«الإشتراكية ذات الخصائص الصينية»(1) – فتحي كليب
«الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»(1)
وتحديات التنمية والتطوير
فتحي كليب
■ مقدمة
1– الحزب الشيوعي وأحادية الإشراف والقيادة
2– أمام تحديات التنمية والتطوير
3– مرحلة البناء الإشتراكي المركزي (1949 – 1978)
4– مرحلة الإصلاح والإنفتاح (1978 وحتى يومنا)
5– ما هي الإشتراكية ذات الخصائص الصينية؟
6– معطيات رقمية
7– إقتصاد السوق الإشتراكي
8– بناء القاعدة المادية للإشتراكية بآليات وأدوات رأسمالية؟!
9– الصين اليوم.. دولة وحزباً ومجتمعاً
■ خاتمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-
تم إلغاء هوامش المراجع الواردة في متن الدراسة، تسهيلاً للقراءة (المحرر).
مقدمة
■ حين يتحدث المسؤولون والباحثون الصينيون عن تجربة بلدهم التنموية، يتحدثون عنها في إطار المقارنة مع أنظمة سياسية إجتماعية مختلفة تماماً عن النظام المعتمد اليوم؛ أنظمة سادت فيما مضى، وكانت من أحد أسباب تخلف الصين عن ركب الحضارة والتقدم، وهي التي تمتلك واحدة من أعرق حضارات التاريخ، كما كانت العِلَّة لوقوع الصين أسيرة الجهل والفقر والتخلف ما جعلها مطمعا للقوى الإستعمارية. لذلك، كان لا بد من ثورة على واقع تم فرضه على شعب جَرَّب عدة أشكال من الأنظمة السياسية والإجتماعية، باءت جميعها بالفشل، فكانت الإشتراكية هي النظام الأنسب الذي توافق مع ظروف وخصائص دولة كالصين.
■ اليوم تختلف النظرة إلى التجربة الصينية، بمختلف عناوينها السياسية والإقتصادية، من شخص لآخر وفقا للخلفية الفكرية والأيديولوجية التي يتم الإنطلاق منها. فإن كان معيار التقييم هو مدى إقتراب هذه التجربة من النموذج الإشتراكي الذي كان معمولا به في الإتحاد السوفياتي بدءا من عام 1917 ولمدة تسعين عاما، فإن الإستخلاص سيقود، ربما، إلى أن ما حصل في الصين هو رِدَّة رأسمالية. أما إذا كان المقياس هو مدى إلتزام الحزب الشيوعي الصيني بالماركسية كنظرية وكمنهج في تحليل الواقع الإجتماعي ودليل إسترشادي للعمل، فبالإمكان الإستنتاج أن الحزب الشيوعي ما زال ملتزما بالماركسية، وبتطبيقات تستوعب وتراعي الظروف الخاصة للصين، التي قد لا تتشابه مع ظروف أي بلد آخر، إنطلاقاً من الواقع التاريخي الموروث، والشرط الموضوعي السائد (بما فيه وخاصة تطور القوى المنتجة)، ونظراً للخصائص الحضارية التي تتميز بها دولة كالصين.
■ مثل هذا الكلام يقودنا إلى العودة مجددا للنقاش في المرحلة التي تجتازها عملية البناء الإشتراكي في الصين، فالتجربة التي نحن بصددها هي حالة كأي ظاهرة إجتماعية لا يمكن إعطاء تفسير دقيق لها دون الإستناد إلى معيار واضح ومتفق عليه. وهذا ما سنأتي عليه في السياق اللاحق، خاصة في ظل إستمرار حملات التضليل التي رافقت عملية إنهيار الإتحاد السوفياتي، وقبل ذلك، حملات مفادها أن التجربة أكدت فشل النظام الإشتراكي، وأن «الإشتراكية بشكل عام لا تعني سوى الفقر»، أو «العدالة في توزيع الفقر». أما في واقع الحال، ودحضاً لكل هذه المزاعم والتُرَّهات، فإن تجربة الصين تؤكد أن «الإشتراكية قبرت الفقر» وتقدمت بأوضاع البلاد خطوات حاسمة على طريق التنمية والتطور وتعظيم ثروة المجتمع ورفع مستوى المعيشة والإرتقاء بنوعيتها، الخ…
■ قبل أن ندخل في صلب الموضوع، نلفت النظر إلى واقع إجتماعي بالغ الأهمية، شكل إحدى السمات البارزة الذي تميّزت بها الثورة الوطنية الديمقراطية في الصين، حيث وجد الحزب الشيوعي الصيني في الفلاحين والريف عموماً، الأرض الخصبة للعملية الثورية، فالفلاحون كانوا يشكلون نحو 90% من المجتمع الصيني، لدرجة أن «مسيرة الجيش الأحمر الكبرى» في العديد من المقاطعات الصينية إنطلقت من الأرياف وكان عمادها عشرات الآلاف من الفلاحين، إن لم يكن أكثر..
هذا الواقع أعطى الحزب الشيوعي الصيني منذ لحظة نشأته، وأملى عليه مرونة واضحة في التعاطي الأكثر إنفتاحاً مع طبقات المجتمع، وبشكل يختلف عن تعاطي الحزب الشيوعي السوفياتي – على سبيل المثال – مع «المجتمع» الذي وجده أمامه بعد إستلامه الحكم. هذا الواقع مكّن الحزب الشيوعي الصيني من طرح معالجات تختلف في الكثير من عناوينها عن مباديء ظن الكثير من الشيوعيين أنها بديهيات ولا يجوز مسَّها، خاصة النظرة إلى طبقات المجتمع وما يرافق ذلك من سياسات وتحالفات ومن صيغ المشاركة في الحكم، تبدو في الظاهر متناقضة مع قناعات وإنطباعات معيّنة عن الفكر الإشتراكي■
(1)
الحزب الشيوعي وأحادية الإشراف والقيادة
1- هو الحزب الأكبر على مستوى العالم، تأسس في تموز (يوليو) 1921 في مدينة شنغهاي، ووصل إلى السلطة عام 1949.
– يعقد مؤتمره العام مرة كل خمس سنوات، وقد عقد أول مؤتمر وطني له عام 1921 بحضور 12 مندوبا يمثلون 50 عضواً، إضافة إلى عضوين يمثلان الأممية الشيوعية.
– وفقا لمعطيات عام 2017، فقد بلغ عدد أعضاء الحزب نحو 89 مليون عضو، منهم نحو 22 مليون إمرأة بنسبة 25%، بينما بلغ عدد الأعضاء من جماعات المكونات العرقية الأخرى 6.3 مليون عضو، يمثلون 7% من إجمالي الأعضاء. ويشكل العمال والفلاحون نسبة 36.95%، والمهنيون والإداريون نسبة 25.21%. أما بقية الأعضاء فيأتون من مختلف مراتب الحزب والدولة، فضلاً عن الطلاب والمتقاعدين.
– بلغ عدد الفروع الحزبية 4.5 مليون فرعاً في مواقع العمل وفي الأحياء الحضرية والمجتمعات المحلية والبلديات، وكل فرع يضم 20 عضوا على الأقل. ووفقا لدستور الحزب فإنه يجب إنشاء فرع للحزب بوجود ما يزيد عن 3 أعضاء. وتوجد فروع للحزب في 91.3% من المؤسسات العامة، ونحو 67.9% من المؤسسات الخاصة، ونحو 58.9% من المنظمات الإجتماعية .
– في نهاية عام 2016، إستقبل الحزب 1.911 مليون عضواً جديداً، وبلغ عدد الأعضاء الجدد ممن تقل أعمارهم عن 35 سنة 1.571 مليون شخص بنسبة 82.2%. ومن بين الأعضاء الجدد 785 ألف شخص من حاملي المؤهلات العليا.
– عدد أفراد الجيش الأعضاء في الحزب يزيد عن مليوني عضو.
– عدد أعضاء اللجنة المركزية 205 منهم 10 نساء، إضافة إلى 171 إحتياط (أو مرشح). أما عدد أعضاء المكتب السياسي فهو 25، وعدد أعضاء المكتب الدائمين 7.
– يتبع الحزب إجراءات متشددة لقبول العضوية الحزبية بهدف الحفاظ على نوعية جيدة للأعضاء، وقد بلغ عدد المتقدمين للعضوية عام 2015 نحو 22 مليون لم يقبل منهم سوى مليونين تقريبا.
– هناك ثمانية أحزاب موجودة في الصين منذ ما قبل تولي الحزب الشيوعي السلطة، وهي مشاركة بالحكم والدولة ويتقلد بعض أعضاءها مناصب رفيعة كنائب رئيس البرلمان أو نائب وزير.
– النقابات والمنظمات الشعبية، جميعها بقيادة الحزب وإشرافه.
2- أولى الحزب الشيوعي الصيني أهمية خاصة لإعداد الكادر الحزبي وتأهيله بهدف تمكينه من تولي المناصب العليا على مستوى الحزب والدولة، وذلك عبر المرور بأكاديمية «بودونغ» في شنغهاي لإعداد وتأهيل الكادر. هذا الصرح الحزبي الكبير هو واحد من مفاتيح نجاح عمل الحزب: المنتسبون إلى الأكاديمية هم من رتبة مدير فما فوق يتم إختيارهم وفقا لترشيحات تقدم من هيئات الحزب المختلفة وبإشراف مباشر من دائرة التنظيم في اللجنة المركزية التي هي من تحدد الأعداد كل عام، وحصة كل منطقة ومنظمة حزبية إستناداً إلى نوعين من العضوية: أساسية ومرشحة. ويمكن أيصا قبول المتفوقين في المؤسسات الخاصة، إضافة لرجال الأعمال من خارج الأطر الحزبية.
يتقدم للمعهد سنويا نحو 10 آلاف طالب، وتتراوح مدة التدريب من أسبوع إلى شهرين، ويستعين المركز بمحاضرين من خارج الأكاديمية ومن مختلف الإختصاصات بنسبة 10%، والموافقة على الإنتساب إلى الأكاديمية هو شرط ضروري لتقلد الوظائف العليا على مستوى الدولة والحزب. وتتوزع عناوين المواد التي تقدم في الأكاديمية على ثلاثة محاور: 1- قضايا الحزب (الأوضاع التنظيمية ودستور الحزب)؛ 2- القضايا النظرية (الماركسية، أفكار ماو تسي تونغ، أفكار دنغ شياو بنغ وغيرها)؛ 3- قضايا إدارة عمليات القيادة (أي قضايا التخصص العلمي – سياسة« الإصلاح والإنفتاح») ■
(2)
أمام تحديات التنمية والتطوير
■ للتذكير ليس إلا، عندما نتحدث عن الصين، فنحن نتحدث عن بلد عدد سكانه مليار وأربعماية مليون نسمة يقيمون على مساحة جغرافية تزيد قليلا عن 9.5 مليون كم2، لتكون بذلك أكبر دولة آسيوية مساحة، والثالثة على مستوى العالم بعد روسيا (17 مليون كم2) وكندا (10 مليون كم2)، وبحدود جغرافية برية وبحرية مع 14 دولة، وحضارة تاريخية تمتد لأكثر من خمسة آلاف سنة.
تضم الصين 22 مقاطعة(23 بإضافة تايوان) و5 أقاليم ذات حكم ذاتي، ويتوزع السكان على 56 قومية أبرزها قومية هان التي تزيد نسبتها على 90%، وقوميات أخرى إنصهرت تحت راية الحزب الشيوعي في دولة وطنية واحدة – دون أن تتخلى عن خصوصيتها القومية الثقافية – من أجل أن تنهض الصين وتحتل مكانها الطبيعي بين دول العالم القوية.
■عاشت الصين تحت حكم إمبراطوري إمتد لأكثر من ألفي عام، وبحالة إنغلاق عن العالم الخارجي ميّزها عن باقي الدول، حتى الأقرب إليها جغرافياً. ونتيجة لاتساع تجارة عدد من الدول الإستعمارية، فقد كانت الصين محط أطماع هذه الدول، وخاصة بريطانيا والبرتغال، ناهيك عن اليابان. وقد عملت هذه الدول على جعل الشعب الصيني يعيش في حالة من الجهل والتخلف، الأمر الذي كان سببا للعديد من الثورات ضد المستعمر وضد الحكومات المحلية المتواطئة أحيانا مع الإستعمار وصولاً إلى الحرب الداخلية بدءاً من عام 1927، التي إندلعت بين «الكومندانغ» (الحزب القومي أو الوطني اليميني المحافظ) والحزب الشيوعي الصيني، فخرج الأخير من هذه الحرب منتصراً، فيما إنسحب الحزب الوطني إلى جزيرة تايوان (فورموزا) التي لا زالت تعتبر بالنسبة للصين، حتى الآن، جزءاً من التراب الوطني الصيني. وبنتيجة العدوان الياباني الذي إحتل جزءاً من الأراضي الصينية، خرجت الصين منهكة بنهاية الحرب العالمية الثانية، تعاني مشاكل كبرى تحتاج لمن يتصدى لها.
■ وسط هذه الحالة، إستلم الحزب الشيوعي الصيني الحكم في العام 1949 وارثا بلداً فقيراً أرهقته الحروب ونهبت خيراته الدول الإستعمارية الغربية والمجاورة. وكان التحدي أمام الحزب الشيوعي هو باستعادة الصين من يد القوى الإمبريالية ومعالجة آلاف المشكلات التي كان المجتمع الصيني يئن تحت وطأتها، سواء على مستوى وضع معالجات لحالة الأمية والفقر، أو لإعادة اللحمة للأمة الصينية وحماية الإستقلال الوطني وتهيئة البلاد لنظام جديد هو النظام الإشتراكي.
■ مرت الصين بعدة مراحل، لكل منها سماتها وخصائصها، وكانت كل مرحلة تصوِّب – ما أمكن – سلبيات ما سبق، وتضيف إيجابيات تخدم الإستراتيجية العامة التي وضعها الحزب الشيوعي.. علماً أنه منذ العام 1950، وضعت الصين إستراتيجية تنموية من ثلاث خطوات، وتم تعيين 70 عاما لتحقيق أهداف هذه الخطة، على أن تعطى الأولوية – في الخطوة الأولى – لتوفير الغذاء والكساء لكافة المواطنين. وتتمثل الخطوة الثانية في مضاعفة الناتج المحلي بــــــ 4 أضعاف في نهاية القرن العشرين. أما الخطوة الثالثة فكانت زيادة معدل دخل الفرد ليصل إلى المستوى الموجود في الدول متوسطة النمو عام 2050. لذلك يمكن الإشارة إلى مرحلتين إجتازتهما البلاد: 1- مرحلة البناء الإشتراكي المركزي (1949 – 1978)؛ 2- مرحلة الإصلاح والإنفتاح (1978 حتى يومنا)■
(3)
المرحلة الأولى: مرحلة البناء الإشتراكي المركزي (1949-1978)
■ إعتمدت الدولة الصينية في بدايات إنطلاقتها بقيادة الحزب الشيوعي النموذج السوفياتي، وذلك حتى عام 1956، ولم يثر بناء الإشتراكية في الصين خلافات كبيرة على المستوى النظري. وكانت النقطة الأساسية التي تتميز بها الصين عن ذلك النموذج هي في تصور التحالف الطبقي الذي يقود الدولة.
أما باقي القضايا، فقد كانت تسير دون بروز أية إشكالات جوهرية. وقد أشار ماو تسي تونغ عام 1954 إلى ذلك بقوله: «إن النظام الذي قام في روسيا كان مشروطا بتطور روسيا التاريخي، وقد أفضى إلى دكتاتورية البروليتاريا وإلى نظام الحزب الواحد. وكان ضروريا بالنسبة إلى روسيا.. وتطور الصين التاريخي في العصر الراهن سيولد بنية مطابقة له، سواء على مستوى شكل الدولة أو على مستوى تنظيم السلطة، لكنه مختلف في الوقت نفسه عن النظام الروسي: دولة الديموقراطية الجديدة، دولة تحالف عدة طبقات ديموقراطية».
■ ووفقا للخطة الخمسية الأولى (1953-1957) التي صيغت بإشراف تشو إن لاي رفيق درب ماو، وتحت رقابة مباشرة من الحزب، فقد تم رفع شعار «تحويل الصين من بلد زراعي ومتخلف إقتصاديا إلى بلد صناعي عبر الإعتماد على الصناعات الثقيلة»، بدعم صريح وكامل ومباشر من الإتحاد السوفياتي الذي موَّل نحو 700 مشروع هدفت إلى إرساء ركائز التصنيع الإشتراكي، وبشكل لم يراعِ تماماً الواقع الصيني وتعدد خصوصياته قوميا وجغرافيا وحضاريا، ولم يأخذ بالإعتبار واقع تطور القوى المنتجة في البلاد.
رغم نجاح مشاريع مماثلة في الإتحاد السوفياتي، فقد كانت النتيجة في الصين مختلفة، إذ قادت السياسة المتبعة إلى إنخفاض معدل نمو الناتج المحلي، ولم تكن الدولة الصينية قادرة على فرض سيطرتها على نتائج هذه السياسة، خاصة وأن حصتها من مجمل الإنتاج الصناعي لم تتجاوز الـ 15%. هذه النتيجة وغيرها شكلت المقدمات الأولى لبروز «إشتراكية مختلفة» [بمعنى الإختلاف في تحديد أولويات بناء الأسس]، عن «إشتراكية الإتحاد السوفياتي» الذي بنى إستراتيجياته الإقتصادية والإجتماعية على أساس وجود الصناعات الثقيلة ودون حدوث مشكلات مستعصية كالتي حدثت في الصين، على خلفية تجاهل الريف والقطاع الزراعي عموماً، كما والصناعات الخفيفة، وبروز تشوهات إقتصادية دفع ثمنها الفلاحون الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة في المجتمع الصيني، ما دفع القيادة الصينية إلى مراعاة هذا الأمر في الخطة الخمسية الثانية التي إنطلقت تحت شعار «الإعتماد على الذات» بعد إلغاء العديد من الإتفاقيات التي كانت قد وقعت مع الإتحاد السوفياتي الذي، بدوره، إتخذ قراراً بوقف المعونة المقدمة للصين.
■ إنطلقت الخطة الخمسية الثانية من مبدأ التطوير الشامل واعتماد اللامركزية الإدارية، بما يعطي السلطات المحلية صلاحيات أوسع في تطبيق بنود الخطة التي سعت إلى إستيعاب ثغرات الخطة الأولى لناحية عدم التوازن بين القطاعات الإقتصادية المختلفة، رغم إستمرار التركيز على الصناعات الثقيلة، لكنها هذه المرة وضعت أسس مختلفة لعملية التصنيع الإشتراكي الصيني، فتم التأكيد على تطوير الإنتاج الصناعي والزراعي وإنتاج الحرف اليدوية، وأيضا تطوير قطاع النقل والتجارة وتطوير نظام الملكية الجماعية، إضافة إلى تعزيز أعمال البحوث العلمية.
■ كانت وتيرة التصنيع مرتفعة جدا وتحوَّلت الصين خلال فترة زمنية قصيرة جداً (عشرة أعوام) من بلد متخلف في العام 1949 يحتل المرتبة 26 في إنتاج الفولاذ والمرتبة 25 في إنتاج الكهرباء، إلى بلد يحتل المرتبة 7 في إنتاج الفولاذ والمرتبة 9 في إنتاج الكهرباء. وبالرغم من ذلك، لم تقد هذه السياسة والنتائج المحققة إلى رفع مستوى معيشة الشعب، بل كانت سببا للقطيعة الكاملة بين الصين والإتحاد السوفياتي بعد قرار الصين إستيراد الحبوب من الدول الغربية بسبب المجاعة التي ألمَّت بملايين الصينيين، ما دفع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي إلى التحرك مجددا عبر الخطة الخمسية الثالثة (1966-1970) التي أعطت الأولوية هذه المرة للزراعة، ثم الصناعات الخفيفة، فالصناعات الثقيلة. وكان الهدف المباشر حل مشكلة الغذاء وتعزيز القدرات الدفاعية للجيش الصيني وتطوير قطاعات المواصلات والنقل والتجارة والثقافة والتعليم والبحوث العلمية.
■ وإن كانت هذه الخطة قد سارت وفقا لما هو مرسوم لها، فقد وقع الحزب الشيوعي الصيني في أخطاء مميتة، كان أكثرها إيلاما إعتماده لاستراتيجية «الثورة الثقافية» التي إستمرت من عام 1966 إلى عام 1976؛ وهي، رغم كل ما قيل فيها، ثورة قد شُنَّت «بطموح» تطهير الحزب والبلاد من الأعداء الطبقيين. لكنها تسببت بنتائح كارثية، إن كان على مستوى الوفيات (لأسباب متعددة)، أو تعرض الملايين إلى الملاحقة وإصابة الإقتصاد الصيني بالركود.
في العام 1976 توفي ماو تسي تونغ تاركا وراءه إرثا ثقيلا وغنياً في آن، بعد أن إنتهت الثورة الثقافية مُخلِّفة وراءها نتائج كارثية على مستوى الدولة والحزب والمجتمع. ويمكن الإستنتاج ما هي الإنعكاسات السلبية المترتبة على إقفال المدارس لفترة عشر سنوات، وتعطل عجلة الإنتاج، وتدمير آلاف المعالم التاريخية والثقافية والأعمال الفنية الموجودة في المتاحف والمنازل. وبرحيل ماو وتسلم دينج شياو بنج مقاليد السلطة دخلت الصين مرحلة جديدة من العمل والتفكير عنوانها المباشر: سياسة «الإصلاح والإنفتاح»■
(4)
المرحلة الثانية: مرحلة الإصلاح والإنفتاح (1978 حتى يومنا)
■ على أرضية النتائج التي خلصت إليها الخطط الخمسية من عام 1953 وحتى منتصف سبعينيات ق. 20 وتداعيات الثورة الثقافية، بدأ الصينيون يفكرون بشكل جدي حول الإستراتيجيات القادرة على إيجاد حلول لمشاكلهم، والإقتصادية منها خاصة، التي كانت تزداد سوءا كل عام. ورغم أنهم إجتهدوا وجربوا أكثر من خطة، فإن النتائج على الأرض بقيت – بمسافة – دون الطموح.
كانت قرارات الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الـ 11 بمثابة الإيعاز لإطلاق مسار الإصلاح والإنفتاح. فقد عقدت هذه الدورة برئاسة أمين عام الحزب دنغ شياو بينغ على مدار خمسة أيام (18-22/1/1978)، وإعتمدت خياراً إستراتيجياً لازال يشكل محور السياسات التي سار عليها الحزب الشيوعي منذ ذلك التاريخ، حيث تبنى المؤتمر سياسة «الإصلاح والإنفتاح»، وتحول الصين من «إتخاذ النضال الطبقي رائزاً لكل الأعمال، إلى إعتماد البناء الإقتصادي كمركز ثقل للأعمال وتطبيق الإنفتاح على الخارج».
■ شكلت القرارات التي إتخذتها هذه الدورة إشعاراً ببدء سياسة الإصلاح والإنفتاح، التي إنطلقت بداية بشكل تجريبي في بعض المدن الساحلية (شنتشن، تشوهاي، وشانتو) في مقاطعة قوانغدونغ الواقعة على ضفاف بحر الصين جنوب البلاد، وفي مدينة شيامن الواقعة على مضيق تايوان جنوب شرق الصين في مقاطعة فوجيان. ومع النجاح الكبير الذي حققته عمليات الإصلاح في هذه المدن، قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في عام 1983 التوسع في هذه السياسات، فأقرت عددا من القوانين الداعمة والمحفزة لهذه السياسات الجديدة، لتأخذ هذه العملية مداها الواسع بعد ذلك، بحيث لم تعد محصورة بالمناطق الساحلية فحسب، بل توسعت باتجاه المناطق الداخلية والريفية لتصبح عملية الإصلاح المحور الذي تتحرك في إطاره جميع السياسات الإقتصادية الصينية، التي ما زالت متواصلة حتى اليوم ويتم تطويرها وتعديلها عاماً بعد عام، وخطة خمسية بعد أخرى.
■ لم تكن هذه العملية إعتباطية أو عشوائية، والتجريب (بمعنى إختبار تجارب بعينها، والحكم عليها بمقياس النجاح من عدمه)، لا تعني العشوائية، بل جاءت بقرار واعٍ ومدروس، ووفقا للخطتين الخمسيتين الخامسة والسادسة (1975-1985)، فقد تم تحديد الأهداف العامة لسياسة الإصلاح والإنفتاح على الشكل التالي:
– سن قوانين تشجع على الإستثمار وتحد من التخطيط المركزي، إستجابة لرغبة الرئيس الصيني دنغ شياو بنغ الذي كان قال في العام 1992: «أن الفرق الجوهري بين الإشتراكية والرأسمالية لا يكمن فيما إذا كان هناك دور أكبر من قبل التخطيط أم من قبل السوق».
– إعطاء المزيد من الصلاحيات للمناطق ذات الحكم الذاتي خاصة في المناطق الريفية والزراعية؛ إضافة إلى إصلاحات جذرية في قوانين تملك الأراضي الزراعية والمجمعات الصناعية.
– توظيف الإستثمارات الأجنبية لخدمة الإقتصاد القومي والسيطرة على جانبي العرض والطلب وتحقيق متوسط نمو سنوي في القطاعين الزراعي والصناعي يبلغ 5%.
– تعزيز التطور العلمي والتكنولوجي في مجالي التعليم والتصنيع، والحد من الزيادة السكانية عبر سياسة الطفل الواحد للعائلة الواحدة.
– البدء في إقامة صناعات تخدم الدفاع الوطني وتسليح الجيش ذاتيا وتفعيل قوانين حماية البيئة.
■ واصلت الصين سياستها رغم أنها رصدت العديد من الأخطاء في تقييمها للخطتين الخمسيتين السابقتين، فسعت إلى تعديل سياساتها وقدمت خطتين خمسيتين جديدتين (1986-1995) إستوعبتا تلك الأخطاء، خاصة تلك المتعلقة بالإستثمارات الأجنبية وضرورة توجيهها نحو الإهتمام بالتنمية المجتمعية جنبا إلى جنب مع التنمية الإقتصادية. وتمثلت السياسات الجديدة بـ:
– تنظيم الإستثمارات الأجنبية والإهتمام بالإستثمارات التي تستقدم التكنولوجيا الحديثة من الخارج، والتي ترافقت مع سياسة إرسال الطلبة إلى الجامعات الغربية لدراسة التخصصات، التي يمكن الإستفادة منها في عملية الإصلاح.
– تعميم نظام التعليم الأساسي لمده 9 سنوات.
– التمسك بمزيد من الإنفتاح والإندماج العالمي وزيادة التجارة الخارجية بنسبة 35% .
■ تركت هذه السياسات آثارا سلبية على الإقتصاد الصيني خاصة لجهة إرتفاع معدلات التضخم وزيادة الأسعار، لكن الحزب الشيوعي الصيني تمكن من السيطرة عليها، رغم أنها تزامنت مع بداية ظهور مؤشرات عالمية خطيرة ساهمت فيما بعد في إنهيار الإتحاد السوفياتي. وكان يمكن لهذا الإنهيار، أن يقود إلى ما يماثله على مستوى الدولة الصينية في ظل حملات واسعة، من قبل منظري الرأسمالية، أعلنت إنتهاء الإشتراكية وإنتصار الرأسمالية؛ لكن الصين واصلت طريقها مستوعبة تداعيات الزلزال الكبير الذي حدث في الإتحاد السوفياتي لناحية ضخ المزيد من برامج الإصلاح، فجاءت الخطتان الخمسيتان الثامنة والتاسعة (1991-2000) بإعطائهما الأولوية للقضاء على الفقر والإسراع في بناء نظام المؤسسات الحديثة وإقامة«إقتصاد السوق الإشتراكي»، لتنقلا الصين من بلد يعيش أزمات متعاقبة في ظل أوضاع إقتصادية ومجتمعية صعبة، إلى بلد بلغت معدلات النمو فيه 11%.
■ إستندت السياسة الجديدة، وفقا لما يقوله الحزب الشيوعي الصيني إلى ثلاثة عناوين:
– إصلاح النظام الإقتصادي بشكل جذري بغرض تطوير القوى المنتجة، ما كان يعني إدخال أدوات رأسمالية إلى المجال الإقتصادي الصيني، والإستعانة بشرائح من البورجوازية للمساهمة في عملية البناء الإقتصادي.
– الإستناد إلى نظام إقتصادي جديد عبر التعايش ما بين قيم ومفاهيم إقتصاد السوق، بمعايير ومواصفات النظام الليبرالي الرأسمالي، مع إبقاء السيطرة والإشراف للحزب الشيوعي الصيني، وأطلق على هذا المفهوم الجديد «إقتصاد السوق الإشتراكي».
– التمسك بسياسة الدولة الأساسية للإنفتاح على العالم الخارجي، والإستفادة من كافة المكاسب الحضارية التي يبدعها المجتمع البشري.
■ تبعا لذلك، جاءت القرارات التي إتخذتها القيادة الصينية بدءاً من العام 1978 لتعتبر بنظر البعض إنقلابا على الخيارات الفكرية والطبقية، وعلى التوجهات الأيديولوجية لدولة يقودها حزب يعلن تبنيه للماركسية. فقد قادت السياسة الجديدة إلى الحد من سيطرة جهاز الدولة المركزي على النشاط الإقتصادي، حيث تم إقرار إصلاحات أدت إلى تغييرات كبيرة على مستوى الملكية والإنفتاح على الأسواق العالمية ودخول الإستثمارات الأجنبية نتيجة إقرار سلسلة من الحوافز، وهو ما مهد الطريق لدخول الرأسمالية من الباب الواسع، رغم رفض الحزب الشيوعي والقيادة الصينية لمثل هذا التوصيف، الذي يتناقض مع واقع يقول أن هذه السياسة الإقتصادية التي إتبعت، تعتبر ممراً إجباريا لنهضة الصين، خاصة وأنها تتم تحت إشراف مباشر من الحزب الشيوعي الصيني.
ومهما إختلفنا في توصيف هذه السياسات والخيارات، إلا أننا في الوقت نفسه لا نستطيع إغفال حقيقة النقلة الكبيرة التي حدثت خلال الأربعة عقود الماضية. لقد كانت ثورة على مستوى كل شيء، تمخضت عن ولادة عملاق سياسي وإقتصادي أخرج شعبه من براثن الفقر والتخلف معتمدا بذلك على نظرية وفكر يرتبطان بخصوصية حضارية وتاريخية، وجرأة في نقاش النظرية وإقتراح التعديلات والتطويرات التي تتناسب مع الواقع العالمي، لكن دون التنازل عن ثوابت الطبقة العاملة والشعب■
(5)
ما هي الإشتراكية ذات الخصائص الصينية؟ وعلى ماذا تعتمد؟
■ يجيب الباحثون الصينيون بأن الصين تمسكت بطريق الإشتراكية بخطوات ثابتة، معتمدة على النظريات وممارسات «الإشتراكية ذات الخصائص الصينية»؛ ووفقا لدستور الحزب، فإن «الحزب الشيوعي الصيني يتخذ من الماركسية – اللينينية، وأفكار ماو تسي تونغ، ونظرية دنغ شياو بينغ حول «سياسة الإصلاح والإنفتاح»، وأفكار«التمثيلات الثلاثة» لجيان زيمين، وأخيراً أفكار شي جين بنغ، دليله المرشد في العمل، وهدفه النهائي تحقيق الشيوعية». علماً أن أفكار «التمثيلات الثلاثة»، كما طرحها أمين عام الحزب الأسبق جيان زيمين، إنما تنطلق من توزيع طبقات المجتمع إلى ثلاث قوى إجتماعية: العمال، والفلاحين، والرأسماليين، ما يستتبع تمثيل هذه القوى، بما يستوعب أيضاً مصالحها في مختلف مؤسسات الدولة، وكذلك – وإن بصيغ مختلفة – في الحزب.
■ فكرة «الإشتراكية بالخصاص الصينية» تعتمد بشكل أساس على ما سبق ذكره. وبالتالي فإذا كان دينغ شياو بنغ رائد الإصلاح والإنفتاح، فإن جيان زيمين هو صاحب فكرة التعايش والتعاون والتكامل، ما بين طبقات المجتمع من خلال نظرية «التمثيلات الثلاثة» التي وإن كانت تؤكد على مركزية الحزب الشيوعي الصيني في الإدارة والإشراف على القطاعات الإنتاجية المختلفة، إلا أنها في الوقت ذاته فتحت الباب أمام تساؤلات حول الهوية الطبقية للحزب الشيوعي، خاصة بعد أن سمح لشرائح من الطبقة البورجوازية الإنضمام إلى عضوية الحزب، وهناك بعض المعطيات الرقمية تقول أن هذه الفئة باتت تمثل اليوم داخل الحزب أكثر من 20% من عضويته، وهي نسبة عالية في حزب قام على فكرة الصراع الطبقي..
■ أمام هذا الواقع يمكن إختصار التحفظات المعبر عنها من قبل «الرافضين والمشككين» والحريصين أيضا، ببعض الأسئلة؛ أولها: أن دستور الحزب الشيوعي الصيني يعتبر أن الحزب يمثل مصالح كل الشعب الصيني، ونحن نعلم حجم التناقض والتعارض الكبير بين مصالح الطبقة العاملة ومصالح الرأسماليين، وفي ظل وجود أكثر من 70 مليون صيني يعيشون تحت خط الفقر، إضافة إلى الفروقات الكبيرة في مستوى المعيشة وتناقضات واضحة بين المناطق المتقدمة والمناطق الفقيرة، وكذلك بين الريف والمدينة. فكيف يمكن التوفيق بين مصلحة العمال والفلاحين ومصلحة الرأسماليين؟
ثاني هذه الأسئلة: أدت سياسة الإنفتاح إلى ظهور إتجاهات فكرية وقوى طبقية جديدة في الصين، فهل لدى الحزب الشيوعي الصيني القدرة الكافية على إستيعاب هذه التحولات ومواكبتها والإستمرار في قيادة الصين لفترة زمنية طويلة؟
وثالثها حول ما ورد في دستور الحزب في بند العضوية: بأن كل صيني بلغ الثامنة عشرة من العمر، من العمال والفلاحين وأفراد الجيش والمثقفين والعناصر المتقدمة من سائر الفئات الإجتماعية، له الحق أن يتقدم بطلب الإنضمام إلى الحزب الشيوعي الصيني، وأن يخدم الشعب بكل أمانة وإخلاص، وأن يكون على إستعداد لتقديم أي تضحية شخصية، ويكافح طول الحياة في سبيل تحقيق الشيوعية. فهل المقصود بالفئات الإجتماعية الأخرى فئات وشرائح رأسمالية؟ واذا كان الأمر كذلك، فكيف يستقيم الأمر بأن فئات رأسمالية سوف تعمل من أجل إعلاء راية الشيوعية وسوف تناضل وتضحي من أجل إنتصار الشيوعية ومبادئها؟
■ مثل هذه الأسئلة باتت روتينا بالنسبة للمسؤولين الصينيين الذين يعتبرون أن التحدي هو أن يقود الحزب الشعب الصيني بمختلف قومياته وأن يتحدوا في سبيل بناء دولة إشتراكية، قوية وديمقراطية ومتحضرة، إنطلاقا من كون البناء الإقتصادي هو المحور الذي يجب أن يبنى عليه كل شيء، وإغتنام الفرصة للتعجيل بالتنمية وتنفيذ إستراتيجية النهوض بالوطن إعتماداً على العلوم والتعليم، وإستراتيجية تقوية الوطن إعتماداً على الإكتفاء والتنمية المستدامة، وتظهير وإبراز دور العلوم والتكنولوجيا بإعتبارهما أساس تطوير القوى المنتجة، والإعتماد على التقدم العلمي والتكنولوجي لرفع نوعية العاملين، ودفع التنمية الجيدة والسريعة للإقتصاد الوطني. وكل هذا في إطار الإلتزام بما ورد في دستور الحزب لجهة التشبث بالطريق الإشتراكي ودكتاتورية الشعب الديمقراطية وقيادة الحزب الشيوعي الصيني الماركسية – اللينينية، ومقاومة الليبرالية البورجوازية خلال كل عملية بناء التحديث الإشتراكي.
■ كأي ظاهرة إجتماعية، فقد كان لسياسة «الإصلاح والإنفتاح» نتائج إيجابية وسلبية، ومنها عدم التوازن الإجتماعي والفروقات الإقتصادية، حيث حصلت بعد الإنفتاح الكثير من التغييرات على الصعيد المجتمعي، فظهرت طبقات وشرائح إجتماعية جديدة من أصحاب المهن الحرة والشركات والمؤسسات الخاصة، وتجاوزت تطلعات المجتمع الصيني قضايا الكساء والغذاء إلى تطلعات جديدة تطول إشباع الحاجات الروحية من ثقافية وقيمية وإهتمامات شخصية الخ.. لذلك نحن نعترف، كما يقول الصينيون، بالتباين بين الطبقات، لكن لا يمكن لمجتمع أن يتطور إلا في ظل تعددية إجتماعية (أي طبقية) تلتقي فيما بينها على أولية إعلاء المصلحة العامة فوق أي إعتبار.
■ تعتمد الإشتراكية الصينية، وفقا للباحثين الصينيين على ثلاث ركائز أساسية: الطريق، منظومة النظريات، والنظرية الإشتراكية. وبهذه الركائز الثلاث التي تتمحور حولها الممارسات تتقدم الإشتراكية عبر التجارب المتكررة:
– الركيزة الأولى، وهي الطريق، فإنها تعني التمسك بقيادة الحزب في كل شيء، منطلقين بذلك من واقع الصين، والتمسك بخيار الإنفتاح الإقتصادي وتطوير العدالة الإجتماعية وبناء الصين كبلد ديمقراطي حديث، غني وإشتراكي، وتحرير القوى المنتجة وتطويرها، وتحقيق التنمية والرخاء لجميع أبناء الشعب تدريجيا؛ وكل هذا إنطلاقاً من أن الصين مازالت في المرحلة الأولى من الإشتراكية، حيث يجري العمل على تطويرها على جميع المجالات.
– أما منظومة النظريات (الركيزة الثانية) فتتمثل بالتمثيلات الثلاثة، ونظرية دينغ شياو بنغ والتمسك بأساسيات النظام السياسي القائم على منظومة متكاملة، من مجالس الشعب إبتداءً، مروراً بالتشاور السياسي مع الأحزاب الأخرى تحت قيادة الحزب الشيوعي، وإنتهاءً بنظام الحكم الذاتي في الإقاليم والإدارة الذاتية للسكان على مستوى القاعدة.
– أما النظرية الإشتراكية (الركيزة الثاثة) فتعني المركزية، وهي المرشد للعمل والتمسك بالمباديء الأساسية للإشتراكية العلمية ومواءمتها مع حقائق الخصوصية الصينية.
■ في هذا السياق يقول مدير عام إدارة غرب آسيا وشمال أفريقيا تشاو ويدونغ: «أن الإصلاح هو الثورة الثانية في الصين، والتحديات هي بنجاحنا في الإنتقال من المدن إلى الريف، ومن الساحل إلى الداخل، من الإقتصاد الموجه إلى إقتصاد السوق، ومن الإنغلاق إلى الإنفتاح في كافة الأوجه. وبعد نحو 40 عاما على «سياسة الإصلاح والإنفتاح»، فإن الإنجازات المحققة تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني كانت منقطعة النظير».
■ لكن رغم كل الإنجازات المحققة، هناك مظاهر سلبية أبرزتها هذه السياسة التي قادت أيضا إلى بروز مشكلات وتحديات لا تنكرها القيادة الصينية على كل حال، لكنها تحاول إما التعايش معها أو الحد من تأثيراتها. فقد تراجع دور القطاع العام الذي تمتلكه الدولة إلى 35%، فيما زادت ملكية القطاع الخاص عن 50%، الأمر الذي دفع بالكثير من الخبراء إلى طرح تساؤلات حول مستقبل الصين وخياراتها السياسية والإقتصادية والفكرية. إضافة إلى ذلك، فهناك أكثر من 70 مليون صيني ما زالوا يعيشون تحت خط الفقر، وعلى الدولة أن توفر أكثر من عشرة ملايين فرصة عمل سنويا، ناهيك عن إتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وبين المناطق المتقدمة والمناطق الفقيرة، وبين الريف والحضر (المدينة)، وغيرها من التحديات.
■ ويبدو أن القيادة الصينية على مستوى الدولة والحزب تعرف أين تسير وتدرك ما الذي تفعله، وما هو الثمن وما الذي تريده من الخطط التنموية التي يتم وضعها وتقييمها باستمرار.. فعدد الطلاب الصينيين في الخارج زاد عن 540 ألف طالب. ولأول مرة زاد عدد الطلاب العائدين إلى الصين عام 2015 عن الذين غادروا للدراسة في الخارج. وهذه قضية هامة يعول عليها من قبل القيادة الصينية للإستفادة مما يتيحه «الخارج» من «منجزات ومحاسن الليبرالية».. وهي مسألة يبدو أنها تتم بتوجيه من قيادة الحزب الشيوعي التي تسعى لتعميم التنمية على مستوى جميع القطاعات البشرية والإقتصادية والتجارية والعمرانية، وأيضا على مستوى الصحة والتعليم والبنى التحتية وغيرها من قطاعات يمكن الإستثمار بها■
(6)
معطيات رقمية
■ بعد تسع خطط خمسية إمتدت لنحو خمسين عاما (1953 وحتى نهاية القرن العشرين)، تكون الصين قد نجحت في تحقيق أولى أهدافها المتمثلة بالقضاء على الفقر وتأمين المسكن والملبس للصينيين، لا بل تحقيق أهم إنجاز إقتصادي تاريخي لم يسبق له مثيل، مكّن الصين من تصدر قائمة الدول الأسرع نموا،ً فدخلت القرن 21، وهي دولة ذات بنى إقتصادية وإجتماعية قادرة ليس على تحقيق التنمية في الصين بنسبة عالية فحسب، بل وأن تكون قاطرة التنمية للإقتصاد العالمي..
فخلال أربعين عاما تمكنت الصين من تحقيق إنجاز إقتصادي يتفق معظم الإقتصاديين على وصفه بالمعجزة. وهذا الإستنتاج يأتي على خلفية تكهنات العديد من متابعي الشأن الصيني على المستوى الإقتصادي والسياسي وعلى مستوى النخب الفكرية الشيوعية واليسارية وغيرها، الذين تنبأوا بانهيار الصين سياسياً على مستوى الحزب والدولة، وإقتصادياً على مستوى السياسات والبرامج الإقتصادية والإجتماعية؛ غير أن النتائج جاءت لتقدم واقعاً مغايراً لدرجة أن بعضهم بات يتحدث على أن الصين قد تكون قادرة خلال العقود القادمة ليس على الإرتقاء بأوضاعها السياسية والإقتصادية فحسب، بل حتى على لعب دور متميّز وفائق الأهمية على مستوى القيادة الكونية.
■ فما الذي حققته الصين خلال هذه المسيرة الطويلة؟
– منذ إنطلاق مسيرة الإصلاح وإدخال إصلاحات إقتصادية قائمة على «نظام السوق الإشتراكي» في العام 1978، أصبحت الصين أسرع إقتصادات العالم نمواً، كما أصبحت أكبر دولة مصدرة في العالم، وثاني أكبر مستورد للبضائع. ونما الإقتصاد الصيني المعتمد على الإستثمار والتصدير 70 مرة، وأصبح أسرع الإقتصادات الكبرى نمواً في العالم.
– عندما أقرت سياسات الإصلاح كان الناتج المحلي الإجمالي للصين 155 مليار دولار أمريكي إرتفع في العام 2017 ليصل إلى 12.7 تريليون دولار، وهو ما يمثل حوالي 17% من إجمالي الإقتصاد العالمي، لتحتل الصين المرتبة الثانية عالميا، فيما وصل معدل مساهمة الصين في النمو الإقتصادي العالمي إلى حوالي 30%.
– توسع الإقتصاد الصيني بنسبة 6.9% في العام 2017، وسار على تلك الوتيرة للمرة الأولى منذ سبع سنوات. وبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي نحو 13 تريليون دولار أمريكي في العام 2017.
– نمت حصة الناتج المحلي الإجمالي الصيني في حجم الإقتصاد العالمي بين عامي 2013 و2016 من 12.5% إلى 14.8%، وحقق الإقتصاد الصيني خلال 4 سنوات متتالية معدل نمو بـ 7.2%، بما يفوق معدلات نمو إقتصاديات أمريكا والإتحاد الأوروبي واليابان، التي نمت على التتالي بـ 2.1%، 1.2%، و1.1%.
– بلغ إحتياطي الصين من النقد الأجنبي أكثر من 3 تريليون دولار (3.140 مليار دولار بالتحديد)، وتأتي الصين في المرتبة الأولى عالميا، وثالثة من حيث حجم الإستثمار الأجنبي المباشر فيها، وسادسة من حيث الإستثمارات الخارجية.
– شهدت الصين تجديد وبناء 6.796 كم من الطرق السريعة، وبناء 2.182 كم من خطوط السكك الحديدية فائقة السرعة، وزيادة كابلات الألياف البصرية بـ 705 كم. إضافة إلى بناء أكبر شبكات الطرق السريعة والسكك الحديدية وشبكات الإتصالات في العالم.
– تهيمن الدولة في الصين، على الصناعات الإستراتيجية (مثل الطاقة والصناعات الثقيلة)، ولكن المؤسسات الخاصة (30 مليون شركة خاصة) تساهم بحصة وافرة من الناتج المحلي الإجمالي.
– 4 من أكبر 10 شركات في العالم هي شركات صينية. منها الأولى عالميا شركة بتروتشاينا (أغنى شركة نفط في العالم)، وفي المرتبة الثالثة البنك الصناعي والتجاري الصيني (أغنى البنوك في العالم من حيث القيمة)، وفي المرتبة الخامسة تشاينا موبايل (أكثر الشركات العالمية للإتصالات قيمة)، وفي المرتبة السابعة تشاينا كونستركشن بانك.
– إرتفع عدد العمال من 50 مليونا عام 1978، إلى ستين مليونا في عام 1992، وإلى 120 مليونا في عام 2003، ثم إلى 210 ملايين في عام 2008، وإلى 280 مليونا في عام 2017. وفي نهاية عام 2016 بلغ حجم القوى العاملة الصينية 776 مليون شخصاً، أي ما يفوق إجمالي عدد سكان أوروبا. وناهز عدد خريجي الجامعات الصينية الـ 7.95 ملايين خريج.
– إرتفع متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي من 165 دولارا (1978) إلى أكثر من 8 آلاف دولار أمريكي (2016)، مع توقعات بأن يتجاوز 15 ألفا في عام 2021.
– تراجع عدد الفقراء من 755.8 مليون فقير سنة 1990 إلى 25.1 مليون فقير سنة 2013، أي أن عدد الذين تخلصوا من الفقر بلغ تقريبا 730 مليون إنسان خلال 23 سنة.. واليوم تبلغ نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر 10% من السكان (مقابل 64% في 1978). وتعتزم الصين تخفيض عدد الفقراء من سكان المناطق الريفية بما يزيد عن 10 ملايين نسمة عام 2018، ومساعدة 2.8 مليون نسمة من الفقراء عبر إعادة توطينهم في أماكن جديدة.
– تعتبر الصين المستهلك الأكبر في العالم للطاقة رغم أنها تعتمد على الفحم لتغطية حوالي 70% من إحتياجاتها من الطاقة، ما أدى إلى تلوث هائل في المياه والهواء (تمتلك الصين 20 من بين 30 مدينة الأكثر تلوثاً في العالم).
– الصين ثاني دولة بعد الولايات المتحدة بالنسبة لحجم الإنفاق على البحث العلمي. وقد بلغ حجم إنفاق الصين 300 مليار وفقا لإحصاءات عام 2014.
– تعتبر الصين أكبر ممتلك أجنبي للدين العام الأمريكي، إذ تستحوذ على 801.5 مليار دولار أمريكي من سندات الخزينة.
– حافظت الصين لعدة سنوات متتالية على مركز أكبر دولة مصدّرة للسياح، الذي ناهز عددهم خلال عام 2017 الـ 130 مليون شخصاً، مسجلة زيادة بـ 7% عن العام 2016.
■ أما خطة الصين للمرحلة القادمة، فقد حددتها الخطة الخمسية الـ13 للتنمية الوطنية الإقتصادية والإجتماعية للفترة (2016-2020)، التي تحدثت بالتفصيل عن قضايا النمو وعن القطاعات الإقتصادية المختلفة. وتستهدف الخطة مايلي:
– الحفاظ على وتيرة نمو عالية إلى متوسطة لمضاعفة الناتج المحلي الإجمالي ونصيب الفرد من الدخل بحلول عام 2020 بالمقارنة مع مستوى عام 2010، وتخليص 50 مليون شخص جديد من الفقر.
– تحقيق إختراقات في التكنولوجيات الأساسية بما في ذلك إتصالات المعلومات والطاقة الجديدة والمواد الجديدة والطيران والطب البيولوجي والتصنيع الذكي.
– تطوير الأبحاث العلمية حول نشوء الكون وتطوره، وبنية المادة وأصل الحياة والعقل والإدراك.
– إيجاد مزايا تنافسية جديدة للتجارة الخارجية من خلال تصدير المزيد من المعدات رفيعة المستوى والمنتجات ذات القيمة المضافة العالية.
– مواصلة تطبيق إستراتيجية «صنع في الصين 2025» والتركيز على الإبتكار التصنيعي ودمج تكنولوجيا المعلومات والصناعات .
– الدعم الإستراتيجي للقطاعات الناشئة ورفع حصتها في الناتج المحلي الإجمالي إلى 15%. وزيادة حصة تجارة الخدمات في إجمالي التجارة الخارجية إلى 16%.
– تعميق ثورة الطاقة من خلال إنشاء نظام طاقة كفؤ، حديث ونظيف ومنخفض محتوى أول أوكسيد الكربون.
– تخفيف القيود في قطاع الخدمات أمام رأس المال الأجنبي وتوسيع فرص الوصول إلى الأسواق في مجال الخدمات المصرفية والأوراق المالية، وتشجيع تدفق الإستثمار الأجنبي إلى قطاعات التصنيع المتقدمة وصناعات التكنولوجيا العالية وتوفير الطاقة.
– تسريع بناء «الحزام والطريق» وتوسيع التعاون المربح للجانبين لتشكيل مشهد إنفتاح شامل جديد، وتعزيز التعاون مع المؤسسات المالية الدولية، ودفع تنمية بنك إستثمار البنية التحتية الآسيوي وبنك التنمية لدول البريكس وإدارة صندوق «طريق الحرير» بشكل صحيح.
– زيادة المساعدة للبلدان النامية في مجالات التعليم والطب والإغاثة من الكوارث، وحماية الحيوانات، والتخفيف من حدة الفقر، وحماية الأمن العام الدولي، ومعارضة أي شكل من أشكال الإرهاب■
(7)
إقتصاد السوق الإشتراكي
■ الإنجاز الكبير الذي حققته الصين خلال فترة أربعين عاما لخصه الرئيس الصيني شي جين بنغ في كلمته أمام إجتماع الدورة الـ 17 لمنتدى بوآو الآسيوي في 8 نيسان (إبريل) 2018، حين قال: «لكل عصر وجيل تحدياته ومهامه، وقد قطعت الصين شوطا طويلا، ولكن عليها أن تتغلب على التحديات الجديدة فى طريقها إلى الأمام». وتابع قائلا: «أن الناتج المحلى الإجمإلى للصين حقق نموا بنسبة 9.5% فى المتوسط سنويا خلال الأربعين عاما الماضية، كما حققت التجارة الخارجية للصين نموا بنسبة 14.5% سنويا فى المتوسط.. وتخلص الشعب الصينى من حياة العوز والفقر، ويتمتع حاليا بوفرة فى الإمدادات وحياة مزدهرة إلى حد ما. ووفقا للمعايير الحالية للأمم المتحدة، خرج أكثر من سبعمائة مليون صينى من براثن الفقر، أي أكثر من 70% من الإجمإلى العالمي خلال نفس الفترة».
■ لذلك، لا يمكننا الحديث عن سياسة الإصلاح والإنفتاح دون الإشارة إلى ما يصطلح على تسميته في الصين بـ «إقتصاد السوق الإشتراكي» والذي يعتبر بنظر قادة ومفكري الحزب الشيوعي الصيني أنه الممارسة العملية للإصلاح. والسوق الإشتراكي، وفقا للرئيس الصيني هو «نظام إقتصادي تكون فيه وسائل الإنتاج ذات ملكية عامة، تعمل من أجل الربح في إطار إقتصاد السوق وتستخدم الأرباح في تحديد أجور العاملين.. وأن على الصين جذب رؤوس الأموال الأجنبية والتكنولوجيا المتقدمة، ودراسة التجارب الناجحة في التخطيط والإدارة الإقتصادية في الدول الأجنبية، وتشجيع مؤسسات الدولة للمشاركة في المنافسة بالأسواق العالمية».
■ على المستوى التاريخي، ورغم أن تطبيقات «إقتصاد السوق الإشتراكي» بدأت بعد سنوات قليلة على سياسة الإصلاح والإنفتاح، إلا أن الحزب الشيوعي الصيني لم يعتمدها في أدبياته إلا في أوقات متأخرة. ففي العام 1992 طرح المؤتمر الوطنى الـ 14 للحزب «أن هدف الصين من إصلاح بنيتها الإقتصادية هو إنشاء نظام إقتصاد السوق الإشتراكى». وفى عام 1993 تم إدخال تعديلات على الدستور الصيني باستيعاب السياسة الجديدة للدولة والحزب. أما فى عام 1997 فقد قام المؤتمر الوطنى الـ 15 للحزب الشيوعى الصينى بتطوير صيغ الملكية فى المرحلة الأولى للإشتراكية، مؤكداً أن الإقتصاد ذي الملكية غير العامة هو جزء هام من إقتصاد السوق الإشتراكى.
■ وفقا لذلك، فإن الرهان الصيني هو دائما بالقدرة على جذب الإستثمارات وتشجيع رجال الأعمال على الإستثمار في أي قطاع إقتصادي مع حرية في التنفيذ في الأقاليم الصينية المختلفة، خاصة بعد إقرار مجموعة من القوانين التي أجازت الملكية الخاصة وحمايتها، وأيضا إعفاءات ضريبية على الشركات الخاصة التي بات بإمكانها العمل بحرية أكبر بالإستناد إلى أربعة أنواع من الملكية هي: 1- المشروعات ذات الملكية الخاصة بشكل كامل؛ 2- المشروعات بالملكية المختلطة؛ 3- المشروعات ذات الملكية التعاونية؛ 4- المشروعات المملوكة للدولة بشكل كامل.
■ على خلفية قوانين الملكية الخاصة، فقد كان أمراً طبيعيا تعديل دستور الحزب بهدف السماح للفئات الناشئة إكتساب العضوية الحزبية طالما أن هؤلاء، ووفقا لرأي البعض، لم يعودوا «أعداء طبقيين» كما كان ينظر إليهم في السابق، بل أنهم أصبحوا الآن جزءاً من الخارطة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في البلاد.
وما يدعم صحة هذا التوجه بالنسبة للقيادة الصينية هو النتائج التي أفرزتها هذه السياسة في التعاطي مع شركات القطاعين العام والخاص. فعلى أرضية قوانين الملكية، تمكنت الدولة الصينية في شراكتها مع القطاع الخاص من تحقيق نجاحات كبيرة، نجد ترجماتها الفعلية في الصورة التالية: في عام 1990 بلغ عدد العاملين في شركات القطاع العام 110 ملايين موظف ولم تكن هذه الشركات تدر أرباحا مقبولة؛ بينما اليوم وبنتيجة سياسات الإنفتاح، فقد أصبحت تدر أرباحا للدولة تقدر بحوالي 900 مليار دولار سنويا، منها 300 مليار دولار كأرباح صافية و600 مليار دولار كضرائب متنوعة■
(8)
بناء القاعدة المادية للإشتراكية
بآليات وأدوات رأسمالية؟!
■ لعل السؤال المحوري والمشترك في تقييم سياسة «الإصلاح والإنفتاح» والذي يطرح عادة من قبل أحزاب يسارية شيوعية وغير ذلك هو: هل يمكن حقا بناء الإشتراكية بآليات وأدوات رأسمالية؟ والإجابة على هذا التساؤل تشكل النقطة المفتاحية لنقاش التجربة الصينية، رغم أن القيادة الصينية لا تكترث كثيراً لمثل هذا النقاش طالما أن النتيجة التي يريدها الحزب والشعب تتحقق على أرض الواقع ووفقا للقول الشهير للرئيس الصيني دنغ شياو بنغ: «لا يهم لون القط، إن كان أسودا أو أبيضا، طالما أنه يصطاد الفئران»؛ والمقصود بهذا القول هو: إعتماد تلك الأدوات والآليات التي تقود إلى التنمية على طريق نهضة البلاد، بصرف النظر عن أسلوب (أو نمط) الإنتاج الذي تنتمي إليه هذه الأدوات والآليات.
ومع ذلك، فإن الحزب الشيوعي الصيني وفي كل مناسبة يعلن تمسكه بالماركسية – اللينينية، وقبيل إنعقاد المؤتمر الـ 19 للحزب دعا الأمين العام أعضاء الحزب إلى «دراسة الرأسمالية المعاصرة وعدم الإنحراف عن الماركسية التي، وعلى الرغم من تغير الزمان وتطور المجتمع، فإن المباديء الأساسية للماركسية ما زالت صحيحة. وأي إنحراف أو تخلي عن الماركسية، سيفقد الحزب روحه وتوجهه».
إن إعتماد الآليات الرأسمالية وإدخال أدواتها في البناء الإقتصادي في الصين، ليست سراً، ولا تجري تسللاً، بقدر ما هو نتاج لتوجه واعٍ ومصمم على الإفادة من هذه الآليات لخدمة تطوير القاعدة المادية للإقتصاد. إن قيادة الحزب والدولة في الصين لا تخفي هذا ولا تتكتم عليه، ولا حتى تحاول أن تموهه، بل تعلنه جهاراً نهاراً.
■ إن الصين لا تقبل أن تكون تجارب أخرى في تطبيق الإشتراكية (السوفياتية أو غيرها) هي معيار الحكم على تجربتها في هذا المضمار. وفي هذا الإطار، دائماً يشيرون إلى نقطة غاية في الأهمية بأن مصطلح «الإشتراكية الصينية» لا يشبه ولا يجب أن يشبه أي تجربة أخرى، ومعيار التقييم يجب أن يكون على هذا الأساس. وفي هذه النقطة تحديداً، أي مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية وما تمليه من إستراتيجيات، ينبغي أن يتركز النقاش.
■ وسواء إتفقنا أو إختلفنا مع التجربة الصينية في تطبيق الإشتراكية، ونحن نتفق مع جزء كبير منها، إلا أن هذه التجربة ستبقى موضع إهتمام ونقاش لدى الكثيرين، بعد أن أصبحت جزءا من تراث الحركة اليسارية والثورية العالمية.. فالإضافات التطويرية للتجربة الصينية، وبغض النظر عن الأثر الذي تركته لجهة النقاشات التي تثيرها في إطار الحركة الشيوعية العالمية، فإن هذه التجربة لا يمكن محاكمتها إلا من زاوية فهم واستيعاب الظروف الخاصة بالصين، في إطار متطلبات مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية.
■ إن المرجعية الفكرية للحزب الشيوعي الصيني لا تحددها آليات الإصلاح والإنفتاح التي يفتخر الصينيون اليوم، والعالم بنتائجها، بل دستور هذا الحزب المصادق عليه من المؤتمر الوطني الـ 19 في 24/10/2017 الذي يُشير صراحة في مقدمته إلى أن «الحزب الشيوعي الصيني هو طليعة الطبقة العاملة الصينية، وهو كذلك طليعة الشعب الصيني والأمة الصينية، والنواة القيادية لقضية الإشتراكية ذات الخصائص الصينية، ويمثل متطلبات تطور القوى المنتجة المتقدمة الصينية، ويمثل إتجاه التقدم للثقافة المتقدمة الصينية، ويمثل المصالح الأساسية للغالبية الساحقة من الشعب الصيني». «ويتخذ الحزب الشيوعي الصيني الماركسية – اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ ونظرية دنغ شياو بينغ وأفكار «التمثيلات الثلاثة» الهامة ومفهوم التنمية العلمية وأفكار شي جين بينغ حول الإشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، مرشدا لعمله».
■ وفقا لهذا النص، فإن الحزب الشيوعي لا يمثل الشيوعيين في الصين فحسب، بل أيضاً «المصالح الأساسية للغالبية الساحقة من الشعب الصيني» بكل طبقاته وفئاته الإجتماعية، وبالإستناد لنص المادة الأولى من دستور الحزب الذي يعطي الحق بالإنضام للحزب «للفلاحين وأفراد الجيش والمثقفين والعناصر المتقدمة من سائر الفئات الإجتماعية».. وهذا ما يفسر سماح الحزب لبعض فئات وشرائح الرأسمالية بالإنضمام إليه، بل أن الحزب الشيوعي هو نفسه من يفسر هذا الأمر بالإشارة إلى أنه «في المرحلة الأولية من الإشتراكية، فإن على الحزب الشيوعي أن يقود جميع أبناء الشعب بمختلف قومياتهم في كل البلاد ويتحد معهم للكفاح في سبيل بناء دولة إشتراكية».
■ ومن البديهي القول أنه كلما تقدمت التجربة كلما إزداد النقاش بشأنها، خاصة وأن سياسة الإصلاح بدأت تدخل في «المياه العميقة» كما يقول الصينيون. لكن يبقى التساؤل المشروع بشأن تنامي أدوار الشرائح الرأسمالية التي يزداد نفوذها في المجتمع، بحيث تزداد المخاوف المشروعة من عدم قدرة الحزب السيطرة على الوضع.. وفي دراسة أعدتها جامعة بكين تبين أن 1% من العائلات الثرية في الصين تسيطر على أكثر من ثلث ثروات البلاد، فيما زاد عدد الذين يحملون لقب ملياردير لعام 2015 وبلغ 596 مليارديرا، لتتفوق الصين بذلك على الولايات المتحدة التي إحتلت المركز الثاني بــ537 مليارديراً■
(9)
الصين اليوم .. دولة وحزبا ومجتمعا
1-■ كثيرة هي الأسئلة المطروحة حول النقطة التي يمكن أن تصل إليها الصين في تجربتها وفي نهصتها التنموية. هل هي قادرة على النجاح في تحقيق أهداف خطتها الخمسية الـ 13، وما هو موقف أقطاب الرأسمالية الغربية من النهضة الصينية؟ فبعضهم يعتبر أن المرحلة القادمة ستشهد المزيد من سياسات الإصلاح والإنفتاح على العالم الخارجي وما يتبعها من سياسات إقتصادية توصف من قبل البعض بأنها «آليات سوق رأسمالية»؛ فيما يعتبر البعض الآخر، أن الصين خلال المرحلة القادمة وبعد أن تحقق الأهداف التي أعلنتها في العام 1978، سوف تعود إلى سياسات التخطيط المركزي والحماية، وقد تحد من نظام الملكية الخاصة وغيرها من الإجراءات التي فتحت المجال واسعا أمام أسئلة لا تزال بحاجة إلى أجوبة شافية. [ملاحظة: عند سؤال الكاتب خلال زيارته للصين عام 2016، ما هي المدة التي تم تحديدها في الحزب لإنتهاء مرحلة البناء الإشتراكي، أجاب: إن الفترة الزمنية اللازمة هي مئة عام، تبدأ منذ لحظة تسلم الحزب الشيوعي للسلطة في الصين].
■ بعيدا عن هذه الإجتهادات ومدى إرتباطها بالواقع، فإن الرئيس الصيني شي جين بينغ قدم إجابات كثيرة عن السياسات التي تنوي الصين إعتمادها خلال الفترة المقبلة، وذلك في التقرير المقدم إلى المؤتمر الوطني الـ 19 للحزب الشيوعي الصيني الذي إنعقد في الفترة من 18 إلى 24/10/2017، وتم إستعراض أبرز ما تحقق خلال فترة ما بين المؤتمرين (2012-2017) على مختلف الصعد الداخلية والخارجية وعلى صعيد التطورات داخل الحزب، مقدما إستراتيجية تفصيلية يصح تسميتها بـ «خارطة طريق الصين خلال العقود الثلاثة القادمة»، سنأتي فيما يلي على بعض أهم عناصرها..
■ وفيما قاله الرئيس الصيني: «مع دخول «الإشتراكية ذات الخصائص الصينية» إلى العصر الجديد، ينبغي معرفة أن تغير التناقض الإجتماعي الرئيسي في الصين لم يبدل صحة التقدير للمرحلة التاريخية التي تمر بها الإشتراكية في بلادنا، حيث لم تتغير الظروف الأساسية المتمثلة في أن بلادنا ما زالت وستظل لفترات طويلة من الزمن في المرحلة الأولية من الإشتراكية، في حين لم تتغير كذلك المكانة الدولية لبلادنا كأكبر دولة نامية في العالم. وعليه، لا بد للحزب كله من الإستيعاب الجيد للظروف الأساسية لبلادنا في المرحلة الأولية من الإشتراكية، والإنطلاق الفعلي من أهم واقع وهو المرحلة الأولية من الإشتراكية، والتمسك القوي بالخط الأساسي للحزب وقيادة أبناء الشعب بمختلف قومياتهم في كل البلاد والإتحاد معهم للكفاح في سبيل بناء بلادنا لتصبح دولة إشتراكية حديثة قوية ومزدهرة وديمقراطية».
■ عرض التقرير أبرز ما تم إنجازه خلال خمس سنوات مضت في البناء الإقتصادي، وتحقيق إختراقات هامة في تعميق الإصلاح، والتقدم بخطوات هامة في بناء الديمقراطية وحكم القانون، وإحراز تقدم ملموس في البناء الأيديولوجي والثقافي، وتحسين معيشة الشعب باستمرار، وتحقيق منجزات ملحوظة في بناء الثقافة (الحضارة) الأيكولوجية (أي المتعلقة بتطوير أساليب الحفاظ على سلامة البيئة)، وخلق وضع جديد في تقوية الجيش والنهوض به، وإحراز تقدم إضافي في الأعمال الخاصة بهونغ كونغ وماكاو وتايوان، والتعمق في تخطيط الدبلوماسية شاملة الإتجاهات، ومنجزات ملموسة في مجال إدارة الحزب.
وقال الرئيس في تقريره: «أصبحنا اليوم أكثر إقترابا من تحقيق هدف النهضة العظيمة للأمة الصينية، وأكثر ثقة وقدرة على ذلك من أية فترة في التاريخ. والشوط الأخير من الرحلة هو الأصعب. ومن أجل تحقيق الحلم العظيم، يجب خوض نضال عظيم. والمجتمع يتقدم في حركة التناقضات، وطالما يوجد تناقض يوجد نضال يتّصف بكثير من الخصائص التاريخية الجديدة»، وأنه «لولا قيادة الحزب الشيوعي الصيني لكانت نهضة الأمة وهما من الأوهام».
■ أما النقطة الأهم في التقرير فهي تلك التي وردت تحت عنوان: «تحقيق إنتصار حاسم في إنجاز بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل، وإطلاق المسيرة الجديدة لبناء الدولة الإشتراكية الحديثة على نحو شامل». وقد جاءت «خارطة الطريق الجديدة» وفقا لمراحل زمنية على الشكل التالي: من الآن وحتى عام 2020 تكون فترة تحقيق إنتصار حاسم لإنجاز بناء مجتمع رغيد الحياة بكل ما يتطلبه ذلك من إنجاز للمهام المطروحة أمام الحزب والدولة والمتعلقة بتطوير البناء الإقتصادي والسياسي والثقافي والإجتماعي والبناء الحضاري الإيكولوجي. بعد ذلك تُفتتح مرحلة جديدة من النضال لها ظروفها وخصائصها».
■ وبحسب هذا التقرير أيضاً، بالإمكان تقسيم الفترة من عام 2020 حتى أواسط القرن الجاري إلى مرحلتين:
– المرحلة الأولى من عام 2020 حتى عام 2035، ستشهد خلالها الصين طفرة كبرى في قوتها الإقتصادية وقوتها العلمية والتكنولوجية، وتكون في مقدمة ركب الدول المبتكرة؛ وستكون حقوق الشعب في المشاركة المتساوية والتنمية المتكافئة مكفولة بشكل تام، ويتم بشكل أساسي إنجاز بناء الدولة والحكومة والمجتمع الخاضعة جميعا لحكم القانون، وتصبح النظم في مختلف المجالات أكثر إكتمالا، وتصبح معيشة الشعب أكثر يسرا، وترتفع نسبة الفئات ذات الدخل المتوسط بشكل واضح، وتضيق بصورة ملحوظة الفجوة التنموية بين الحضر والريف، وبين مختلف الأقاليم، وكذلك الفجوة بين السكان في مستوى المعيشة.
– أما المرحلة الثانية فتستمر من عام 2035 حتى أواسط القرن الجاري، ويتم خلالها إنجاز كل عمليات البناء لتصبح الصين دولة إشتراكية حديثة وقوية. وعندئذ، سيتحقق إرتقاء شامل بمستوى الحضارات المادية والسياسية والروحية والإجتماعية والأيكولوجية، وينجز تحديث نظام حكم الدولة والقدرة على حكمها، وتصبح الصين من الدول الرائدة من حيث القوة الوطنية الشاملة والتأثير الدولي، ويتحقق بشكل أساسي الرخاء المشترك لأبناء الشعب جميعا، ويتمتع الشعب الصيني بحياة أكثر سعادة وصحة وسلامة، حيث ستقف الأمة الصينية شامخة وسط أمم العالم بمعنوياتها الأعلى.
■ ومن ضمن الأمور الهامة التي تناولها التقرير هو القسم المتعلق بالأوضاع الداخلية للحزب والذي جاء تحت عنوان: «إدارة الحزب بانضباط صارم على نحو شامل وبشكل ثابت، ومواصلة رفع قدرة الحزب على ممارسة السلطة ومستوى قيادته». وعلى أرضية هذا العنوان وضع الحزب لنفسه مجموعة من المهام ليكون قادراً على مواكبة خارطة الطريق التي ورد ذكرها آنفا، وخاصة لجهة: وضع البناء السياسي للحزب في المقام الأول، تسليح كل الحزب بأفكار الإشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، بناء صفوف الكوادر العالية المزايا والمتخصصة، تعزيز بناء المنظمات القاعدية، المثابرة على تقويم السلوك وتقوية الإنضباط بجهود دؤوبة، إحراز إنتصار ساحق في مكافحة الفساد، إكمال منظومة الرقابة للحزب والدولة، وتعزيز كفاءات ممارسة السلطة■
■■■
خاتمة
■ لم يكن طريق الحزب الشيوعي الصيني مفروشا بالورود، بل خرج من رحم معاناة وظروف كانت كافية لأن تسحق مجتمعات مكتملة، وأن تضعها في حالة من اليأس والإحباط تسد أبواب التفكير والتغيير نحو الأفضل.. لكن الحزب الشيوعي الصيني إمتلك الإرادة والجرأة، فحرر العقل وهيأ المجتمع لمرحلة جديدة من النضال يشكل العمل بتفانٍ محورها. وعلى هذه الأرضية سار المجتمع الصيني في تجربة تحررية وثورية وفكرية وتنموية هامة لا زلنا نتعرف على أسرارها، والأهم من ذلك هو أن هذه التجربة يقف على رأسها حزب لا زال يحمل فكرا إنسانيا غنيا، ستبقى عناوينه الأساسية صالحة اليوم وغداً لحل مشاكل الإنسانية وأسبابها المتمثلة بالجشع والإستغلال والتوحش والقهر والعدوان.
■ التجربة الصينية بكل منجزاتها و إخفاقاتها تشكل اليوم أحد عناوين الصراع الفكري والسياسي داخل الحركة الشيوعية العالمية سواء في كل بلد على حدة أو على الصعيد الأممي. فما أنتجته تلك التجربة الثورية العظيمة من قضايا ومسائل أيديولوجية وسياسية وتنظيمية يشكل اليوم إرثا لا غنى عنه لجميع الشيوعيين من أجل قيادة الثورة في بلدانهم والمساهمة في الثورة العالمية برؤية أكثر وضوحا وبعزيمة لا تلين.
مجموعة من الأسباب ساهمت في هذا النجاح يقع في مقدمتها أن الحزب الشيوعي الصيني لم يضع نفسه في قوالب تفكير جامدة وأعطى نفسه حق التفكير الحر والمتحرر من الجمود والقيود، الأمر الذي مكنّه من طرح تطويرات تأكد صحتها في ميدان التطبيق.
وفي هذا الإطار رفع الحزب الشيوعي الصيني راية «الإصلاح»، وهو عنوان تفرضه طبيعة الحياة ومسارات التغيير؛ بينما الجمود الفكري والسياسي والتنظيمي لا يقود سوى إلى التخلف، خاصة عندما تصبح الأطر الجامدة بمختلف أشكالها السياسية والتنظيمية والفكرية عقبة أمام حالة التطور التي تشهدها المجتمعات. فتجارب التاريخ في مساراته المختلفة تقول: إن لم تأتِ مبادرات الإصلاح والتغيير من داخل المجتمع، فإن ثقل المعاناة سيجعل البلاد مشرَّعة الأبواب أمام كل أشكال التدخلات الخارجية نتيجة إتساع الهوة بين القيادة والشعب.. وقد كانت القيادة الصينية ذات بصيرة نافذة، عندما أدركت هذه المسألة في وقت مبكر، ليأتي الإصلاح السياسي والإقتصادي بمبادرة منها وبإشراف مباشر من الحزب الشيوعي، في رسالة إيجابية ومزدوجة إلى الحزب وجمهوره من جهة، وإلى المستثمرين من جهة أخرى، بجدية القيادة في سعيها نحو التنمية الإقتصادية وتحسين الكفاءة والإصلاح والمنافسة الإقتصادية الصينية في الأسواق الخارجية..
■ إن النظرة العربية تجاه التجربة الصينية قد تكون ما زالت قاصرة عن رؤية أكثر شمولية لهذه التجربة الناجحة والتي لا يمكن إستيعاب دروسها ونتائجها ومسارها المتجانس، إلا من خلال تفاعل عميق وعمل مشترك بين الصين كدولة وحزب وشعب وتيارات مختلفة من جهة، وبين الدول العربية بمختلف مكوناتها السياسية والحزبية والنقابية والإجتماعية من جهة أخرى. ولنحاذر من بناء الوهم على إستيراد النجاح. لأن ما نريده نحن العرب هو ليس نقل التجربة الصينية بنموذجها الغني والفريد، بل الإستفادة من كل تفاصيل وجزئيات وأسرار هذا النجاح والخلفيات الأيديولوجية والحضارية والثقافية التي صنعت جميعها واحدة من أهم الملاحم الإنسانية في مجال التغلب على الذات والإنتصار على الظروف القاهرة.
■ ما كنا نعرفه سابقا عن الصين أنها أكبر بلد في العالم من حيث السكان، وكنا نفهم تاريخ هذه الدولة بأنه نضال شاق ضد قوى الإستعمار الغربي(بريطاني وبرتغالي) ونضال ضد أطماع دول أجنبية ودول مجاورة، حيث خاض الحزب الشيوعي الصيني وحركته التحررية واحدة من أطول الملاحم التي عرفت بإسم «المسيرة الكبرى»، ضد الحزب الوطني «الكومندانغ» إنتهت بانتصار الحزب الشيوعي ولجوء الحزب الوطني إلى جزيرة تايوان، حيث لا تزال الصين تعتبر أن وحدتها لا تكتمل إلا بعودة هذه الجزيرة إلى السيادة الصينية. لكن بعد نحو خمسة عقود، كتبت الصين تاريخ جديد في التنمية وتمكَّنت من تخليص معظم سكانها من الجهل والتخلف والفقر، وحققت معدلات نمو هي الأسرع في التاريخ لتصنع معجزة حقيقية على مستوى التحدي والإصرار على النجاح والتغلب على الأزمات..
■ لكل ذلك، لا يمكن إلا أن نبدي إعجابنا بالسياسة التي يتبعها الحزب الشيوعي الصيني سواء على مستوى الدولة والحزب، أو على مستوى الإستراتيجيات والخطط التنموية التي تسير جنبا إلى جنب مع سياسة مكافحة الفساد وتحديث بنية النظام السياسي وهيكلياته التنظيمية والإدارية، إضافة إلى عملية الإصلاح الشاملة على جميع المستويات في الحزب والدولة والذي سيبقى يشكل تحديا كبيرا وفقا لطبيعة الحياة ومسارات التغيير؛ بينما الجمود الفكري والسياسي والتنظيمي لا يقود سوى إلى التخلف، لأن الأطر الجامدة بمختلف أشكالها السياسية والتنظيمية والفكرية تضحى مع مضي الزمن وبالتراكم، عقبة كؤود أمام حراك المجتمعات■
آذار (مارس) 2018
عضو المكتب السياسي للجبهة
الديمقراطية لتحرير فلسطين