنه لم يكذب، فقد وقف منذ تشرين وفي يده قائمة يقرأها بما يريد خصخصته، وأولها المرفأ والمطار والطاقة والاتصالات وكازينو لبنان…
لم يقل لمن سيبيع، ولكن لجنة الخصخصة كانت تعمل في السراي منذ سنوات، ولم يكن أحد يعترض… وأوّل غيثه على صحراء الأزمة إجهاض تحوّل هيئة إدارة البترول إلى الشركة الوطنية للبترول، بإقرار المراسيم التطبيقية السّيئة الّتي شطبت قانون استثمار الأملاك البحرية، ووصلت حدّ حرمان الدولة اللبنانية من أيّ حقّ في الاشتراك في عمليات استخراج الغاز.
كانت هذه المراسيم سبب استقالة حكومة تمام سلام، وأوّل ما أقرّته حكومة الحريري التي تلتها. ولم يوقفها مجلس النواب المؤتمن على مصالح الناس. ألغت مبدأ “تقاسُم الإنتاج” بين الشركات والدولة لصالح “نظام الامتيازات الأجنبية” الذي يلغي أية ملكية وأية سيادة للدولة على ثرواتها. الامتيازات الأجنبية تتسابق، والفرنسي منها مقتنع بأنه الأولى والوصي، وهو مستعجل لإنجاز الصفقة قبل رحيل دونالد ترامب واضطراره إلى مساومات جديدة مع الإدارة الجديدة.
لذلك، فهو مستشرس ومستعجل لا يطيق صبراً، وخصوصاً بعد بروز عدة منافسين أقوياء في الساحة اللبنانية، حتى لو دخلوا من باب آخر، من مثل تلزيم خزانات النفط المملوكة للدولة إلى “روسنفط” الروسية، وبيان أن الجانب الروسي يبدو متحمساً أكثر لتوسيع دوره في مجال الغاز المستخرج من البحر أيضاً، من دون أن ننسى وجوده في الساحل السوري.
كل لحظة، يلعن “المستعجل” اللحظة التي وقف فيها السيد حسن نصر الله يعلن قصف الباخرة “الإسرائيلية” في البحر. أي رسالة يضعها المفاوض سند ظهره ويناور! أي لعنة! وأي حقد وضغوط! المهم، ما ذنب لبنان واللبنانيين ليطرحوا في المزاد العلني “على أونا على دو” في سوق النخاسة؟
بلى، ذنبهم أنَّ فيهم شريحة كبيرة من الجهلة والعميان والمأجورين، يقبّلون يد البائع، ويتوسّلون المنادي، ويسيرون بذلٍّ وراء المشتري، صامتين أو هاتفين بعزّه وحياته أو مستغيثين به، لأنه المنقذ. ذنبهم إعلام هو في غالبيته أوَّل المرتشين، وأعلى الأبواق، وأكثر الناس براعة في اللعب على غرائز الناس وأوجاعهم، وأكثر السّاحات ثرثرة ونميمة وتراشقاً للنساء الفاجرات، ويسمونه حرية، وثمنها تمرير مصالح أرباب البيوت الإعلامية لدى مراكز القوى داخل وخارج البلد، والرقص لمن يدفع.
ذنبهم دكاكين ما يُسمّى منظمات المجتمع المدني الممولة أجنبياً، والتي لا ولاء لها إلا لمن يموّلها ويخاطب عقدها. ذنبهم الدوافع التي تحملهم إلى صناديق الاقتراع؛ الطائفية والمذهبية والنفعية وبيع الضمير. ذنبهم إصرارهم على ثقافة الاستهلاك بشكل أوصل نائباً في البرلمان إلى أن تعلّق على دعوة السيد نصر الله بالتوجه إلى الإنتاج والزراعة، بالقول: “يريدنا أن نعود إلى العصر الحجري؛ نزرع ونأكل”. لم تسمع السيدة أن السيد المنقذ قادم من بلاد شعارها “الزراعة نفط فرنسا”، وأن الدخل السياحي العظيم قائم على التراث الغني المصون والبلاد المنظمة والفنون الراقية والمؤسسات التعليمية العريقة المتفوقة والمشافي الملحقة بمراكز الأبحاث المجدّة.
ذنبهم أخيراً أنّ كلّ من هو خارج هذه المنظومة العفنة، في الثقافة والإعلام والسياسة والاقتصاد، يصرخ في صحراء قاحلة حتى البحّة والإرهاق. كم هم أبطال أولئك الّذين يستمرون في التصدي للطوفان القذر!