الاتفاق الإطار اللبناني ــ “الإسرائيلي”: تعبيد طريق التطبيع؟ – أسعد أبو خليل
هكذا، ومن دون سابق إنذار، أعلنَ نبيه برّي التوصّل إلى «اتفاق إطار» (والعبارة أميركية) بين لبنان والعدو “الإسرائيلي” وبرعاية الوسيط، الذي اسمه أميركا. التوقيت غريب، لكن مقصود، إذ إنه تزامنَ مع موسم التطبيع العربي، الذي أراده دونالد ترامب رافعةً لحملته الانتخابية المترنّحة.
وهل هناك من يهرع لإسعاف حاكم أميركي أكثر من طغاة العرب؟ هؤلاء لو طلب الرئيس الأميركي منهم نقل الكعبة إلى لاس فيغاس لفعلوا طائعين، ولأمروا فقهاءَهم بإصدار طبعات من القرآن تتحدّث عن لاس فيغاس لا عن مكّة. تجاهل توقيت، أو سياق، الإعلان اللبناني غير ممكن، إلّا إذا كان قارئ الاتفاق، أي نبيه برّي، قد تصوّرَ أنّ الجمهور لم يسمع بعد بموسم التطبيع العربي. وقد سُئِل برّي مرّتين في مؤتمره الصحافي (ومؤتمرات وإطلالات برّي الإعلامية من النوادر) عن التطبيع، وفي المرتَيْن، لم يِجب بكلمة عن التطبيع (لا في التنديد ولا في التأييد، مع أنه بعد أيّام من المؤتمر، وفي لقاء مع وفد من «الميادين»، نطق بكلام شاعري ــــــــ مستوحى من أغنية لوديع الصافي ـــــــ عن فلسطين). لكن من حق كلّ حريص على المقاومة، وكلّ حريص على فلسطين، أن يقلق لهذا الإعلان ولأكثر من سبب. ويعرف حزب الله أنّه بصمته، جعلَ من الإعلان ثنائياً، لا فرديّاً من برّي أو حركة «أمل».
أولاً، صحيح أنّه كان هناك استغلال رخيص للإعلان من قبل أعداء المقاومة، ومن قبل التطبيعيّين في لبنان (أي أبواق طغاة الخليج): هؤلاء الذي يقضون الساعات والثواني، في التحريض ضدّ فكرة المقاومة، وفي السخرية منها، تنطّحوا فجأة للمزايدة على الذين أدّوا القسط الأكبر في مقاومة “إسرائيل”. بعض المغرّدين والمواقع التي لا تذكر فلسطين (إلا لتقويض فكرة مقاومة “إسرائيل” أو للسخرية من مقاطعة “إسرائيل”) وجدوا، فجأة، في فكرة الاتفاق تطبيعاً، كأنّ التطبيع يزعجهم. هؤلاء أنفسهم دافعوا عن «داعش» و«النصرة»، وعندما حاربهم حزب الله وطردهم من لبنان، اعترضوا لأنّ الحزب لم يُبِدهم إبادة جماعيّة عن بكرة أبيهم. بعض هؤلاء من الانعزاليّين، أي أيتام جيش الاحتلال “الإسرائيلي” في زمنه في لبنان، والبعض الآخر كان حتى الأمس يقول إنّ لبنان «تعب» (مثل تعب عبد الله بن زايد الذي قاتل الاحتلال “الإسرائيلي” من دون هوادة على مدى عقود) من القتال، على أساس أنّ أيّاً من هؤلاء حمل السلاح يوماً مع مقاومة “إسرائيل”. هؤلاء يريدون التطبيع، لكنّ واجبات المواقع المموّلة خليجيّاً وأوروبيّاً وأميركيّاً تفرض عليهم التعريض اليومي، وعلى مدار الساعة، بحزب الله. لكن ألم يكن حزب الله يتوقّع ذلك؟ هل هو قدّم خدمة مجانيّة لأعدائه في لبنان، كي يزايدوا عليه في المقاومة، وإن كانت المزايدة من هؤلاء ـــــــ بالذات من هؤلاء ـــــــ تحاملاً وتجنّياً ونفاقاً؟ ألم يدرس الحزب الثمن السياسي الباهظ لهذا الإعلان، مثل الثمن السياسي الباهظ الذي دفعه الحزب في سكوته (العملي) عن تهريب المجرم الفاخوري؟
ثانياً، لماذا يقوم نبيه برّي بالتفاوض في هذا الملف بالنيابة عن كلّ لبنان؟ ليست هذه من صلاحيّاته كرئيس لمجلس النواب. ولماذا لم تتم مناقشة الاتفاقية أمام المجلس النيابي، الذي كان يجب أن يصوِّت عليها؟ حتى عهد أمين الجميّل الفاسد (والخاضع للاحتلال “الإسرائيلي”) عرضَ اتفاقيّة ١٧ أيّار الذليلة على المجلس النيابي (ولم يصوِّت ضدّها غير نجاح واكيم وزاهر الخطيب، فقط). ولماذا جرت هذه المفاوضات بسرّية مطلقة، ولم يكن الشعب اللبناني يعلم عن مجرياتها غير ما صدر عن برّي أخيراً؟
ثالثاً، هناك سابقة طائفيّة خطيرة في أن يقوم الثنائي (أمل ـــــــ حزب الله، كي لا نقول الثنائي الشيعي، مع أن الانتخابات النيابية الحرّة في لبنان تثبت أنّ الثنائي يحوز على نحو ٩٥٪ من تأييد الشيعة، لكن من دون الانتقاص من شعبيّة إبراهيم شمس الدين الذي نال ٦٢ صوتاً في الانتخابات الأخيرة، ما جعله ممثلاً أوحد للشيعة عند دول الغرب) بتقرير هذا الملف؟ أليس هناك من سابقة قد تعود على كلّ الشيعة، وعلى كلّ لبنان، بالأذى؟ إنّ ربط هذا الملف حصراً بالشيعة يجعل التفاوض حول حقوق وطنيّة فدراليّاً لا وطنيّاً. ولو أدّت هذه المفاوضات إلى كارثة، فإنّ الذي سيتحمّل مسؤوليّتها، ظلماً، كلّ الشيعة، كما أنّ هناك من يحمّلون الموارنة، كلّ الموارنة، المسؤوليّة عن الجرائم الانعزاليّة في الحرب (وليد جنبلاط من أبرز هؤلاء). ليس هناك من طائفة وطنيّة أو طائفة خائنة. أمزجة الطوائف تتغيّر، وهي كلّها تغيّرت عبر السنوات، بالنسبة لمقاومة “إسرائيل” (إما سلباً أو إيجاباً)، لكنّ حَمل هذا الملف من قِبل أكثريّة في داخل طائفة، يحمّل هذه الطائفة وزراً سياسياً لا تستحقّه أي طائفة في حديقة الطوائف اللبنانية. لماذا لم تتشكّل لجنة وطنية جامعة لبحث هذا الملف والتقرير فيه، بدلاً من هذا الحصر المركزي والطائفي؟ لماذا الالتزام بتمثيل جامع (أو ناقص) للطوائف، حتى في لجنة انتخابات ملكة جمال البطّيخ، فيما حصر الثنائي ملف التفاوض به حصراً؟
رابعاً، استهلَّ برّي كلمته بالاستشهاد باتفاقية الهدنة، وتحدّث عن «مشاركة كولونيل أميركي». هذا غير صحيح. لم يكن للحكومة الأميركية أي دور في اتفاقية الهدنة بيننا وبين العدو، وهي جرت تحت إشراف حصري لوفد من الأمم المتحدة. قد يكون الأميركي هذا، حضر بصفته موظّفاً في الأمم المتحدة، لكن لماذا جرى ذكر ذلك؟ لماذا يحاول هذا الاتفاق استلال شرعيّة من اتفاقية لم ترَ من العدو “الإسرائيلي” إلا التجاهل والاحتقار؟ لقد خرق العدو اتفاقية الهدنة، منذ الخمسينيات (بالرغم من النوايا الحسنة التي أبداها جيش فؤاد شهاب نحو العدو وممارسة جنود الجيش للعبة كرة القدم مع جنود جيش الاحتلال في الجنوب) ومارس كلّ أنواع العدوان التي تحظّرها الاتفاقيّة. ماذا بقي من الاتفاقية، بعد غزوات واحتلالات لبنان من قبل العدو؟ وما زلنا نتشبّث بها، بعدما أثبت لبنان أنّ أفعل طريقة للتعاطي مع جيش الاحتلال، هي على أرض المعركة؟ اتفاقية الهدنة ماتت، ويجب على لبنان أن يعتبر نفسه في حلٍّ منها، خصوصاً أنّ العدو يحتلّ أراضي لبنانية ويحتفظ بجثث مقاومين لبنانيّين (من الحزب الشيوعي وغيره).
لماذا يقوم نبيه برّي بالتفاوض في هذا الملف بالنيابة عن كلّ لبنان؟ ليست هذه من صلاحيّاته كرئيس لمجلس النواب
ثم، هل يريد لبنان الرسمي، بالفعل، أن يذكّرنا باتفاقية الهدنة؟ لم تنشرْ الدولة اللبنانية محاضر اجتماعات لجنة اتفاق الهدنة، لكنّ المراجع العبرية نشرت مقاطع منها وهي ستقبّح تاريخنا ما حيينا. هذه بعضٌ منها في أولى الاجتماعات: من البدء كانت الأجواء ودّية خلافاً لكلّ مفاوضات الهدنة الأخرى، و«أبلغ الوفد اللبناني “الإسرائيليّين” (بصورة غير رسمية) أنهم ليسوا في الحقيقة عرباً، وأنهم جُرّوا إلى المغامرة الفلسطينية رغماً عنهم»، (كيرستن شولتز، «دبلوماسية (إسرائيل) السرّية في لبنان»، ص. 28). وأضاف أعضاء الفريق اللبناني (بقيادة المقدّم توفيق سالم) أنّهم «لأسباب داخلية لا يستطيعون التصريح بكراهيّتهم للسوريّين». (راجع بني موريس، «1948: تاريخ أول حرب عربية ـــــــ (إسرائيلية)»، ص. 378). (توفيق سالم هذا أصبح عميداً في ما بعد، وله شارع باسمه في رأس النبع). وكان الوفد اللبناني يتحدّث مع “الإسرائيليّين” بصورة «غير رسمية»، ثمّ يطلبون شطب كلامهم من المحضر. هل نريد تكرار هذه المهزلة؟ قد يُقال، لا هناك عقيدة وطنية للجيش. لا، هذا كلام بيانات وزارية ولا صحّة له. ثبتَ بالقاطع أنّ العقيدة الوطنية للجيش، ارتبطت فقط بمرحلة قيادة إميل لحّود للجيش وبحقبة رئاسته. هل سنعيد الكرّة ويكون لنا توفيق سالم آخر؟ هل سيكون حسين العبد الله (الرئيس السابق للمحكمة العسكريّة، والذي أخلى سبيل المجرم الفاخوري) رئيساً للوفد اللبناني في المفاوضات؟
خامساً، ما سبب توكيل الحكومة الأميركية بدور الوسيط؟ يقول نبيه برّي، في مؤتمره، إنّ الأمم المتحدة «تردّدت وتمنّعت» إزاء طلب وساطتها من لبنان، وإنّها هي طلبت مساعدة أميركا. هذه رواية لا يمكن أن تُصدَّق لمن يعرف بديهيّات عمل الأمم المتحدة. لا يمكن للأمم المتحدة أن ترفض طلب وساطة، خصوصاً في منطقة مشتعلة مثل الشرق الأوسط. قد يكون أنّ الحكومة الأميركيّة هي التي منعت الأمم المتحدة من لعب دورها، لكنّ هذا يجب أن يزيد من رفضنا لطلب دور الوساطة منها. ثمّ، هل الحكومة اللبنانية فتّشت بين كلّ الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وعددهم ١٩٣، وقرّرت بعد سعي أنّ أعدلَهم وأنزههم هي الحكومة الأميركية؟ ميشال عون وصف الوسيط الأميركي بـ«النزيه». هذا الطلب اللبناني لوساطة بينه وبين أوثق حلفاء أميركا في العالم، ينمّ إمّا عن سذاجة أو عن جهل بمبادئ العلاقات الدولية، أو هو ينمّ عن مقاصد خبيثة. إذا كانت الحكومة الأميركية هي التي ضغطت على لبنان، فعليه الاعتراف بذلك، لأنّ ذريعة رفض الأمم المتحدة تسهّل كشف بهتانها. هل يظنّ لبنان أنّ الحكومة الأميركية ـــــــ التي تلتزم قانوناً وجهاراً بمصلحة “إسرائيل” وتفوّقها العسكري والنوعي على كلّ الدول العربيّة، بما فيها حليفاتها في الخليج ــــــــ ستفصل بين نهجها الصهيوني المنحاز، منذ عام 1948، وبين حكمها كوسيط؟ في أيّ مفاوضات عربية ـــــــ “إسرائيلية”، لعبت أميركا دور الوسيط النزيه؟ من أيّ تجربة مفاوضات عربية، قرّر الحكم اللبناني أنّ أميركا ـــــــ وليس غيرها ــــــــ هي الصالحة للعب دور الوسيط بيننا وبين عدوٍّ نال في كلّ عدوانها ضدّنا تأييداً وتمويلاً أميركياً؟
سادساً، تحكم الحكومة الأميركية على أكبر حزب لبناني، بأنّه حزب إرهابي ويجب إنهاؤه من الوجود. أليس هذا سبباً لمنعها من الحكم على أي مسألة لبنانية؟ لا ترى أميركا، ولم ترَ، في لبنان إلا مصلحة “إسرائيل”، فما بالك عندما يكون الموضوع نزاعاً بين لبنان و”إسرائيل”؟ عندما طلبت الحكومة الأميركية من الجيش اللبناني إرسال كتيبة من الجيش إلى كوكبا، في عام 1978، وتعرّضت الكتيبة لقصف من ميليشيا سعد حدّاد، وأجبرتها على الانسحاب، كان موقف الحكومة الأميركية «المحرج» (بحسب وصف السفير ريتشارد باركر) فعلَ «اللاشيء» (راجع مقالة السفير ريتشارد باركر التفصيلية، «كوكبا وتعقيدة الجنوب اللبناني: ذكريات شخصية، 1977-1978»، «ميدل إيست جورنال»، خريف 1996). هل الحكومة الأميركية، اليوم، أقلّ انحيازاً من تلك في عام 1978؟
سابعاً، إنّ البيان الذي تلاه نبيه برّي كان إطار الاتفاق الرسمي، وهو باسم الحكومة الأميركية، وبالنيابة عن الحكومتَيْن اللبنانية و”الإسرائيلية”. أي أنّ لبنان، من دون اعتراض، وافق على أن تنطق الحكومة الأميركية المعادية للمصالح اللبنانية كافة باسمه، وباسم حكومة العدو. لا بل إنّ الصيغة (لحدّ الساعة، لم تسرّب أي من الحكومات الثلاث النصّ الإنكليزي الرسمي لهذا الاتفاق، وهذا ليس بالشأن العابر لأنّ الترجمات تفصل بين المعاني، كما نعرف من النص الإنكليزي للقرار 242 والنص الفرنسي ـــــــ الذي ترفضه حكومتا أميركا و”إسرائيل” منذ عام 1967) تعبّر عن حكومتَيْ لبنان و”إسرائيل”. وتتمّ الإشارة إلى حكومة “إسرائيل” بكل احترام، كأنّ بيننا وبينها وئام وتفاهم تام. حتى في نصوص من هذا النوع (ما اسم مستشاري الفريق اللبناني في القانون والعلاقات الدولية؟ أم هذا سرٌّ آخر؟)، كان يمكن للبنان أن يصرّ على تضمين النص تحفّظاً، من نوع: إنّ الوفد اللبناني يتحفّظ على وصف الحكومة “الإسرائيلية”، وهو يعتبر أنّ الحكومة “الإسرائيلية” ودولة “إسرائيل” كياناً غاصباً ودولة محتلّة. وكان يمكن للوفد اللبناني أن يلحظ، ولو في الشكل، أنّه يربط موقفه من الصراع العربي ــــــ “الإسرائيلي” بقضيّة فلسطين. حتى اتفاقيّة الهدنة (وكان لبنان فيها في موقف ضعيف عسكري خلافاً لليوم حيث يتمتّع لبنان للمرّة الأولى في تاريخه بقوّة عسكريّة رادعة) لحظت قضية فلسطين. إنّ إطار الاتفاق هذا، يُخرج لبنان من موقف «الحلّ الشامل»، الذي كان الموقف اللبناني التقليدي، قبل اتفاقية 17 أيار، وبعدها. هذه تسوية منفردة، على طريقة الدول العربية المُطبِّعة.
ثامناً، يذكر الاتفاق «التجربة الإيجابية للآلية الثلاثية». ما هو الإيجابي في الآلية الثلاثية في اجتماعات الناقورة الجارية؟ عند كلّ خرق “إسرائيلي” للحدود اللبنانية، يصدر عن قيادة الجيش البيان نفسه، وبالصيغة نفسها، ويقول: «وتتمّ متابعة الخرق مع قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان». هذه الجملة باتت نكتة غير مضحكة على مواقع التواصل، وهي تُظهر قيادة الجيش ـــــــ الجيش الذي يريده الغرب بديلاً وحيداً عن مقاومة لبنان ـــــــ بموقف الضعيف والخائف. وماذا تعني، في الواقع، عبارة «متابعة الخرق»؟ كيف تتمّ المتابعة. ثمّ ما هو الإيجابي في اجتماعات الناقورة؟ ماذا أنتجت، و”إسرائيل”، كعادتها، نسفت تفاهم نيسان؟ هذه اللقاءات تستمرّ، بالرغم من خروقات العدو اليومية، وفي كلّ مرّة يصدر عن الجيش اللبناني البيان نفسه عن أنّ الوفد اللبناني طالب الجانب “الإسرائيلي” بالانسحاب من الأراضي المحتلّة ووقف الخروقات. أي أنّ قيادة الجيش تنتدب وفداً عنها لمطالبة شهرية للعدو للاستجابة. متى يفقد الجيش اللبناني صبره؟ متى تصبح هذه المسرحية الهزلية شنيعة وطنية يجب وقفها؟ إلّا إذا كان النجاح أميركياً و”إسرائيلياً”، لأنه يكسر حدّة مقاطعة لبنان ل”إسرائيل”. وقد زلّ لسان قائد اليونيفيل، قبل أكثر من سنة، عندما ذكر أنّ الاجتماع تناول السلام بين لبنان و”إسرائيل”، وهذا لم يرد ذكره في بيان قيادة الجيش. من الذي يكذب علينا؟
تاسعاً، يقول برّي، وتقول صحافة لبنان، إنّ المفاوضات ستكون غير مباشرة. لقد أثرتُ هذا الموضوع بشأن اجتماعات الناقورة من قبل، واعترضتُ على حفلات السمر بين الجيش اللبناني وبين وفد العدو، ما أدّى إلى إحالتي من قِبل وزير العدل، آنذاك، سليم جريصاتي، إلى محكمة عسكرية، بعد تحريض مباشر من قبل محطة «الثورة» والحرية، «إل.بي.سي». وكان أن ردّت جريدة «النهار»، في مقالة لرضوان عقيل، نفى فيها أن تكون المفاوضات مباشرة لأنّ طاولة المفاوضات هي على شكل حدوة حصان. بهذا التعريف للمفاوضات غير المباشرة، فإنّ مجرّد وجود صحن حمّص أو مكسّرات بين الوفد اللبناني و”الإسرائيلي”، يجعلها مفاوضات غير مباشرة. لكن «ذا نيويورك تايمز» كشفت، قبل أسبوع، ما لم يكن الشعب اللبناني يعرفه عن تلك المفاوضات: أنّها بدأت بالفعل غير مباشرة (حيث لم يكن الوفد اللبناني و”الإسرائيلي” يتخاطبان) إلى مفاوضات مباشرة، حيث يتبادل الطرفان الحديث مباشرة، ومن دون الاستعانة بوفد الأمم المتحدة. ثمّ، إذا كانت الدولة اللبنانية واثقة من موقفها، فلماذا لا تنشر صوراً ومحاضر عن هذه الاجتماعات، خصوصاً أنّ أوّل وفد لبناني إلى مفاوضات الهدنة ارتكب الخيانة، بالتعريف الدستوري؟
عاشراً، البند السادس في اتفاق الإطار هو بند تطبيعي صريح، إذ يقول إنّ الحكومة الأميركية ستساعد في «تأسيس جوّ إيجابي وبنّاء مع الطرفَيْن والمحافظة عليه». ما هو هذا الجو الإيجابي والبنّاء غير التطبيع، الذي كان قد بشّر به قائد اليونفيل في تصريح عن لقاءات الناقورة قبل سنة؟ هل يريد لبنان ـــــــ أي لبنان ـــــــ أن يؤسّس لجوٍّ إيجابي وبنّاء مع الدولة التي تحتلّ أرضه (وأراضي عربية أخرى، ومنها فلسطين ـــــــ هل سيذكرها الوفد اللبناني، أم أنّ الوسيط الأميركي النزيه سيعتبر الكلمة بذيئة وضارّة بالأجواء الإيجابية؟).
حادي عشر، ما تفسير العبقرية اللبنانية في الشروع بمبادرة ذات انعكاس دولي في آخر أيام إدارة أميركية؟ ما الحكمة في الحديث مع الإدارة الأميركية ويفصلنا عن موعد الانتخابات أيّام فقط؟ الجواب ببساطة، أنّ التوقيت أميركي أراده جاريد كوشنر كإضافة إلى عملية التطبيع العربية، وكلام مايك بومبيو وديفيد شينكر لم يترك شكّاً حول ذلك. وهم أعلم من لبنان بحكم وساطته ـــــــ النزيهة والمحمودة ــــــــ بين لبنان و”إسرائيل”.
ثاني عشر، سَلسَل نبيه برّي أسماء المبعوثين الأميركيين الذين تولّوا التفاوض على هذه الملف، وهو لم يلاحظ على الأرجح أنّه كان يقرأ في قائمة عتاة الصهاينة، الذين شكّلوا عبر السنوات أصوات العداء ضد لبنان والعرب في واشنطن. هو بدأ بذكر اسم فريدريك هوف، وهذا من الصهاينة المتعصّبين الذين أجّجوا لغزو أميركي لسوريا، على غرار الغزو الأميركي للعراق. هذا الذي يريده نبيه برّي مُبارِكاً لمفاوضات بيننا وبين العدو؟ أم ديفيد شينكر خرّيج الذراع الفكرية للوبي “الإسرائيلي”، والذي كان على مدى سنوات يدعو إلى استعمال الجيش ضد المقاومة في لبنان؟
ثالث عشر، تحدّث برّي عن دور رئيس «لقيادة الجيش الكفوءة» في إدارة المفاوضات. أين ظهرت كفاءة قيادة الجيش، التي لا تنفك تنال الثناء من كل أعداء لبنان، الذين ـــــــ في الكونغرس الأميركي ـــــــ يتحدّثون عن دعمها في مواجهة حزب الله؟ وأين كفاءة هذا الجيش في التصدّي للعدو “الإسرائيلي”، أو حتى في كشف شبكات عملائه؟ هي منشغلة برصد أكياس البطاط والطحين التي تدخل سوريا (وقد نشرت مديرية التوجيه صورة لسيارة تحمل أكياس بطاطا، كأنّ توقيفها كان عملية نوعيّة يستحقّ الجيش الثناء عليها). وقيادة الجيش تنسّق مع الحكومة الأميركية والبريطانية، لرصد الحدود الشرقية فقط في لبنان، لأنّه لم يأتِ من حدودنا الجنوبية إلّا الخير والحب والحنان عبر العقود.
رابع عشر، هل يجب أن يتولّى المفاوضات مع الحكومة الأميركيّة من يمكن أن تبتزّه الأخيرة بتهم فساد؟
خامس عشر، كيف يمكن أن يعلن برّي هذا الاتفاق، بعد أيام فقط على إصدار عقوبات ضدّ مساعده السياسي؟ هل يثق بالحكومة التي أعلنت الحرب عليه، أم أنّ اتفاقاً قد تمّ بين الطرفَيْن، ولا نعلم به؟
سادس عشر، ربط برّي بين الاتفاق وبين سداد الدين. هل نعلم حقيقة وجود الكنوز النفطية والغازية؟ هل سنملك حقّ التصرّف بها في ظلّ التهديد “الإسرائيلي” اليومي لسيادتنا؟
سابع عشر، كيف نثق بأميركا في المفاوضات حول الحدود، فيما لم يصل لبنان إلى نتيجة في حلّ مشكلة الـ13 خرقاً كبيراً و27 خرقاً محدوداً في ترسيم الخط الأزرق (كيف تفصل دولة ذات سيادة بين الخروق الكبيرة والمحدودة في حدودها؟).
هذه مفاوضات غير محمودة، وتأتي في ظروف غير محمودة. هناك لمشروع المقاومة مناصرون ومناصرات في لبنان (وفي العالم العربي) وهذا الاتفاق يثير قلقاً مشروعاً من قرار سياسيّ غير صائب، ويستهدف المقاومة والسيادة في لبنان. إنّ تحديد الحدود بين لبنان وفلسطين ضروري وحيويّ، لكنّه يأتي بعد تحرير فلسطين، ومع حكومة فلسطينية.
* كاتب عربي
(حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)
al-akhbar