الاتفاق الاماراتي (الاسرائيلي).. إعلان رسمي عربي لانتهاء مسار اوسلو – فتحي كليب
الاتفاق الاماراتي (الاسرائيلي).. إعلان رسمي عربي لانتهاء مسار اوسلو
منذ ما قبل اعلان كيان العدو (الاسرائيلي)، كان المحور الاساسي الذي يحرك الحركة الصهيونية هو مدى قبول المنطقة العربية بكيان غريب احتل ارض عربية وهجّر شعبها في منافي الارض. وشكل هذا التحدي موقعا متقدما في فكر جميع زعماء الحركة الصهيونية، الذين راهنوا، منذ بداية المشروع الصهيوني، على الزعامة العربية التقليدية ودورها في مساعدة اسرائيل على تحقيق اهدافها، ومثال ذلك أن من لعب دورا كبيرا في اخماد ثورة عام 1936 هي هذه الزعامات التي ضغطت، تحت عنوان “اعطاء الانتداب فرصة” من اجل وقف الثورة. وحين اعلن عن قيام دولة العدو وانطلقت مفاوضات الهدنة، كان شرط (اسرائيل) هو اعتراف مباشر من قبل الدول العربية بها، لأن التطبيع كان بالنسبة لها امر بعيد المنال لا يمكن ان يتحقق بسهولة، لذلك لم يكن ذات اولوية بالنسبة لها، رغم انها عادت وطرحته في الكثير من المنعطفات، وكانت في كل مرة تحقق اختراقات بسيطة، لكنها ذات شأن.
مثلّت عملية التسوية التي انطلقت منذ مؤتمر مدريد (1991) هزيمة كاملة للمشروع العربي والفلسطيني: إن لجهة موافقة الاطراف العربية على التفاوض المباشر مع (اسرائيل) وبدون شروط مسبقة، في تراجع عن المواقف التي ظلت سائدة منذ اتفاق الهدنة (1948-1949)، او لجهة فك ارتباط كل جبهة عربية بالقضية الفلسطينية وفك ارتباط المسألة الفلسطينية بالمفاوضات العربية – (الاسرائيلية)، عبر تقسيم قضايا الصراع بين (اسرائيل) وكل دولة عربية على حدا، حيث تكشف مذكرات البعض كيف ان الزعامة الرسمية العربية كانت تتسابق سرا فيما بينها من اجل كسب ود (اسرائيل) وتحين الفرصة المناسبة لعقد اتفاق معها..
كانت البداية مع اتفاق كامب ديفيد وما مثله من اختلال في موازين القوى لصالح العدو، ثم جاءت حرب الخليج الثانية (عام 1990) ودخول القوات الاطلسية والامريكية المنطقة العربية، ثم المفاوضات العربية (الاسرائيلية) التي انعقدت تحت شعار “الارض مقابل السلام”، تلتها مبادرة السلام العربية (عام 2002) التي تبنت التطبيع بشكل رسمي لأول مرة، طارحة شعار جديد هو “السلام مقابل التطبيع”، ثم جاءت الثورات العربية (عام 2010) فطرحت بعضها ثقافة رجعية جديدة تتمثل بالدعوات الى الاهتمام بالاوضاع الداخلية على حساب القضايا القومية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.. وبشكل تدريجي سقطت تحفظات العرب وبقي الموقف الاسرائيلي صامدا.. ففي الشعار الاول سقط السلام وبقيت الارض مع (اسرائيل) وفي الثاني سقط السلام وبقي التطبيع.. وفي المحصلة سقط السلام وبقيت الارض مع(اسرائيل) التي اصبحت تتحكم بتوقيت اعلان التطبيع مع هذه الدولة او تلك..
انطلقت فلسفة عملية التسوية السياسية التي انطلقت من مدريد من ان المفاوضات تنقسم الى قسمين: ثنائي ويتعلق بالدول التي لها اراض محتلة، فلسطين، لبنان وسوريا، ومتعدد ويشمل جميع دول الاقليم التي تتشارك فيما بينها بمجموعة من العناوين كالمياه واللاجئين والتسلح والبيئة وغير ذلك.. وكان المنطق يفترض ان المسار المتعدد يبقى رهينة التقدم في المفاوضات الثنائية، لكن الذي حصل ان الادارة الامريكية مهدت الطريق لعملية التسوية بالضغط على جميع الوفود الاقليمية للقبول بالنظام الاقليمي الجديد الذي يجب ان يكون ل(اسرائيل) دور اساسي فيه. وان الاولوية ستكون، وهنا كانت الخطورة، للترتيبات الاقليمية ولأي مسار ثنائي يحرز تقدم ملموس، والمسارات التي تتخلف وتفشل في الوصول الى اتفاق مع (اسرائيل) يتواصل الضغط عليها حتى تنصاع للشروط الامريكية الاسرائيلية..
كان واضحا ان الولايات المتحدة و(اسرائيل) تسعيان الى الاستفراد بالطرف الفلسطيني والاطراف العربية كل على حدا، وهذا ما كان سببا لأن تكون دعوة ترابط مسارات الحل العربي الثلاثة الفلسطينية، السورية واللبنانية، بل تلازمها، حاضرة في اكثر من بيان للقمم العربية التي كانت تستشعر خطورة الاصرار الامريكي على تحقيق نتائج ايجابية في المسار المتعدد الاطراف (وفي مقدمته التطبيع) بمعزل عن التقدم المحقق في المسار الثنائي.
ظل الموقف العربي صامدا على موقفه بترابط مسارات الحل العربي الى ان نجحت الضغوط الامريكية بالاستفراد بالطرف الفلسطيني، الذي بتوقيعه على اتفاق اوسلو يكون قد مهد الطريق لتسارع عمليات التطبيع بين (اسرائيل) وبعض الدول العربية التي وجدت بتوقع الاتفاق فرصة للتحلل من التزاماتها القومية تجاه القضية الفلسطينية، فسارعت الى فتح ابوابها لزيارات رسمية لوفود (اسرائيلية) على مختلف المستويات، والتي اخذت بالاتساع شيئا فشيئا الى ان اصبح التطبيع امرا عاديا تم ترجمته بمجموعة من العناوين ومنها: عقد بعض اجتماعات لجان العمل في المفاوضات المتعددة الاطراف في عدد من العواصم العربية (تونس، القاهرة، قطر، عمان والمغرب)، واقامة مكاتب اتصال (اسرائيلية) في بعض الدول العربية ورفع دول مجلس التعاون الخليجي المقاطعة غير المباشرة ل(اسرائيل) من الدرجتين الثانية والثالثة. اضافة الى عشرات اللقاءات الثنائية خلال المشاركة في قمم ومؤتمرات دولية او حتى لقاءات غير رسمية تحت ذريعة مناقشة قضايا ثنائية طارئة..
كان الاتفاق الاماراتي (الاسرائيلي) نتيجة مسار طويل من هذه الاتصالات وهو احد ثمار الثقافة الجديدة التي دخلت المنطقة العربية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في اواخر الثمانيات، وما مثله هذا السقوط من تراجع هام لدور وفعل حركات التحرر العربية والعالمية، الذي جعل الولايات المتحدة اكثر تحررا في طرح افكارها خاصة تلك التي تتعلق بموقع (اسرائيل) في المنطقة. ويعود منشأ هذه الطروحات الى سياسيين امريكيين و(اسرائيليين) والتي تتلخص بأن قبول (اسرائيل) عضوا اساسيا في المنطقة العربية والاسلامية لا يمكن ان يحدث الا في حالة النجاح باقناع العرب بخطر آخر يضاهي الخطر (الاسرائيلي)، فتم اختراع “الخطر الفارسي” من مدخل الصراع الطائفي والمذهبي في المنطقة، والادبيات (الاسرائيلية) للعديد من الزعماء والكتاب تحفل بمثل هذه الدعوات..
هذا الاتفاق هو اكبر من عملية تطبيع كانت تسير على قدم وساق بين البلدين، سواء على مستوى الزيارات الرسمية او على مستوى اللقاءات السرية والعلنية، والحديث انه تطبيع من شأنه ان يخفف من هول الجريمة التي ترتكب. انه اتفاق ثنائي شامل يطال كل اوجه الحياة السياسية والاقتصادية والامنية والاجتماعية، بمعنى اتفاق لجعل ارض وبحر وسماء الامارت والخليج واحة (للاسرائيليين) وجسرا للعبور منه نحو العالمين العربي والاسلامي. وما نحن امامه تحالف سياسي بكل ما للكلمة من معنى، وقد يتطور الى ما هو ابعد من ذلك، في مواجهة خطر اخترعته الولايات المتحدة و(اسرائيل) اللتين نجحتا في تقديمه الى الرأي العام باعتباره خطر يتقدم على خطر حقيقي وقائم بشكل جدي هو الخطر الاسرائيلي ليس على الحقوق الفلسطينية فقط بل وعلى مصالح الشعوب العربية وحقها في ارضها وثرواتها..
انه ترجمة دقيقة للسياسة الامريكية في عهد ترامب، الذي انقلب على اتفاق اوسلو بجميع تفاصيله.. هذا الاتفاق افترض انه يمكن الاستفراد بالفلسطيني وتوقيع اتفاق معه اولا، وهذا من شأنه ان يسحب البساط والذرائع من يد بعض العرب الذين لن يجدوا سببا لعدم توقيع اتفاق مع (اسرائيل) طالما ان الفلسطيني قد وقع.. وقد انطلى هذا التكتيك على الكثير من الانظمة الرسمية العربية التي عملت منذ اتفاق اوسلو وما قبل ذلك تحت مقولتين شهيرتين: لا نريد ان نكون ملكيين اكثر من الملك، ونقبل بما يقبل به الفلسطينيون.. وهذا ما حصل عندما تم فك ما سمي مسارات الحل العربي، وذهب الفلسطيني وحيدا في مفاوضات ماراثونية كان من نتيجتها توقيع اتفاقي اوسلو ووادي عربة، وتوقف المساران السوري واللبناني عند النقطة التي وصل اليها..
في عهد ترامب تغيرت صورة وشكل هذا التكتيك، ونتذكر تصريحات غاريد كوشنير عندما قال: “سنمضي بصفقة القرن سواء رضي الفلسطيني ام لم يرض”. اعتمد الاميركون استراتيجية عكسية: نبدأ بالاقليمي الذي قد يشكل بعضا من الدعم للفلسطيني ونهيء الارضية في الاقليم لنوسع قاعدة الضغط على الفلسطيني ونخرج القضية الفلسطينية من عمقها العربي. وهذا ما حصل حين تم العمل على بث ثقافة جديدة تعتبر ان هناك خطرا جديدا يهدد الشعوب العربية الى جانب (اسرائيل) هو الخطر الايراني، وشيئا فشيئا اصبح الايراني هو عدو العرب وافتعلت معه الصراعات والحروب في سوريا والعراق وفي اليمن ولبنان، فيما اصبحت (اسرائيل) صديقة في محور عربي ضد ايران..
كان تتويج هذا المسار ورشة المنامة الاقتصادية التي انعقدت في البحرين في حزيران 2019، والتي كانت الجانب الاقتصادي من صفقة القرن، لكنها لم تخرج بأي اختراقات ذات شأن في الموضوع الاقتصادي، والانجاز الوحيد الذي تحقق هو اختراق في مجال التطبيع.. لذلك فان خطوة الامارات العربية المتحدة هي جزء اصيل من صفقة القرن الامريكية (الاسرائيلية). لأن هذه الصفقة تعمل وفق مسارين عربي وفلسطيني.. فلسطينيا تصفية القضية الفلسطينية بجميع عناوينها، وعربيا فتح الابواب العربية وجعلها مشرعة امام (اسرائيل).. ومثل هذه الامور لا تحدث بين ليلة وضحاها، بل هي نتاج مسار طويل من العلاقات السرية والعلنية بين الامارات و(اسرائيل) لن يغير تفاصيلها كلام المسؤولين الاماراتيين عن استمرار دعمهم للقضية الفلسطينية..
هنا نعود الى مقولة نقبل بما يقبل به الفلسطيني، لكن عندما يجمع الشعب الفلسطيني بجميع تياراته السياسية والاجتماعية والفكرية على رفض صفقة القرن وجميع عناوينها، بما فيها التطبيع، فأي تبرير يمكن ان يقدم من اصحاب التطبيع في ظل غياب التغطية السياسية والشعبية الفلسطينية.. بل ان الكلام عن وقف خطة الضم مقابل الاتفاق ليس سوى اكاذيب اكدها رئيس وزراء العدو نفسه بأنه لم يقدم اي تنازل لجهة وقف او تأجيل هذه الخطة.
ان هذا الاتفاق هو تحالف قائم على رؤية مشتركة اشارت اليها بعض عناوين الاتفاق في شتى مجالات التعاون.. وهو يشكل احد نماذج الانقلاب الفعلي على الصيغة التي استندت عليها عملية التسوية (1991).. لا بل اعتراف بالرواية الصهيونية بشأن فلسطين والصراع العربي والفلسطيني (الاسرائيلي):
– فهل تراجع النظام الرسمي العربي عن مواقفه بشأن ما قالته (اسرائيل) خلال اكثر من قرن بأنها “حمل وديع مستهدفه من (اوباش العرب) لا لشيء سوى لأنها دولة اليهود المكروهون والمنبوذون من امم العالم ولا يريدوا سوى العيش بسلام فوق ارض لا شعب لها..؟
– وهل وافق هذا النظام العربي على مقولة “أن فلسطين، قبل ان يسكنها اليهود، كانت صحراء قاحلة لا شعب فيها” على ارضية نظرية “ارض بلا شعب لشعب بلا ارض”؟
– وهل رضي هؤلاء الحكام بأن عقارب الساعة لن تعود الى الوراء، وان الحل الوحيد لقضية اللاجئين الفلسطينيين هو بأن يتم استيعابهم في الدول العربية، كما استوعبت (اسرائيل) المهاجرين العرب الذين هي من هجرتهم من بلادهم العربية؟
– هل اصبحت رواية (اسرائيل) هي الحقيقة الوحيدة، وهي الرواية التي لا يصدقها (الاسرائيليون) انفسهم بأن جرائمهم التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية كانت عبارة عن دفاع مشروع عن النفس؟
لكل ذلك نقول:
ان القضية الفلسطينية ليست ورقة للمقايضة بين هذه الدولة وتلك، وتخطئ الدول العربية ان هي اعتقدت ان رضوخها للاملاءات الامريكية و(الاسرائيلية) سيبعدها عن دائرة الضغوط والتدخلات الامريكية وسيجنبها تداعيات السياسة الامريكية في المنطقة. بل ان استهداف الشعوب العربية بأرضها وسيادتها وخيراتها وبحقها في اختيار مستقبلها السياسي والاقتصادي، سيبقى ركنا اساسيا من اركان السياسة الامريكية (الاسرائيلية) في اطار سعيهما لبناء نظام إقليمي جديد ل(اسرائيل) اليد الطولى فيه باعتبارها “دولة صديقة”
اذا كان بعض المطبعين ما زالوا يرفعون راية اتفاق اوسلو كتبربر لمسارهم التطبيعي، فان الرد الفلسطيني المباشر يجب ان يكون بسحب هذه الذريعة بشكل فوري وهي الاعلان عن الغاء اتفاق اوسلو ووقف العمل بجميع تفاصيله، وما يعطي هذا الرد شرعية واهمية هو انه مزكّى من المجلس الوطني الفلسطيني ومن اللجنة التنفيذية ومن جميع الفصائل الفلسطينية التي تنادي بالغاء اوسلو وتفاصيله المذلة..
يبدو اننا امام مشهد جديد من مسلسل امريكي سيتبعه العديد من المشاهد، لكن حتما لن يكون التطبيع آخر حلقاته. ورموز النظام الرسمي العربي الذين ساهموا في العديد من مشاهد وحلقات هذا المسلسل دقت الساعة كي يرحلوا بعد ان اقتربت ساعة ظهور البطل الفعلي لهذا العمل الذي ابطاله عشرات الآلاف من الشهداء الذين وحدهم امتلكوا ناصية الحقيقة التاريخية، وهم من سيصنعون النهاية الجميلة لمسلسل ينتظره الملايين من ابناء هذا الشعب الفلسطيني العظيم وهذه الامة التي وان ضعفت عزيمتها احيانا، الا انها ستبقى حية ننتظر نهوضها الحتمي..