الإمبريالية الأمريكية – رأس حربة العُدْوان على البلدان والشعوب – الطّاهر المُعِز
تقديم:
كَتَبْتُ بعض الدّراسات والمَقَالاَت عن الإمبريالية، منذ حوالي عشر سنوات ولا زِلْتُ أَنْشُرُ من حين لآخر بعض المَقَالات، وكُلُّ نَصٍّ مَنْشُور ومُوَجَّهٍ للعموم يُصْبِحُ مِلْكًا للقارئ، ويتعرَّضُ للنقد، سَلْبًا أو إِيجَابًا، وسبق أن وَجَّهَ لي بعض الأصْدِقاء نقْدًا بشأْن التركيز على الولايات المتحدة (الإمبريالية الأمريكية)، منهم من حبَّذَ وضع الولايات المُتَّحِدَة وأوروبا (الإتحاد الأوروبي) والصين وروسيا في نفس الصَّف وفي نفس الدّرجة، ومنهم من حبَّذَ نقد التّدَخُّل العسكري في سوريا “مهما كان مأْتاه” وبنفس الحِدَّة (إيران وحزب الله وروسيا وتركيا وأمريكا وأوروبا وغيرها…)، ومنهم من يرى في التَّرْكِيز على الإمبريالية تَهَرُّبًا من نقد الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي وتَجَنُّبًا للتركيز على الصِّرَاع الطَّبَقِي في هذه البُلْدان…
لقد حاولت في مقالات سابقة إبْراز عُدْوانية أمريكا ومكامن قُوَّتِها، وعزْمها فرض “إرادَتِها” (أي بَرَامِجِها واستراتيجِيَّتِها) على العالم، وكذلك تقديم مصالحها وفرض برامِجِها على حُلَفَائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو) وأوروبا واليابان واستراليا وكوريا الجنوبية وكندا وغيرها، وحاولت إظهار تدَخُّلاتها العسْكَرِيَّة في افريقيا وأوروبا وآسيا وكافة أنحاء العالم، وإبرازَ ما يُمَيِّزُها عن الإمبرياليات الأخرى أو الفارق بينها وبين الإمبرياليات الأخرى…
في هَذِه الورقة، عوْدَةٌ إلى بعض خصائص الإمبريالية الأمريكية، مع التأكِيد على وجهة نَظرِي كَعَرَبي، لأنني لا أستطيع فصل الوضع في المغرب عن الوضع في مصر أو الأردن، ولا يُمْكِنُنِي اعتبار قضية فلسطين كقضية خاصّة بالفلسطينيين، على أن هذه النظرة العربية لا تتعارض مع موقفي الأُمَمِي، ويَتَلَخَّصُ في اعتبار الوطن العربي مُسْتَهْدَف بِشَكْلٍ خاص في أرضِهِ وثَرَوَاتِهِ وحضارته وثقافتِهِ، وفي تَنَوُّعِهِ الثقافي والديني والإثني، وهو مُسْتَهْدَفٌ من قِبَلِ الإمبريالية الأمريكية التي تَدْعَمُ الكيان الصُّهْيوني وتَدْعَمُ الأنظمة العربية الجاثِمة على صُدُورِنا، وهي التي تَقُود العدوان، وَتُعْطِي إشارة الإنطلاق وتقود تحالُفًا عُدْوانيا تَجْمَعُ من خلاله الإمبرياليات الأخرى (أوروبا بشكل خاص) تحت إِمْرَتِهَا، في إطار تنفيذ برنامج الشرق الأوسط الكبير أو الجديد… ولذلك فإن النضال من أجل دَحْضِ هذا العُدْوان هو نِضال تَقَدُّمِي، وكل هزيمة للإمبريالية الأمريكية هي خُطْوَةٌ إيجابية، لكني أعتبر أن تحرير الوطن العربي من الإستعمار ومن الإضطهاد والإستغلال ليس هَدَفًا في حَدِّ ذاتِهِ وإنما هو خُطْوَةٌ نَحو تَحَرُّرِ البشرية من الإضطِهاد القومي والإستغلال الطَّبَقِي، من أجل بناء مجتمعات يُنْتِجُ فيها كلٌّ حسب جُهْدِهِ وَقُدُرَاتِهِ ويحصل فيها كلٌّ حسب حاجته…
خصائص الإمبريالية الأمريكية:
تَتَمَيَّزُ الإمبريالية الأمريكية عن امبرياليات أوروبا واليابان (التي خضَعَتْ جُزْئِيًّا إلى النفوذ الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية) بتنوع الدرسات والأبحاث الإستراتيجية لمُسْتَقْبل الرأسمالية والإمبريالية وللتغيرات المُحْتَمَلة في معظم مناطق العالم، ثم تستخدم قُوَّتَها العسكرية والإقتصادية والإعلامية في سبيل تحقيق أهدافها البعيدة، وحفِظَت الصين (التي كانت يَوْمًا مَا تَدَّعِي الإشتراكية) الدَّرْسَ جَيِّدًا وتحاول التخطيط والعمل على تحقيق أهداف بعيدة المَدَى في عدة مناطق من العالم أيضًا، لكنها لا تملك قوة أمريكا الإقتصادية والمالية والسياسية والإعلامية والعسكرية، وتُحاول تَجَنُّبَ الصِّدام المُبَاشِر مع القوى الإمبريالية التَّقْلِيدِيّة… أمّا روسيا التي وَرِثَتْ بَعْضًا من قوة (وكذلك مشاكل) الإتحاد السُّوفياتي السّابق، فقد خرجت مُنْهَكَة من آثار حرب أفغانستان وأزَمَات نهاية القرن العشرين، ومن أزمة انخفاض أسعار النفط (من 1985 إلى 1990) ومن مرحلة حكم غورباشوف ويلتسين والأزمة المالية لسنة 1998، وغيرها من قضايا الفساد ونهب ممتلكات الدولة وتَقَهْقُرِ المُؤَشِّرات الإقتصادية والإجتماعية وانتشار البطالة والفقر والأمراض الخ، وبذلك انخفضت إمكانيات المنافسة بين الإمبرياليات وهيمنت الولايات المُتَّحِدَة على العالم، ولكنها لم تُحَقِّقْ هذه النتائج بين عَشِيَّةٍ وضُحَاها، بل بدأت الهيمنة منذ دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى والثانية في نهاياتها، بعد تحطيم أسباب القوة لدى امبرياليات أوروبا (فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا) واليابان، ولم تَتَعَرَّضْ أمريكا إلى أي اعتداء أو أي حرب على الأراضي التي أصبحت تُسَمّى الولايات المتحدة الأمريكية (وهي أراضي السُّكّان الأصلِيِّين ممّن يُسَمُّونهم “الهنود الحُمْر”) ولم تتعرض إلى الخراب أبدًا وتطورت فيها الرأسمالية بفضل افتكاك أراضي الشعوب الأصلية صاحِبَة البلاد وبفضل تحطيم القوة المُجاورة (المكسيك) واحتلال 55% من أراضيها وضَمِّها نهائيًّا إلى الولايات المتحدة منذ أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم استغلّت ملايين البشر الذين استجلبتهم بواخرها من افريقيا، واستعبدهم مُزارعوها، ما سَهَّلَ عملية “التراكم الرأسمالي البدائي” ثم عملية تصنيع وتحويل القطن والإنتاج الزراعي إلى إنتاج قابل للتسويق في السُّوق الداخلية الشاسِعَة -في الأراضي التي اسْتَوْلَى عليها المُسْتَوطِنون الأوروبيون بعد تقتيل السكان الأصليين بالجُمْلَة- قبل بدْءِ مرحلة اكتساح الأسْواق الخارجية والتصدير بفضل تطوير الأسطول البحري، بما فيه الأسطول الحربي الذي اعتدى عسكريا على بلدان المغرب العربي منذ بداية القرن التاسع عشر وعلى أسطول المُنافسين (مثل اسبانيا) منذ نهاية القرن الثامن عشر في سواحل كوبا والفلبين والمحيط الهندي والأطلسي، وقد تطورت الرأسمالية الأمريكية بأقَل ما يمكن من الإنفاق فكانت نسبة الأرباح وفائض القيمة عالية جدا فالأرض مجانية والعمال الزراعيون أقنان لا حقوق لهم وعمال الصناعات التحويلية عبيد (غيرُ أَحْرَار) لا يُمْكِنُهُم التفاوض حول العِقْد أو الأجر أو ظروف العمل…
وسائل الهيمنة الأمريكية:
طورت الإمبريالية الأمريكية خلال العقود الماضية (قبل نهاية الحرب العالمية الثانية) أساليب الهيمنة الدّولية مع تأسيس منظمات ذات صبغة دولية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي للإنشاء والتعمير (البنك العالمي حاليًّا) ومنظمات أخرى تطورت على مر السِّنِين مثل تِلْكَ التي أصبحت تُسَمّى منظمة التجارة العالمية والتي تُلْزِم بلدان العالم بتطبيق قراراتها وغيرها من المُنَظّمات الإقليمية، وكذلك حلف شمال الأطلسي، وهو حلف عسكري عُدْواني ما انفك نفوذُهُ يتوسَّعُ بتقهقر قُوة المُنافِسين، وتَدْعَمُ هذه المنظَّمات “الدّوْلِيّة” مُؤَسَّسَات غير رسمية أخرى مُخَصَّصَة لأثرياء العالم (انبثقت عن “وفاق واشنطن 1989) مثل منتدى “دافوس” ومجموعة “بِيلْدِرْبِيرْغْ” (المُغْلَقَة) حيث يلتقي قادة الدول الغنية ورؤساء الشركات الكُبْرى العابرة للقارات (6 من 10 منها أمريكية)، لِتقْرِير مصير العالم، وفْقًا لِما تَقْتَضِيه مصالحهم، وكل ذلك برعاية وإشراف الإمبريالية الأمريكية، مَرْفُوقَةً بالإتحاد الأوروبي وكندا واليابان وأستراليا…
تعمل الإمبريالية الأمريكية على توسيع نطاق هيمنتها ضد مصالح الطبقة العاملة ومنتجي العالم وعلى أكتاف شعوب البلدان الفقيرة وحتى ضد مصالح حُلَفَائِها، وتُخَطِّطُ لذلك على مدى متوسِّط وبعيد المدى، من ذلك الضَّغْطُ على “الحُلَفَاء” في آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا والمحيط الأطلسي، لتوقيع اتفاقيات تبادل تجاري واستثمارات وتأسيس مناطِق “للتبادل الحُر”، وما هو بالتبادل “الحُر” في الواقع بل هي اتفاقيات تهدف القضاء على القطاع العام في القطاعات الحيوية مثل النقل والتعليم والصحة والمياه والكهرباء، وفرض هيمنة الشركات الأمريكية (متعددة الجنسية) على الإنتاج الغذائي والصناعي العالمي وعلى قطاعات الأدوية والمختبرات والإتصالات والتقنية وكافة الخدمات الضرورية، إذ تُعْتَبَرُ شركات مثل “مونسانتو” وكوكاكولا” وماكدونالدز” وول مارت” و”مايكروسوفت” و”فيزر” وغيرها من أهم أدوات الهيمنة الأمريكية ونشر ثقافة الإستهلاك والقضاء على التنوع البيئي وعلى الخصوصيات الثقافية والغذائية، ونشر المواد المُعَدَّلَة وِراثِيًّا، وإخضاع إرادة الشعوب والدول إلى مصالح الشركات الرأسمالية… ويَجْرِي كل ذلك لقطع الطّرِيق أمام أي مُنافَسَة (حتى من الحُلَفَاء) ولِلَجْمِ طُموحات الصِّين ومُحاصرتها حتى في مُحيطِهَا الآسيوي، وقطع الطريق أمام روسيا في محيطها الطبيعي، ومحاصرتها أيْضًا في بلدان الجوار، المُكَوِّنَة للإتحاد السوفياتي السّابق وفي أوروبا الشَّرْقِية وفي البحر الأسود وبحر قزوين وبحر البلطيق، حيث كَثَّفَ حلف شمال الأطلسي من حضوره العسكري ومن المُنَاوَرات الإسْتِفْزَازِيَّة على حدود روسيا ومن إنشاء القواعد العسكرية ومنصّات الصَّواريخ وأجهزة التَّجَسُّسِ، وتنظيم الإنقلابات ضد حكومات وبرلمانات مُنْتَخَبَة (أوكرالنيا)…
“عَقْلَنَة” الهيمنة بواسطة مراكز البحث:
خَطَّطَت الإمبريالية الأمريكية -منذ أكثر من أربعة عقود- لما تُحاول فَرْضَهُ اليوم، أي قبل انهيار الإتحاد السوفياتي وقبل تحول مركز قوة رأس المال من القطاع الصناعي إلى القطاع المالي والخَدَمِي، وإلى قطاع التقنيات والإتصالات، ولا يختلف الأمر بين الحِزْبَيْن الحاكمين في أمريكا، فكان “هنري كسينغر” رمْزًا للسياسة الأمريكية بعيدة المدى ومُسْتَشَارًا خلال فترة حكم الحزب الجمهوري (رتشارد نيكسون 1969 – 1974)، فيما كان “زبغينو بريجينسكي” رمز التخطيط الإستراتيجي ومُسْتَشَارًا خلال فترة الرئيس “جيمي كارتر” من الحزب الديمقراطي (1977 – 1981)، ولئن تَغَيَّرَ اسم الرَّئيس واسم الحزب المُهَيْمِن على المجلس (الكونغرس) فإن نفس المُخَطَّطَات مُتَواصِلَة إلى يومنا، مع بعض التَّحْوِيرات ذات الصِّبْغَة التَّكْتِيكِيَّة التي تقتضيها الأحْدَاث أو عندما تُعَرْقِلُ مُقَاوَمَةُ الشُّعُوب بعض المُخَطَّطَات الأصْلِية أو تُؤَجِّلُ تنْفِيذَها…
خَطَّطَت الإمبريالية الأمريكية منذ 1970 (خلال فترة حكم نيكسون في أمريكا وماو تسي تونغ في الصِّين) للتقارب مع الصِّين وجَرِّهَا إلى تَسْرِيع الخطى نحو الرّأْسمالية ولا يزال “زبغينو بريجينسكي” (رقم اقتراب عمره من التسعين) ينشر مقالاته في مجلة “أمريكان إنترسْتْ”، ويُدَرِّسُ في جامعة “جونز هوبكنز” ووهو باحث في “مركز الدراسات السياسية والدولية” (واشنطن)، ويُعْتَبَرُ “كسينغر” و”بريجنسكي” من أبرز المُسْتشارين والإستراتيجيين الذين استشَفُّوا التغييرات التي حَصَلَتْ خلال العقود الأربعة الماضية، وساهموا في إعادة توجيه السياسة العُدْوانية الأمريكية بما يخدم مصالح الولايات المتحدة ويُقَلِّصُ المُنافسة الأوروبية واليابانية ويَجُرُّ روسيا والصِّين إلى حظيرة الرأسمالية العالمية بِشَكْلٍ واضح وصريح والخروج من مرحلة الإشتراكية ورأسمالية الدّولة إلى هيمنة القطاع الخاص والإنتاج الذي لا يهدِفُ تلبية حاجة الشعب بل يهْدِفُ تَكْدِيس الأرْبَاح والمُضَارَبَة وإثراء فئة صغيرة، نشأت وراكمت الأموال من نهب القطاع العام ومؤسسات الدولة…
فرض الرّأي الواحد والقائد الأوْحَد:
من أهم نتائج هذه الإستراتيجية القضاء على المُنافَسَة بين نِظَامَيْنِ اقتصادِيَّيْنِ وسِيّاسِيَّيْنِ وإحلال الرأسمالية في كل مكان بحجة حرية الإستثمار وتشجيع “المبادرة الحُرَّة” أي رأس المال الخاص، بدل التَّخْطِيط تحت إشراف الدّولة (رأسمالية الدولة) وبَدَلَ الإنتاج حسب الحاجة وتوزيع الإنتاج على المواطنين (مع مَخْزُون استراتيجي)، دون الحاجة إلى الإحتكار أو المُضَاربَة أو وساطات التُّجَّار والمُضارِبين بالقوت والمسكن والدواء والماء والكهرباء وغير ذلك (الإشتراكية، بِاخْتِزال شَدِيد)، ولم تَعُدْ نِسْبَةٌ هامة من الجيل الذي وُلِدَ بعد سنة 1980 يَسْمَعُ أو يَقْرَأُ شيْئًا في وسائل الإعلام المُتَدَاوَلة عن إمكانية وُجُود بدائل للرأسمالية (مثل الإشتراكية والشيوعية)، أو عن قُدْرَة الشعوب على إِلْحَاق الهزيمة بالإمبريالية والإستعمار (مثلما حصل في فيتنام أو في مستعمرات البرتغال في افريقيا)، وتَكَفَّلَتْ وسائل الإعلام بنشر ثقافة الهزيمة والتطبيع مع الإحتلال، من ذلك اعتبار تطبيع الأنظمة العربية -بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية- مع الكيان الصُّهْيوني وضْعًا “طبيعيًّا” لتُصْبِحُ المقاومة أمْرًا عَبَثِيًّا، وليست واجِبًا أو ردًّا طبيعيًّا على الإحتلال، ناهيك عن الإحتلال الإستيطاني الإقتلاعي… كما فرضت الولايات المتحدة على كافة حُلَفَائِها إخضاع مصالحهم لِمصالحها وبذلك قضت أيضًا على المنافسة التي هي من أُسُسِ النظام الرأسمالي، واعتبرت أي منافسٍ خَصْمًا وجب تَرْكِيعُهُ أو محاربته، وبلغ الأمر بالإدارات الأمريكية (جمهورية أو ديمقراطية) التجَسُّسُ على حلفائها في ألمانيا وفرنسا واسبانيا وإيطاليا وغيرها، ناهيك عن الحكومات التي تعتبرها من الخُصُوم مثل البرازيل واليابان أو من الأعداء مثل فنزويلا وكوبا وغيرها… ومِثْلَما تُصْبِحُ مرحلة الإحتكار واندماج الشركات إحدى درجات التطور الرّأسمالي، أصْبَحتْ الإمبريالية الأمريكية بمثَابَةِ الشركة الإحتكارية الأكبر في العالم، لتحتكر أسباب القوة وتقضي على كل منافسة
ما العمل؟
تُمَثِلُ هذه المُعاينة للوضع خُطْوَةً أولى في طريق فِهْمِ ما يَحْدُثُ حولَنا وفي بلادنا (الوطن العربي)، ومن الضَّرورِي معرفة العدو قبل محارَبَتِهِ، والإمبريالية عَدُوٌّ، والإمبريالية الأمريكية رأس حربة العُدوان، والكيان الصهيوني فرْعٌ من الإمبريالية، التي تُمَثِّلُ الأصْل، والأنظمة العربية أداة تنفيذ السياسة الإمبريالية، ولا استقلالية لها، بل هي صنيعة الإمبريالية والإستعمار وأداة تأبِيدِهِ، والطبقات الحاكمة في الوطن العربي (والبلدان المُشابهة) تَخْدِمُ وتُمَثِّلُ مصالح الشركات متعدِّدَة
الجنسية، أمريكية المَنْشَأ (أو ذات المنشأ الأوروبي أو الياباني…)
الخُطْوة الثانِية تتمثل في نشر الوعي والمُقاومة من أجل تحقيق مطالب عاجلة (العمل والحُرية واستقلال القرار الوطني) ومن أجل تحرير المناطق المُحْتَلّة من الوطن العربي وفي مُقَدِّمَتِها فلسطين (وليس جزء من فلسطين) لأن شَعْبَها مُشَرَّدٌ في مُخَيَّمات بلدان الجِوار وفي الشَّتات، وتحرير الجولان ولواء الإسكندرون (سوريا) والأهواز (العراق) وسبتة ومليلة والجُزُر الجَعْفَرِيّة (المغرب) وجزُر تحتلها إيران في الخليج وغيرها من الأراضي مثل أجزاء من سيناء…
تتَطَلّبُ عَمَلِيّة التَّحْرِير صِرَاعًا مع الإمبريالية والإحتلال الصهيوني وكذلك الأنظمة العربية، لأنها جُزْءٌ لا يَتَجَزَّأُ من هذه المنظومة، ولذلك فإن عملية التَّحْرِير مُرْتَبِطَة بطرح بديل لِما هو قائمٌ حاليًّا، ولنا في الجزائر وفي جنوب افريقيا (وغيرها من المُسْتَعْمَرات السابقة) مثال حَيٌّ لما يُمْكِنُ أن تَؤول إليه حركات التَّحَرُّر الوطني، في غياب برنامج اقتصادي واجتماعي بَدِيل، وفي غياب رُؤْيَةٍ واضِحَة وحُلُولٍ لمشاكل المُجْتَمَعات الواقِعَة تحت الإحتلال المُباشر (الإستعمار) أو غير المباشر (الإمبريالية) لكي تَقْتَرِنَ عملية التحرر الوطني بالتحرر الإجتماعي…
يتطلب النِّضال من أجل التحرر الوطني والإجتماعي (الطبقي) في الوضع الحالي التعويل على القوى الذاتية، دون انتظار المعونة الخارجية، نظَرًا لهيمنة النظام الرَّأسمالي بقيادة الولايات المُتَّحِدَة والحلف الأطلسي على الصعيد العسكري والإقتصادي والإعلامي وغير ذلك من المجالات والقطاعات، ونَظَرًا لانعطافة ما تَبَقَّى من “اليسار” الأوروبي نحو دعم الإمبريالية ومُسَانَدَة العدوان العَسْكري الأمريكي الأوروبي الأطلسي على يوغسلافيا وعلى ليبيا وعلى سوريا حالِيًّا ودَعْمِ قطاع كبير من هذا “اليسار” لاحتلال فلسطين، مع بعض الأمل في أن يُصْبِحَ العدو الصُّهْيُوني أقل شراسة، وأكثر “إنسانية”، وهي عواملُ تجعل مُهِمَّة التَّحْرِير أكثر صعوبة، لأن حركات التحرير الوطني كانت تتلقى مُساعدات (مَشْرُوطَة طَبْعًا) من مصر النّاصِرِيّة (الجزائر واليمن) ومن الإتحاد السوفياتي والصين (افريقيا وفيتنام)، ولكن هذه القوى إمَّا اندثرت (الإتحاد السوفياتي) أو انتهت مع وفاة مُؤَسِّسيها (النّاصِرِية مع وفاة عبد الناصر) أو تحولت إلى امبريالية (الصين)، ولذلك فإن نشر فِكْر المقاومة سيضل مُهِمّةً رئيسية خلال السَّنَوات المُقْبِلَة، وأظْهرت تجربة انتفاضات تونس ومصر عدم وجود قوى قادرة على تحويل هذه الإنتفاضات إلى ثورة، أي تحويل وضع ثوري إلى ثورة ناجزة، تُغَيِّرُ طبيعة النظام القائم وتعيد النَّظر في نَمَطِ الإنتاج وفي توزيع ثَمْرَة الإنتاج (الثّرَوات).